"قولوا لأمي ما تبكيش يا المنفي.. ولدك ربي ما يخليهش يا المنفي"، لم تكن هذه الكلمات عادية لأغنية عابرة، بل كانت وصفاً دقيقاً لمأساة عاشها آلاف الجزائريين بعدما طردهم الاستعمار الفرنسي، فوجدوا أنفسهم على أبواب الوطن في رحلة البحث عن وطن "بديل" لم يجدوه لليوم.
أغنية "يا المنفي" المتربعة على عرش تراث الراي الجزائري، تروي بطولة مواجهة الجزائريين لبطش الاستعمار الفرنسي، هذا الأخير الذي فرض عليهم عقوبات استثنائية، كان أصعبها نفي حوالي 2000 أسير قسراً إلى جزيرة كاليدونيا الجديدة الواقعة بالمنطقة الجنوبيّة من المحيط الهادئ، والتي تبعد عن الجزائر بـ22 ألف كم.
تقول الرواية الجزائرية الشعبية الشهيرة إن قصيدة "يا المنفي" أرسلها أحد الأسرى الجزائريين المنفيين في سجون كاليدونيا الجديدة، والتي خاطب من خلالها والدته، ووصف وضعه داخل المستعمرة الفرنسية، حاول بكلماتٍ طمأنةَ أمه على وضعه وهو البعيد عنها بعشرات آلاف الكيلومترات.
الأغنية لا تروي مأساة كاتبها في الجزيرة التابعة للحكم الفرنسي، لكنها ترسم ما عاشه عدد كبير من المقاومين والأسرى الجزائريين الذين تمّ ترحيلهم عقب مشاركتهم في الثورة المقرانية، والتي قادها الحاج الباشاغا محمد المقراني، ضد الاستعمار الفرنسي.
قصة أغنية يا المنفي
ما زالت أغنية "يا المنفي" تُرافق التراث الجزائري لليوم، وتُشكّل جزءاً كبيراً من ذاكرتهم الجماعية والاجتماعية المرتبطة بالاستعمار الفرنسي، إذ يعود تاريخ إصدارها إلى سنة 1871، حين تغنت الأسر الجزائرية بأكبر مأساة في تاريخ الجزائر.
خرجت كلمات الأغنية من رحم المعاناة، وكُتبت في سجون المنفى حيث كان الجزائريون وراء القضبان مكبلين بسلاسل تزن عشرات الكيلوغرامات، كما أنها وصفت الشتات العائلي والعاطفي الذي عاشه المنفيون خارج الوطن.
تعاقب العديد من الفنانين الجزائريين على أداء أغنية "يا المنفي"، لكن اشتهر أداؤها بصوت الراحل المغني الثوري الجزائري الأمازيغي آكلي يحياتن، الذي عرف بتكريس فنه للثورة الجزائرية لمناهضة الاستعمار الفرنسي.
توارثت الأجيال أغنية "يا المنفي"، فغناها الراحل رشيد طه الذي عرف بمشروعه الفني الهادف، بعدها اشتهرت في تسعينيات القرن الماضي بصوت الثلاثي فوضيل والشاب خالد ورشيد طه، وأصبح هذا الجيل يتغنى بها كواحدة من أهم الأغاني الجزائرية.
عرفت الأغنية شهرة كبيرة بعد استقلال الجزائر من الاستعمار الفرنسي، خصوصاً أن لحنها كان أمازيغياً مألوفا في القرى والمداشر في مناطق قبايل الجزائر، وهي المناطق نفسها التي تعرضت لاضطهاد كبير أيام الاستعمار.
في أغنية "يا المنفي" أطلق كاتب الأغنية لقب "السباع" على الثوار بقوله "والسبعة فيها الجدعان.. يا المنفي" ووصف المحكمة العسكرية المليئة بالدرك الفرنسي بقول "كي داوني لتريبينال.. يا المنفي، جدارمية كبار وصغار.. يا المنفي".
بقي صاحب كلمات "يا المنفي" مجهولاً للآن، فكلماتها البسيطة التي وصفت آلام تلك الفترة العصيبة، كان وقعها كبيراً على قلوب سامعيها، وكان قربها من حال العديد من الجزائريين حينها أبقاها خالدة لكن لم يبق سيرة صاحبها.
رحلة 30 سنة
رمى الشيخ محمد المقراني عام 1870 عصاه أمام جموع غفيرة وقال: "سنرمي فرنسا كما أرمي عصاي هذه"، وذلك في ثورة مقرانيّة بقيادته وقيادة الشيخ الحدّاد، هذه الثورة التي سطرت أكبر بطولات ومقاومات التاريخ الحديث، وظهرت خلالها كافة أشكال شجاعة الجزائري في وجه المستعمر.
انطلقت الثورة المقرانية سنة 1830 في كافة أنحاء الجزائر، وكبدت المستعمر الفرنسي خسائر فادحة، وتراجعاً لا يستهان به، مقابل ذلك فرضت فرنسا الضرائب على القبائل المشاركة في الثورة وكانت على ثلاثة أنواع طبقا لدرجة مساهمتها ضد القوات الفرنسية. وفرضت فرنسا 70 فرنك على كل شخص يلفت انتباه المسؤولين في الإدارة الفرنسية، و140 فرنك على كل من تجند وقدم المساعدات للثورة، و201 فرنك على كل من شارك في الحرب وأظهر عداءه العلني لفرنسا.
انتهت الثورة المقرانية بتطبيق سياسة الإبعاد القسري والنفي إلى كاليدونيا الجديدة، ومن الذين طبقت في حقهم هذه السياسة بومزراق المقراني وابنا الشيخ الحداد عزيز ومحمد، ناهيك عن صدور أحكام الإعدام في حق عدد كبير من رموز هذه الثورة.
لم تكن رحلة نفي ثوار الجزائر إلى جزيرة كاليدونيا هينة، فالطريق استغرق حوالي 30 سنة انطلقت من 1873 وانتهت في السنوات الأولى من القرن الذي يليه، ولقي عدد من الجزائريين حتفهم في الطريق، بسبب الجوع والبرد والبعد عن الأهل والأقارب، الذي ضاعف المأساة.
بدأت رحلة ثوار الجزائر من ميناء الجزائر، وسلكت مسارات عدة، كمسار رأس الرجاء الصالح، ومسار قناة السويس، حتى وصلوا قسراً إلى المعسكرات الفرنسية، هناك حيث تم استغلالهم في الأعمال الشاقة والتمييز العنصري، ومنهم من تم حبسه نتيجة عدم تطبيقه لأوامر جنرالات فرنسا.
وحتى حين انتهى الاستعمار الفرنسي وجد أحفاد الجزائريين أنفسهم يبحثون عن هويتهم التي أفقدهم إياها الاستعمار الفرنسي ويشعرون بالحنين لوطنهم وعائلاتهم.
ولأن الفن يحفظ التاريخ، فأغنية "يا المنفي" هي أحد أشكال الفن التي قد تشكل تراثاً وفكراً وقضيّة تذكر ببطولات ومآسٍ طالت الشعوب، وفي نفس الوقت هي اليوم تقوم بدور المحاضرات في قسم التاريخ والنصوص في مجلدات الأرشيف الجزائري؛ فقد أبقت قصة مظلمة النفي حية يرددها المتخصص والعامة ويحزن عند سماعها الجميع.