في زيارته الأخيرة التاريخية للعراق، قال البابا فرنسيس، بابا الفاتيكان وأعلى مرجع للديانة المسيحية المارونية في العالم، إن الزيارة المقبلة له ستكون للبنان؛ نظراً إلى ما يعانيه البلد من مشاكل متراكمة وأزمات تزداد شدّة مع مرور الأيام.
لن تكون هذه الزيارة هي الأولى لبابا الفاتيكان للبنان، فعلى مرّ سنوات طويلة، توافد الحبر الأعظم بزيارات رسميّة، خصوصاً في خضم الأزمات وبعد الحروب وكان لها تأثير على الصعيدين الروحي والسياسي في هذا البلد. فما قصة هذه العلاقة بين الفاتيكان ولبنان تحديداً؟
يعود اسم الكنيسة المارونية في لبنان إلى القديس مارون الذي عاش بأنطاكية في سوريا، وإلى الدير الذي سمي باسمه في سوريا، والموارنة هم المسيحيون الذين تجمعوا حوله واتبعوه، وتعتبر البطريركية المارونية اليوم أكبر طائفة مسيحية في لبنان.
ونتيجة للاضطرابات والحروب التي شهدتها المنطقة بين الطوائف والمجموعات السياسية والدينية، لجأ مارون رفقة جماعات صغيرة من الرهبان السوريين إلى جبل لبنان، ليشكلوا هناك نواة للكنيسة المارونية بلبنان.
خاضت الكنيسة المارونية عدة حروب كما تعرضت لحملات مسلحة، مكنت الحملات الصليبية التي تعرض لها الشرق هذه الكنيسة من ربط علاقات ظلت تتوسع مع الغرب ومع المرجعية المسيحية، إلا أن رحيل الصليبيين عرّض المارونيين لحملات انتقام هاجر على أثرها كثير من أفراد الطائفة إلى الغرب أو قبرص.
العلاقة التاريخية
تعود العلاقة الرسمية بين لبنان والفاتيكان إلى عام 1584، بحسب الأستاذ الجامعي والخبير في شؤون الكرسي الرسولي ناجي القزعلي، الذي أوضح أنه في ذلك العام أنشئت المدرسة المارونية، وهي عبارة عن معهد دراسي أنشئ في روما بعد توحيد العقيدة المارونية بالديانة المسيحية، وكان اللبنانيون المارونيون يذهبون الى هذه المدرسة سنوياً ثمّ يعودون إلى لبنان، ومن أبرز خرّيجيها بحسب الإعلامي السابق في بكركي، جليل الهاشم: الحاقلاني والسمعاني والبطريرك الدويهي. وأنشأ هذه المدرسة البابا غريغوريوس الثالث عشر وفتح أمام تلاميذها أبواب التقدم والدراسة في روما، ما لبثت أن انتقلت إلى لبنان لتعليم المذهب الماروني في لبنان.
ومع إنشاء هذه المدرسة، بدأت عملية التواصل بين المسيحيين الموارنة من خلال إرسال طلّاب إلى روما، إضافة الى رجال الدين المسيحيين، ومنهم موارنة لبنان، كما أنها كانت نقطة التقاء الشرق والغرب، حيث كان الطلاب يُبتعثون إلى روما لدراسة اللاهوت الكاثوليكي.
وبحسب مصادر مطلعة، فإن الصراع الدائر حينها بين الكنيسة الأرثوذكسية المدعومة من روسيا والكنيسة في روما والتي تعتبر المرجعية للكاثوليك في العالم، لذا فإن الموارنة وجدوا من الكنيسة الكاثوليكية مرجعية سياسية يمكن أن تكون داعماً روحياً وسياسياً في هذه المنطقة.
قيام دولة لبنان.. بداية العلاقات السياسية
وأضاف القزعلي، في حديثه لـ"عربي بوست"، أن العلاقات السياسية الرسمية بين الفاتيكان ولبنان بدأت عام 1918، في حين كانت من قبلُ علاقة روحيّة ودينيّة وعلميّة، حيث أنشأوا العديد من المدارس والإرساليات والكنائس والجامعات، أي مباشرة بعد انتهاء الحرب العالميّة الأولى وبعد سقوط الدولة العثمانية التي كان لبنان جزءاً من أراضيها.
في ذلك الوقت، شهد لبنان تدخل الدول الكبرى مثل فرنسا، التي أعلنت الانتداب على لبنان.
ولأنه كان لا بد من تحقيق لبنان لاستقلاله، فقد توجّه وفد من رجال الدّين الموارنة بقيادة البطريرك إلياس الحويّك، مطران مغبغب، من أجل إنشاء الكيان اللبناني كدولة حرّة مستقلّة، من خلال مؤتمر الصلح الذي عقد عام 1919 في العاصمة الفرنسيّة باريس، وحضره ثلاثة وفود من لبنان.
توافد إلى المؤتمر ثلاثة وفود، ولكن اثنين منها لم يحصلا على وعد من قبل الفرنسيين فيما يخص إقامة دولة لبنان الكبير، لكن الوفد الثالث الذي كان بقيادة المطران خوري، حصل على وعد بإنشاء دولة لبنان من الفرنسيين وحمل هذا الوعد إلى بابا الفاتيكان بانيديكتوس الخامس عشر حينها، كما أنه حصل على خريطة لبنان، ويعتبر ذلك -بحسب القزعلي- أمراً تاريخياً، لأن ذلك يعني أن لبنان خظي على مباركة الفاتيكان.
وتابع الخبير في شؤون الكرسي الرسولي، أنّه من هذه اللحظة بدأت العلاقة الروحية والسياسية، لأنّ البابا تعهّد للمرّة الأولى بأنه "سيرعى ويحفظ هذا الوطن، وأن لبنان بما يمثّل من مسلمين ومسيحيين، أمانة لدى الكرسي الرسولي".
ومن هنا، يعتقد الإعلامي السابق في الصرح البطريركي في لبنان جليل هاشم، أنّ الوفد لم يذهب إلى المؤتمر في باريس بقراره وحده، وأكّد أنّ البطريرك الحويّك حينها لن يتصرّف وحده، لذا كان لابدّ من أن يحظي بالدّعم من روما، حيث كان هناك تفاوض بين الجانب الفرنسي والفاتيكاني فيما يخص تحديد مصير لبنان واستقلاله.
يذكر أنه قبيل إعلان دولة لبنان الكبير، كتب البابا بانيديكتوس الخامس عشر على خريطة لبنان التالي: "لقد تحقّقت أماني وتطلّعات اللبنانيين بوطن لهم، ونحن نباركهم". وهذه الخريطة موجودة في أرشيف البطريركية في بكركي، أي بمركز البطريركة المارونية لسائر المشرق ومحل إقامة البطريرك الماروني.
العلاقات الدبلوماسية
توطّدت العلاقات بين السلطة الروحية في روما ولبنان، ليتوجّه أوّل وفد دبلوماسي إلى الفاتيكان عام 1947، أي بعد استقلال لبنان عن الانتداب الفرنسي.
يشير القزعلي إلى أنّ لبنان كان من أولى الدول العربية التي أرسلت سفيراً لها إلى روما، وكان حينها شارل الحلو، الذي أصبح رئيساً للجمهورية اللبنانية عام 1964.
وقال القزعلي، إن "شارل الحلو كان وقتها وزيراً مفوّضاً في روما بكافة الصلاحيات، وهو ما جعله يبني علاقات قويّة مع الكرادلة في الفاتيكان".
وتابع: "أصبحت العلاقة قوية بين لبنان والكرسي الرسولي حتى إن اثنين من الكرادلة الذين بنى معهم علاقة قويّة أصبحا بابوين لاحقاً". وهو ما أدى لاحقاً إلى إعطاء لبنان أهميّة كبيرة، نسبة لمعرفتهم بشخص شارل الحلو الذي عرّفهم بطريقته على لبنان.
أوّل زيارة لبابا الفاتيكان للبنان، والحرب الأهليّة
بعد أن أصبح شارل الحلو رئيساً للجمهوريّة اللبنانيّة، ألحّ على البابا بولس السادس من أجل زيارة لبنان، ليستجيب البابا ويقوم بزيارة تاريخية أولى للبنان، وألقى كلمة حيّا فيها اللبنانيين على جهودهم، مسلمين ومسيحيّين، على بناء وطن يفتخر به العالم أجمع.
في عام 1975، اندلعت الحرب الأهلية بلبنان وحارب المسلمون والمسيحيون بعضهم البعض ممثلين بأحزاب وميليشيات تدعمهم، وكان البابا يوحنّا بطرس الثاني مرافقاً لآلام اللبنانيين خلال هذه الفترة الصعبة، ما جعله يخصّص للبنان، استناداً للقزعلي، 340 خطاباً وكان يردّد في هذه الخطابات عبارة: "أنا لبناني أكثر منكم".
ومع زيادة وتيرة الأحداث في الحرب الأهلية وحدّة الصراع المسيحي-المسيحي، أعلن أنه سيأتي إلى لبنان وسيقيم قدّاساً في منطقة المتحف، حيث كانت نقطة التماس بين المتحاربين، بهدف إعادة وحدة اللبنانيين. لكن ذلك لم يحصل، بسبب تطوّر الأحداث بسرعة.
البابا بولس السادس كان على إصرار دائم فيما يتعلّق بإيجاد حل للبنان، لذا في عام 1995 أقام "سينودس" في روما، أي اجتماع الكنيسة الجامعة، أي كنيسة الفاتيكان وتضم المطارنة والخوارنة من المسيحيين الكاثوليك، وهو اجتماع يقام من أجل لبنان، وشارك فيه مسلمون ومسيحيون لبنانيون، ليأتي عام 1997 إلى لبنان ليوقع على مقرّرات هذا الـ"سينودس".
يوضح هنا جليل هاشم في حديثه لـ"عربي بوست"، أن الفاتيكان، وخلال الحرب الأهلية اللبنانية، كانت تتّبع مبدأ "الدبلوماسيّة الهادئة"، وتعمل من خلال مجلس الأمن بطريقة غير مباشرة، من خلال البطريرك الكاردينال نصرالله بطرس صفير، وكان بطريرك لبنان من عام 1986 وحتى عام 2011.
هنا يشير هاشم الى أهمية الـ"سينودس" وتوقيع مقرراته، ووصفه بأنّه "رجاء من أجل لبنان".
بين إيران والفاتيكان: أين الاختلاف؟
كون إيران تعتبر مرجعاً دينياً للطائفة الشيعية خصوصاً بعد الثورة الإسلامية، وكونها تمثّل الطائفة الشيعيّة في لبنان متمثّلة بحزب الله وأمين عامه السّيد حسن نصرالله وتمدّه بالمال والسلاح ويتّبع الأيديولوجيّة الايرانيّة، كان لابدّ من مقارنة الفرق بين التدخّل الإيراني والفاتيكاني الذي يمثّل المسيحيين الموارنة، وغير الموارنة، في لبنان. لذا، أوضح القزعلي أنه ليست للفاتيكان أي مطامع سياسيّة في لبنان. وشدّد المتحدّث على أنّ الفاتيكان لا تملك أي نفوذ عسكري في لبنان أو في الشرق الأوسط.
كما قال: "لا تريد الفاتيكان تعميم أي ثورة، كما أنّه لا يتدخّل في الأبعاد السياسيّة ولا يؤيّد فريقاً على حساب الآخر"، على حد تعبيره.
لكن فيما يخصّ الخطاب الأخير للبطريرك مار بشارة بطرس الرّاعي، أكّد الإعلامي السابق في بكركي، جليل هاشم، أنّه حتماً تلقّى الضوء الأخضر من روما، لأن مثل هذه الخطابات لا تصدر من بكركي وحدها.
زيارة 2012 والزيارة المترقّبة
قبل أن يقدّم بابا روما، بينيديكتوس السادس عشر، استقالته من مقامه، قام بآخر زيارة له والتي كانت وجهتها لبنان عام 2012، حيث كانت الشعوب العربية تعيش حالة من عدم الاستقرار مع بدء الثورات العربية.
وكما ذكر سابقاً، وعد البابا فرنسيس بعد انتهاء زيارته للعراق بأن زيارته المقبلة ستكون للبنان وذلك، لأسباب عديدة، أهمّها تأكيد أنّ الكنيسة الجامعة ما زالت إلى جانب اللبنانيين، وأنّه سيساعد على بلسمة الجراح العميقة.
وشدّد القزعلي في حديثه لـ"عربي بوست"، على كبر المسؤولية التي يجب أن يتحمّلها المسؤولون اللبنانيون قائلاً إن "على المسؤولين أن يرتفعوا إلى مستوى الأهميّة التي يحصلون عليها من الكرسي الرّسولي".
لماذا يتأثر القادة المسيحيون في لبنان بالفاتيكان؟
يروي رئيس الجمهورية السابق أمين الجميل أن الفاتيكان كان في صلب الدول المقررة إلى جانب الولايات المتحدة الأمريكية في اتفاق الطائف عام 1989، كتتويج لانتهاء الحرب الأهلية التي دامت 15 عاماً.
النقاش الذي دار حينها في أروقة الفاتيكان مع المرجعيات الدينية المسيحية في لبنان، كان يتعلق بعدم السماح بأن يتحول المسيحيون إلى دولة محصورة في القرى والمدن المسيحية، فيتحولون إلى فيدراليات متصارعة.
لذا فإن البابا يوحنا بولس الثاني طلب حينها من البطريرك الماروني، كمرجعية أولى للمسيحيين في لبنان ج، القبول بصيغة الطائف على الرغم من رفض الأحزاب المسيحية الكبرى للاتفاق حينها، فتقسيم لبنان لدويلات وبقاء المسيحيين في دويلة لهم، كان يمكن أن يحصل في مراحل تاريخية قبل الإعلان عن دولة لبنان الكبير، ولم يحصل ذلك.
فإرادة المسيحيين هي في البقاء في نظام تشاركي مع المسلمين، لكن شريطة أن يكون لبنان في منأى عن التبعيات الإقليمية التي تجعل الصيغة التشاركية في خطر.
وبحسب المرجع فإن هذا الدور يتكرر اليوم، حيث وبعيداً عن الإعلام أبلغ الفاتيكان القادة المسيحيين في لبنان رفض البابا فرنسيس أي محاولة للذهاب باتجاه الفيدرالية التي تطرحها بعض القوى المسيحية.
لذا وبحسب المرجع المسيحي، فإن الأحزاب المسيحية تعتبر الفاتيكان مرجعية دينية وسياسية، وذلك كنتيجة حتمية للدور الذي يمكن أن يلعبه الحبر الأعظم بالتأثير على القرار الأمريكي والأوروبي تجاه لبنان وقادته، "البابا يوحنا بولس الثاني سنة 1989 ضغط على الأمريكيين حينها بانتخاب رينيه معوض رئيساً للجمهورية بدلاً من مخايل الضاهر"، أولاً في ظل الوعود التي أطلقتها الفاتيكان بالعمل مع المجموعة الداعمة للبنان على تقديم مساعدات عاجلة للبنان على الرغم من المقاطعة الدولية والعربية التي يشهدها.
وثانياً من حيث القدرة على التأثير بالقرار المسيحي الديني المتمثل بالبطريركية المارونية، التي لا تزال تلعب دوراً سياسياً مؤثراً في اللحظات التاريخية للبنان، خاصة عند الشعور بالخطر على وجود المسيحيين في الكيان اللبناني.
رئاسة الجمهورية بين الفاتيكان وباريس
وفق مصدر دبلوماسي مطلع فإن الوزير جبران باسيل -رئيس التيار الوطني الحر وصهر رئيس الجمهورية- يسعى منذ أكثر من سنة ونصف، لخطب ود الفاتيكان؛ في محاولة لتجاوز البطريركية المارونية في لبنان.
وبحسب المصدر فإن باسيل خلال لقائه رئيس الأساقفة ووزير الخارجية في الفاتيكان، بول ريتشارد غالاغر، منذ سنة ونصف، حاول شرح موقفه من التحالف مع حزب الله تحت عنوان حماية المسيحيين، في ظل الهجمة التي يتعرضون لها منذ منتصف القرن الماضي.
لكن الوزير غالاغر شدد لباسيل على أن الموقف الرسمي للفاتيكان يناقَش مع المرجعية الدينية في لبنان بما يتناسب مع الظرف السياسي.
ويسرد المصدر أن باسيل أوحى لنظيره الفاتيكاني بإمكانية أن يقوم الحبر الأعظم باستقباله، لأنه يسعى للاستفادة من هذه الزيارة بالسياسة في ظل التسابق على إقصاء التيار المسيحي الأقوى من المشهد السياسي بطرق شتى، لكن نظيره وعده بمناقشة الأمر ومن ثم إبلاغه.
تحرك سني باتجاه الفاتيكان
على هامش الواقع السياسي المتأزم التقى السفير الفاتيكاني في لبنان جوزيف سبيتاري رؤساء الحكومات السابقين نجيب ميقاتي وفؤاد السنيورة وتمام سلام، حيث كان اللقاء إيجابياً. وتؤكد مصادر متابعة تفهّم السفير مواقفهم النابعة من تخوفهم من أن تتم مقايضة روسية مع حزب الله تقضي بتخفيف وجوده العسكري في لبنان مقابل زيادة مكاسبه بلبنان على حساب باقي المكونات، حيث أكد السفير الفاتيكاني تخوفاتهم المتناغمة مع مواقف البطريرك الماروني بشارة الراعي، حيث أكد لهم أنه في الساعات المقبلة سيزور الراعي في مقر البطريركية المارونية كزيارة تضامنية وداعمة لمواقفه.
وطرح الرؤساء الثلاثة للسفير هواجسهم حول الوضع في لبنان، وأبدوا استعدادهم لزيارة الفاتيكان وطلبوا موعداً. وحمّلوا السفير رسالة واضحة تطلب من البابا المساعدة على حماية لبنان من الرياح الإقليمية والدولية في المنطقة، وتجنيبه تداعيات أي صفقات أو تسويات قد تحصل. وركزوا على ضرورة حصول تواصل فاتيكاني-أمريكي لحماية لبنان من أي تسويات على حساب باقي المكونات.