مُرتدياً زيَّ عُمال النظافة، ما إن وَلج عبدالله ويكمان القاعة التي ستشهد مناقشة أطروحة شهادة الدكتوراه الخاصة به حتى وقف الحضور مُصفِّقاً؛ تقديراً لدعمه رجالاً ونساء لا يتقاعسون عن تنظيف الشوارع والأزقة، في وقت ينعتهم فيه بعض العامة بـ"الزبَّالين".
فكرة عبدالله جاءت من فترة الحجر الصحي المنزلي، حين اجتاح وَسم "شكراً عمال النظافة"، مواقع التواصل الاجتماعي بالمغرب، تعبيراً عن عظيم امتنان المغاربة لما يُقدِّمونه من خدمات جليلة للمجتمع، وعرفاناً بمجهوداتهم المبذولة من أجل السهر على نظافة المدن والأحياء والحفاظ على البيئة.
رسالتان في دكتوراه
لم تأخذ الخطوة الكثير من تفكير عبدالله، الشاب المغربي والباحث الأكاديمي، فكل ما يُريده هو أن يبعث برسائل شكر وتقدير لنساء ورجال النظافة بالمغرب نظير عملهم واجتهادهم وتعبهم، كيف لا وقد اشتغل رفقتهم لساعات وخَبَر ما يعانونه في تنظيف الأزقة والشوارع، خاصةً خلال الجائحة.
يعود عبدالله بذاكرته إلى سنوات مُراهقته، حين كان يُخبر والديه ومعلميه بأنه سيصبح أستاذاً في البيئة، وهو ما تمكَّن من تحقيقه مؤخراً، إذ ناقش أطروحة حول موضوع "التدبير المستدام للنفايات".
يقول عبدالله في لقائه مع "عربي بوست": "أعشق البيئة منذ حداثة سني، ومرتبط جداً بكل ما له علاقة بها، فقبل سنوات حصلت على إجازة في موضوع (تدبير البيئة)، من كلية العلوم والتقنيات ببني ملال، وعلى شهادة الماجستير من كلية العلوم بمراكش في موضوع (هندسة البيئة في المجال الصناعي)، كما أنني اشتغلت في الميدان الجمعوي كرئيس لجمعية بيئية".
تكريم لعمال النظافة
لم تترد لجنة المناقشة المكوَّنة من أساتذة جامعيين في مبادرة الطالب الباحث، حين استأذنهم في ارتداء الزي، " كان انطباعهم جيداً، شجعوني ولم يمانعوا نهائياً"، يقول الطالب في حديث مع "عربي بوست".
لاقت خطوة عبدالله ثناء وإعجاباً كبيرَين على مواقع التواصل الاجتماعي، وظنه البعض عامل نظافة قبل أن ينفي الأمر، مؤكداً لـ"عربي بوست": "لست كذلك، وشرف لي أن أكون، إلا أنني حالياً أعمل مدرساً بالمرحلة الثانوية".
وسبق أن اشتغل عبدالله مراقباً للجودة بإحدى شركات النظافة، وكان مسؤولاً عن مراقبة سير العمل وجودته، وتمكن من نسج علاقات زمالة وصداقة مع عُمال النظافة لا تزال مستمرة إلى اليوم.
يحكي عبدالله لـ"عربي بوست"، قائلاً: "أُصيب أحد العمال ليلاً وغادر مكان العمل، وبقي عامل واحد فقط يرافق شاحنة جمع الأزبال وكان عليه القيام بجميع المهام وحيداً، حينها لم أفكر كثيراً، سَدَدت مكان المصاب وعمدت إلى المساعدة على جمع الأزبال وإتمام العمل، وكان العامل فرحاً جداً بمرافقتي ومساعدتي له".
بهرجة واستعراض
وعلى الرغم من الترحاب والإشادة التي لاقتها خطوة الباحث المغربي، حيث انتشرت صُوره على مواقع التواصل الاجتماعي، فإن عدداً من المدونين انتقدوا الطالب الباحث، معتبرين الأمر "بهرجةً واستعراضا" لا غير، وأن "عمال النظافة ليسوا مجرد زي تافه، ولا الجامعة مكان للبهرجة".
واعتقد آخرون أن الطالب تفوق في اختيار المقال والمقام لتمرير رسالته، معتبرين أن رمزية الفعل أقوى من الفعل نفسه، خصوصاً في قلب الجامعة وأثناء مناقشة رسالة دكتوراه.
يقول ناشط مغربي على "فيسبوك"، خلافاً لبعض المنتقدين بدعوى أن للجامعة حُرمتها: "الجامعة ليست معبداً ولا ثكنة عسكرية، بل هي فضاء رَحب منفتح على المجتمع، فضاء للتجديد والإبداع والتنوير وتلاقح الأفكار انسجاماً مع فلسفة الحرية الأكاديمية، أو على الأقل هكذا يجب أن يكون".
وأوضح مدوّن آخر، أن البحث العلمي لا علاقة له باللباس، فاللباس مكانه عرض الأزياء، موضحاً أن البحث العلمي في الغرب لا يتعلق برابطة عنق كما في بلدان العالم الثالث، "حضرتُ مؤتمرات علمية دولية ولا يُمكنك التفريق بين الدكتور العالم الباحث والحضور في اللباس حتى يصعد للمنصة أو أن تعرفه من قبل"، ليختم: "في غياب نص قانوني أو تنظيمي يلزم الطالب أو المتخرج بارتداء لباس خاص كما هو الشأن في بعض المعاهد والمدارس العليا، فليس هناك أي مانع، بالعكس هذه رسالة من هذا الدكتور لجميع مكونات هذا المجتمع".
ووسط ردود الفعل المتباينة والآراء المختلطة، تبقى العلاقات الإنسانية أكثر استمرارية ورسوخاً، ولا ينسى عبدالله حين قرَّر مغادرة عمله بشركة النظافة للالتحاق بقطاع التعليم، حيث اختلطت الكلمات بالدموع حين توديعه.