تشن الصين حملة طمس ومحو لكل الدلائل والمعطيات والمعلومات التي من شأنها أن تكشف عن تعرُّض أقلية "الإيغور" في إقليم سنجان لإبادة جماعية، بعد أن عمدت إلى إغلاق حدودها العام الماضي، بحجة فيروس كورونا، وطردت الصحفيين الأجانب الذين نقلوا أخبار الإقليم، وحذفت المعلومات من المواقع الإلكترونية بطول المنطقة، وذلك بالتزامن مع تقييم الحكومات الغربية ما إذا كانت حملة قمع الإيغور وغيرهم من الأقليات في منطقة سنجان بالصين تُمثّل جريمة "إبادة جماعية".
حسب تقرير لصحيفة Washington Post الأمريكية، الأربعاء 17 مارس/آذار 2021، فقد بدأت بكين إبطاء تدفُّق المعلومات من المنطقة في ظروفٍ غامضة، ولطالما أعاقت الرقابة تكوين صورةٍ كاملة عن الأوضاع في سنجان، فيما ترك تقييد المعلومات -وتقاعس المنظمات الحكومية الدولية- البلدان المنفردة لتتخذ أفضل قراراتها بنفسها.
أكثر من مليون شخص
سيُمثّل تصنيف "الإبادة الجماعية" وصمة عارٍ لا تُمحى في إرث الرئيس شي جينبينغ، كما يُمكن أن يحفز الدول الأوروبية على الانضمام إلى الولايات المتحدة في فرض عقوبات اقتصادية، إلى جانب تأجيج دعوات مقاطعة أولمبياد بكين الشتوي عام 2022.
فبدءاً بعام 2017، شنّت حكومة سنجان حملة "إعادة تلقين" سياسية ضخمة ضد الإيغور وغيرهم من الجماعات العرقية، وقدّر الباحثون احتجاز أكثر من مليون شخص في تلك المعسكرات، أُفرِجَ عن بعضهم ونُقِل بعضهم إلى السجن والبعض الآخر للعمل في المصانع.
بينما قال جين بونين، الباحث الذي يُوثّق شهادات الإيغور، إنه لم يسمع بمحتجزٍ سابق واحد نجح في مغادرة الصين عام 2020، إلى جانب القيود الصارمة المفروضة على تواصل سكان سنجان مع العالم الخارجي، مما يعني عدم الحصول على شهادة جديدة من أحد لمدة عام.
في حين قال خبير سنجان الآخر تيموثي غروز، إن ندرة التفاصيل الجديدة دفعته مؤخراً إلى إنهاء مشروعٍ مستمر منذ سنوات، لإحصاء أعداد المحتجزين في سنجان.
غروز أوضح في المناسبة نفسها قائلاً: "الأماكن التي كنت أحصل منها على المعلومات المباشرة تغيّرت منذ انتشار كوفيد، لم تسكت، لكن محتواها تغيّر".
وبات تأثير هذه الفجوة أكثر وضوحاً، إذ يشعر نشطاء حقوق الإنسان بالإحباط نتيجة انجراف المناقشات في اتجاهٍ تاريخي وتجريدي، وفي الوقت ذاته، تستغل المنافذ الدعائية الصينية تداول المعلومات الغامضة والقديمة في الغرب؛ لتُحاول تشويه الأدلة الأوسع نطاقاً.
هل هذه إبادةٌ جماعية؟
يأتي تصنيف "الإبادة الجماعية" الأكثر موثوقية عن طريق محكمةٍ دولية في المعتاد، حيث إن المحققين يمكنهم الكشف عن حقائق جديدة وعقاب المسؤولين المذنبين.
لكن ذلك لم يحدث خلال قمع سنجان، ويعزو النشطاء ذلك التقاعس إلى نفوذ الصين السياسي.
أما بالنسبة للمحكمة الجنائية الدولية، فالصين ليست عضوة فيها، ورفض المدعون العامون بالمحكمة فتح تحقيقٍ، في ديسمبر/كانون الأول، بحجة عدم الاختصاص، وما يزال المحامون الذين يُمثّلون الإيغور يسعون إلى فتح تحقيق في ترحيل الإيغور إلى الصين، بواسطة طاجيكستان وكمبوديا، وهي دولٌ تحت اختصاص المحكمة الجنائية الدولية.
ضغوط دولية
في مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، دعا وزير الخارجية البريطاني دومينيك راب، إلى فتح تحقيقٍ بسنجان في شهر فبراير/شباط، لكن الآمال تراجعت عقب انتخاب الصين مؤخراً للمجلس لمدة ثلاث سنوات.
فيما لا تزال الأسئلة مطروحةً حول الوصول الذي سيتمتع به المحققون الدوليون: إذ يُعرف عن مسؤولي سنجان اصطحاب الزوار الأجانب في جولات منظمة يتظاهرون خلالها أحياناً بأنهم قرويون. وفي يناير/كانون الثاني، جرى اصطحاب المحققين التابعين لمنظمة الصحة العالمية الذين يبحثون أصول فيروس كورونا، بواسطة المضيفين، في جولةٍ دعائية إلى أحد المتاحف.
في الجهة المقابلة، قال وزير الخارجية الصيني وانغ يي، إن الصين رحّبت بزيارة مكتب المفوض السامي للأمم المتحدة لحقوق الإنسان، مضيفاً أنه لم تكُن هناك أي "إبادة جماعية، أو عمل قسري، أو قمع ديني" في سنجان على الإطلاق، وبعد إنكار وجود المعسكرات في البداية، تحوّلت الصين إلى الدفاع عن احتجاز الإيغور ضمن مبادرة لمكافحة التشدد.
مع رفض المؤسسات الدولية التحقيق، بات على الدول المنفردة إصدار أحكامها الخاصة الأضعف بطبيعتها.
إذ وصف وزير الخارجية الأمريكي السابق، مايك بومبيو، الأحداث في سنجان بـ"الإبادة الجماعية" في آخر أيامه بالمنصب. وقد واصلت إدارة بايدن استخدام ذلك المصطلح.
كما أعلن المشرعون الكنديون أنها "إبادةٌ جماعية" في فبراير/شباط، رغم تصريح رئيس الوزراء، جاستن ترودو، بأنّ المصطلح "مشحونٌ للغاية" ويتطلّب مزيداً من التدقيق.
وما يزال التصنيف مثيراً للجدل بين باحثي سنجان في الغرب. فهناك اتفاقٌ واسع النطاق على أن معاملة الصين للإيغور تُمثّل "جرائم ضد الإنسانية"، لكن هناك اختلافٌ حول ما إذا كان هناك دليلٌ كافٍ على أن بكين لديها "نية لتدمير" الإيغور عموماً، وهو الأمر الضروري لتعريف الجرائم بأنها إبادةٌ جماعية أمام القانون الدولي.
البحث عن الأدلة
إن عملية فهم أحداث سنجان يعوقها واقعٌ قاتم: فمنذ بدء حملة القمع، لم ينجح سوى عدد قليل من الإيغور في الرحيل عن الصين والتواصل مع العالم الخارجي.
ويُقدّر بونين، الباحث الذي يجمع شهادات الإيغور، أنه لم يتمكن سوى عشرات الإيغور فقط من مغادرة الصين بعد الاحتجاز في معسكر، فضلاً عن بضع مئات من الكازاخيين من سنجان.
هذه مجموعة شهادات مباشرة من مصدرها، أقل بكثير من شهادات ميانمار مثلاً. وهذا جعل إثبات التنفيذ والنية المنهجية لأخطر الادعاءات، مثل التعذيب والاغتصاب داخل المعسكرات، يُمثّل تحدياً كبيراً بالنسبة لباحثي سنجان.
فيما حاول النشطاء والباحثون الغربيون جمع قطع المعلومات المتوافرة لتكوين الصورة الكبيرة. وأسفر ذلك مثلاً عن صدور تقرير من معهد Newlines Institute في واشنطن الشهر الجاري، حدَّد أدلةً يُمكنها أن تدعم تصنيف "الإبادة الجماعية".
رغم أن هذه الضغوط قد سدَّت بعض الفجوات، فإننا لا نزال لا نعرف كثيراً من الأمور، ومنها ما إذا كانت المعسكرات ما تزال مفتوحة.
وفي ديسمبر/كانون الأول عام 2019، وتحت ضغطٍ دولي، أعلنت حكومة سنجان أنها أغلقت معسكراتها.
إذ قالت مايا وانغ، باحثة منظمة هيومن رايتس ووتش: "هل يُمكننا القول إن كل المعسكرات أُغلِقَت؟ لست واثقةً بذلك تماماً. فهناك كثير من الأشخاص الذين ما يزال مكان وجودهم مجهولاً حتى الآن".
وقد عرقلت قلة الوضوح دعوات النشطاء إلى التحرك. فالبعض يضغط من أجل مقاطعة الأولمبياد تحت شعار "أغلِقوا المعسكرات أو اخسروا المباريات". بينما يتردد الآخرون في تبنّي هذه الدعوات في حال كانت المعسكرات قد أُغلِقَت بالفعل، مما يجعل المطالبات محل جدل.