تعيش عائلات مسيحية عراقية كثيرة في كردستان العراق، أو في الأردن أو أستراليا أو غيرها من الدول، حنيناً إلى وطن ترفض في الوقت ذاته فكرة العودة إليه فيما يعلّقون آمالا بأن يحمل لهم البابا فرنسيس الذي سيزور العراق، في مطلع آذار/مارس 2021، كلمات معزية ومطمئنة، ولو أنهم لا يتعلّقون بالأوهام، في ضوء الأزمات الأمنية والاقتصادية المتلاحقة والتوترات السياسية التي تعيشها البلاد.
وبالرغم من غياب إحصاءات دقيقة عن عدد المسيحيين في العراق بسبب عدم إجراء تعداد سكاني منذ سنوات، يقول وليام وردة، رئيس منظمة حمورابي التي تتولى الدفاع عن الأقليات في العراق، إن هناك حالياً 300 إلى 400 ألف مسيحي في العراق في مقابل مليون ونصف المليون قبل الغزو الأمريكي عام 2003 الذي انتهى بالإطاحة بنظام صدام حسين.
ويأتي ذلك بعدما غادر ما يقرب من نصف مليون منهم إلى الولايات المتحدة، وتوجه آخرون إلى دول إسكندنافية وأستراليا.
"توتر طائفي ومسلسل من الاغتيالات"
سعد هرمز (52 عاماً) الذي كان يعمل سابقاً سائق تاكسي في الموصل، وهو يعيش اليوم في الأردن، يقول لوكالة الأنباء الفرنسية: "آمل أن يطلب البابا خلال زيارته للعراق من الدول التي تستقبل لاجئين مسيحيين مساعدتنا (…) لأن العودة إلى العراق (الآن) غير واردة".
في 2007، قتل عم وعمة طبيبة الأسنان رنا سعيد برصاص عشوائي أطلقه جنود أمريكيون رداً على هجوم تعرضوا له ليلة رأس السنة في مدينة الموصل (شمال)، لكن هذه الطبيبة وزوجها الطبيب البيطري عمار الكاس أصرّا في حينه على البقاء في مدينتهما.
إلا أن عدم وجود محاسبة أو تطبيق أي عدالة في القضية، دفعهما في 2008 إلى اتخاذ قرار الرحيل، فانتقلا إلى كردستان العراق وكانا يفرّان أيضاً من التوتر الطائفي و"مسلسل اغتيالات نفذتها مجموعات مسلحة" استهدف عدد كبير منها مسيحيين، وفق ما ذكر الكاس لوكالة فرانس برس.
في 2013، سافر الزوجان اللذان ينتميان إلى طائفة السريان الأرثوذكس إلى أستراليا، حيث نشأت بناتهن الثلاث سارة (عشرة أعوام) وليزا (ستة أعوام) وروز (ثلاثة أعوام) في مدينة غولد كوست وأصرّ الوالدان على تعليم بناتهما اللغتين العربية والسريانية إلى جانب الإنجليزية.
وفي الطرف الآخر من العالم، لم ينقطع الزوجان عن متابعة ما يدور في العراق خصوصاً بعد اقتحام داعش لبلدتهما الصغيرة في صيف عام 2014.
وتستذكر رنا تلك الأيام قائلة: "كنتُ حاملاً بابنتي ليزا، وكان عمار لا يريدني أن أسمع الأخبار، لأنها تسبّب قلقاً يؤذي الطفل، وكان يبعد هاتفي وأجهزة الحاسوب عني"، وتضيف فيما اغرورقت عيناها بالدموع "كوابيس مرعبة كانت تلاحقني بأن الدواعش يقتلون أهلي ويغتصبونهم".
فيما يقول عمار إنه صُدم آنذاك بخبر تدمير كنيسة القديسة مريم في الموصل التي عمرها 1200 عام. ويقول بحسرة: "دُمِّرت بالكامل، هي الكنيسة التي تزوج فيها والدي".
وعاش سعد هرمز من جهته تلك الأيام بتفاصيلها، وكان شاهداً على وصول الشاحنات التي رفعت رايات تنظيم الدولة داعش السوداء إلى بلدته.
ففي السادس من آب/أغسطس 2014، دخل تنظيم داعش إلى برطلة، البلدة المتعددة الأعراق الواقعة على أطراف مدينة الموصل.
ويقول لوكالة فرانس برس: "في البداية، هربنا إلى القوش"، وهي بلدة ذات غالبية مسيحية تقع إلى الشمال "ثم إلى إربيل"، عاصمة إقليم كردستان.
هناك عاش مع زوجته أفنان (48 عاماً) وأولاده الأربعة وأكبرهم فادي (19 عاماً) وأصغرهم ناتالي في السابعة من العمر، في كنيسة، قبل أن يستأجر شقة في مقابل 150 دولاراً شهرياً على مدى ثلاث سنوات، الأمر الذي كلفه الجزء الأكبر مما كان يملك.
الأمل بالعودة
وأملت العائلة خيراً بالعودة إلى حياتها السابقة عندما أعلنت القوات العراقية في تشرين الأول/أكتوبر 2017، تحرير برطلة من قبضة داعش، لكن عائلة هرمز اكتشفت أن الأوضاع تغيّرت تماماً.
فمنزلها احترق بعدما سرقت محتوياته، ولم يعد إصلاح ما تضرّر مجدياً، لأن المنطقة أصبحت تحت سيطرة قوات الحشد الشعبي، وهي مجموعات عسكرية تهيمن عليها فصائل شيعية موالية لإيران ويستذكر هرمز قائلاً "عشنا بالخوف من حواجز التفتيش والميليشيات المنتشرة في كل مكان"، ويتابع: "لذا بعت كل ما أملك حتى سيارتي، وسافرنا إلى الأردن".
وتعيش العائلة منذ شباط/فبراير 2018 في شقة من غرفتين في عمان على أمل إعادة توطينها في كندا، حيث بعض أقاربها. لكن ملف الهجرة عالق بالنسبة إلى العائلة، بسبب تفشي وباء كوفيد-19 وتدفق اللاجئين من العراق وسوريا إلى دول أوروبية خصوصاً وإلى القارة الأمريكية وغيرها…
وبسبب تسجيل هرمز نفسه كلاجئ في الأردن، لا يحقّ له العمل، وهو يعتمد على التبرعات التي تقدم في كنائس عمان لإطعام أسرته.
الأسقف الكلداني سعد سيروب حنا البالغ من العمر 40 عاماً والذي عيّنته الكنيسة الكلدانية في السويد منذ 2017، يقول إن الكثير من العراقيين بين أبناء رعيته في السويد لا يريدون العودة إلى العراق.
ووُلد حنا في بغداد وأرسل إلى السويد للاهتمام بأكبر تجمع كلداني في أوروبا قوامه نحو 25 ألف شخص وصلوا إلى البلاد في موجات على مدى العقود الأربعة الماضية.
وعاش فترات عنف كثيرة في العراق فرّ خلالها كثيرون، وهو يصفها بـ"الفوضى العظيمة". وتعرّض للخطف في العام 2006 بعدما ترأس قداساً في العاصمة العراقية، ويقول حنا لوكالة فرانس برس: "احتُجزت وتعرضت لأمور عديدة بينها التعذيب والعزلة"، ويضيف: "هذه التجربة أعطتني القوة أيضاً. لقد ولدت من جديد، أنظر إلى الحياة بطريقة مختلفة بنعمة عظيمة وحبّ كبير".
ويقيم أكثر من 140 ألف عراقي في السويد من بينهم رغيد بنّا، وهو مواطن من الموصل استقر في بلدة سودرتالي في العام 2007، وكان في السادسة والعشرين، ويقول بنّا، وهو اليوم أب لطفلين: "ثمة الكثير من الكلدان هنا لدرجة أنني لا أشعر حتى أنني في غربة".
من الموت إلى الإفلاس
ويقول وردة إن العائلات الشابة تهرب من العراق وتترك غالباً وراءها الوالدين من الجهتين الأكبر سناً، ويوضح: "كانت الأسرة المسيحية تتكون إجمالاً من خمسة أفراد. والآن انخفض العدد إلى ثلاثة".
في بغداد، تقلص عدد المسيحيين من 750 ألفاً في 2003، بنسبة 90%.
ويقول الإيكونوموس يونان الفريد، الوكيل العام للروم الأرثوذكس في العراق، لوكالة فرانس برس، إنه مع انخفاض عدد المصلين، "أغلقت ما بين 20 إلى 30% من كنائس العراق".
وبعد ما يقرب من عقدين من إراقة الدماء والتفجيرات، دخل العراق فترة من الهدوء النسبي في أعقاب هزيمة تنظيم الدولة الإسلامية في أواخر عام 2017. لكن هذا لم يوقف نزف الأقليات.
ويقول الكاهن الذي بقي في العاصمة، فيما هاجر شقيقه إلى كندا وشقيقته إلى الولايات المتحدة: "الناس يستمرون في المغادرة، المسيحيون يحاولون فقط ادّخار ما يكفي من المال، وبعد ذلك بأسرع ما يمكن، يهاجرون".
واختارت سالي فوزي، الكلدانية من بغداد، العيش في الولايات المتحدة حيث منحت اللجوء عام 2008، بعد عام من مأساة في عائلتها.
فيما تقول فوزي (38 عاماً) التي تعيش في تكساس لوكالة فرانس برس، إن عمتين لها في الثمانينات قتلتا طعناً داخل منزلهما "كونهما مسيحيتين لا أكثر" وكانتا تعيشان في محافظة كركوك المتعددة الإثنيات والطوائف الواقعة إلى شمال بغداد.
وتضيف سالي التي تمكنت أخيراً بعد أربع سنوات من وصولها إلى الولايات المتحدة من إحضار والديها وإخوتها إلى هيوستن: "لأنقذهم من المصير المحتوم للمسيحيين في العراق"، "أنا في الرابعة والعشرين فقط، وقد نجوت بالفعل من ثلاث حروب".
وتتابع: "اليوم لدي بيت ووظيفة وعائلتي قريبة مني"، لكنها تقول بأسى: "ما زلت أشتاق لأصدقائي وبيتي في بغداد".
وتساهم الظروف الاقتصادية الصعبة اليوم في استمرار هجرة المسيحيين. وازدادت الأزمة بسبب جائحة كوفيد-19، وقد نتجت أصلاً عن انهيار أسعار النفط وهبوط أسعار العملة المحلية في مقابل الدولار وتفشي الفساد في الدولة.
وأدى ذلك إلى تأخير أو خفض رواتب موظفي القطاع العام في العراق وفي إقليم كردستان الذي يتمتع بحكم ذاتي، والذي يعيش فيه الكثير من المسيحيين.
ويقول هفال إيمانويل، وهو موظف حكومي كلداني في كردستان: "أتقاضى راتباً واحداً فقط كل شهرين، وأحياناً لا أتقاضى الراتب بالكامل"، مضيفاً: "مجرد أن أحصل على مستحقاتي، عليّ سداد ديون الأسابيع السابقة، لذلك لا يبقى لدي شيء".
مغتربون في وطنهم
ونشأ إيمانويل في مدينة البصرة في أقصى جنوب العراق، ثم تزوج وعاش في بغداد حتى عام 2004 عندما انفجرت قنبلة خارج المدرسة التي كان أطفاله يرتادونها وكبرت إحدى بناته وهاجرت إلى النرويج مع زوجها، وانتقل أخوه وأخته مع عائلتيهما إلى لبنان.
وتقدّم إيمانويل مع زوجته وأطفالهما الثلاثة الآخرين بطلب إعادة توطين في كندا، وهم ينتظرون الجواب، ويقول في منزله بالقرب من أبرشية الكلدان في إربيل: "نحن نختنق.. لا توجد رعاية اجتماعية ولا خدمات صحية ولا مدارس عامة ولا عمل".
يشعر بالحزن لدى الحديث عن شوارع مدينة البصرة الغنية بالموارد والتي باتت تفتقر اليوم إلى الخدمات العامة، ويعبّر عن انزعاجه من رؤية ملصقات تحمل صور المرشد الأعلى للثورة الإيرانية آية الله روح الله الخميني في الشوارع. "هذه أماكن عامة وأنا أشعر كمسيحي بأن ليس لي مكان في البلد".
ثم يقول: "إذا أتيحت الهجرة، أنا أضمن أنه بحلول الغد، لن يبقى أي مسيحي. على الأقل في الخارج، سنشعر أخيراً بالاحترام كبشر".
يقول إيمانويل الذي ستغني ابنته في الجوقة المرحبة بالبابا في إربيل: "البابا مثل ملاك ينزل على العراق، لكن كم من الشياطين سيجد هنا؟ رجل سلام يزور مجموعة من أمراء الحرب. كيف يمكنه تغييرهم؟"