كشفت وثائق أمريكية مصدرها قاعدة بيانات تابعة لوزارة العدل الأمريكية، عن تحركات "مثيرة للانتباه" قام بها حزب الشعب الجمهوري التركي المعارض، في واشنطن، تمثلت في اجتماعات عقدها مسؤولون بالحزب مع مسؤولين أمريكيين رفيعي المستوى قبل تنفيذ محاولة الانقلاب الفاشلة، كما أظهرت الوثائق علاقة الحزب الوثيقة مع اليمين الأمريكي الجديد، وتواصله مع اللوبي الإسرائيلي في أمريكا.
وتداولت العديد من الصحف التركية، صباح الثلاثاء 9 فبراير/شباط 2021، هذه المعلومات، ووجهت اتهاماتها لحزب الشعب الجمهوري بـ"الخيانة والمشاركة في التخطيط لتنفيذ الانقلاب على الرئيس التركي رجب طيب أردوغان".
هذه التحركات جرى رصدها ضمن تغطية قام بها موقع ساسة بوست، لأنشطة لوبيات الشرق الأوسط في الولايات المتحدة على مدار الـ10 سنوات الماضية، وذكرت بالأسماء والتواريخ تحركات أعضاء الحزب الجمهوري في واشنطن.
بطل هذه التحركات كان مؤسس المكتب التمثيلي لحزب الشعب الجمهوري في واشنطن، يورتر أوزجان، وهو تركي يعمل في قطاع المنسوجات والبنوك، ويملك شركة استشارية في الولايات المتحدة باسم "مجموعة زيرمات – Zermatt Group"، حيث قام في 31 مارس/آذار 2013، بافتتاح المكتب التمثيلي للحزب الجمهوري بشكل رسمي في واشنطن، وذلك بهدف بناء علاقات مع الحكومة الأمريكية، وتمثيل مصالح الحزب بشكلٍ دائم أمام الكونغرس، ووزارتي الخارجية والدفاع، وغيرها من الجهات الأمريكية.
لقاء مثير للشبهات قبل محاولة الانقلاب
من المعلومات الهامة والمثيرة للانتباه التي كشفتها الوثائق الأمريكية، ونقلها موقع ساسة بوست، هي تلك الزيارات التي قام بها حزب الشعب الجمهوري، قبل محاولة الانقلاب الفاشلة التي شهدتها تركيا في 15 يوليو/تموز 2016.
ففي 12 و 14 أبريل/نيسان 2016، أي قبل الانقلاب بشهرين فقط، قام نائب رئيس الحزب الجمهوري أوزتورك يلماز (انشق عن الحزب حالياً وأسس حزباً وحده)، بزيارة إلى واشنطن برفقة أوتكو تشاكروزر، شملت:
- اجتماع مع أماندا سلوت، العاملة بمكتب الشؤون الأوروبية والأورو-آسيوية بوزارة الخارجية، ومع فيليب كوسنيت، الموظف بمكتب الشؤون التركية والشرق الأوسط.
- اجتماع مع عاملين بمجلس الأمن القومي بالبيت الأبيض، منهم مارك شابيرو، الذي أدار مكتب شؤون تركيا، واليونان، وقبرص، بالمجلس، وقبلها عمل بوزارة الخارجية على الشؤون التركية. وحضر الاجتماع أيضاً آنا ماكانجو، وهي مستشارة خاصة في شؤون أوروبا وأوراسيا لجو بايدن، نائب الرئيس الأمريكي آنذاك، وتكرر تواصل الحزب معها لاحقاً.
- اجتماعات مع موظفين بوزارة الدفاع: شانون كلبرستون مديرة مكتب تركيا، واليونان، وقبرص، المختصة بالشؤون الخارجية في مكتب نائب وزير الدفاع الأمريكي، وألتون بولاند، المسؤول عن قضايا تتعلق بتركيا والناتو في وزارة الدفاع الأمريكية.
- اختتمت الزيارة باجتماع مع رافائيل دانزيجر، المسؤول الرفيع في أيباك، أهم ذراع للوبي الإسرائيلي في واشنطن.
ربما يلقي تواصل حزب الشعب الجمهوري مع ماكانجو الضوء أكثر على تصريحات جو بايدن الأخيرة، في سياق ترشحه لانتخابات الرئاسة الأمريكية للعام الحالي 2020، إذ صرّح بايدن بأنه سيدعم "قيادة المعارضة التركية" و"عناصر في القيادة" التركية لتولي زمام السلطة وهزيمة أردوغان، مؤكداً أن يتم ذلك عبر الانتخابات لا الانقلابات.
لكن الأمر الأكثر لفتاً للانتباه، هو اجتماع أوزجان مع كيدنارد ريموند، الموظفة بالخارجية الأمريكية التي عملت على ملف مكافحة الإرهاب وملف السياسة الداخلية في تركيا، يوم 8 يوليو/تموز 2016، أي قبل محاولة الانقلاب في تركيا بأسبوع.
تبع هذا الاجتماع لقاء آخر عُقد في وزارة الدفاع الأمريكية قبل الانقلاب بيومٍ واحد فقط.
من الجدير ذكره هنا في هذه النقطة أن الوثائق لم تذكر أي تفاصيل عن طبيعة هذه الاجتماعات، كما أنها لم تثبت أو تنفِ علاقة حزب الشعب الجمهوري التركي بمحاولة الانقلاب التي شهدتها تركيا.
بداية الرحلات إلى واشنطن
لم تكن هذه التحركات وليدة عام 2015 فقط، بل إن الوثائق التي اطلع عليها موقع ساسة بوست، رصدت تحركات كثيرة لـ "أوزجان"، الذي ظهر باعتباره بمثابة "مهندس رحلات السياسيين" من حزبه إلى الولايات المتحدة، والتي كان أولها زيارة وفد من برلمانيين من حزب الشعب الجمهوري، منهم أيكان إيردمير، وعائشة دانيش أوغلو، وفائق توناي، وجميعهم نواب وسياسيون في الحزب، وذلك في الفترة بين 22 و25 سبتمبر/أيلول 2013، حيث سعت الزيارة إلى "شرح الرؤية الجديدة لحزب الشعب الجمهوري".
صرّح الوفد في هذه الزيارة بأنهم تلقوا من المسؤولين الأمريكيين "أسئلة شاملة ومفصّلة؛ ما يعطي الانطباع بأن الولايات المتحدة تعتبر حزب الشعب الجمهوري الحزب المحتمل للحكم في الفترة التالية".
بعدها بـ4 شهور فقط، كانت الرحلة الأهم والأبرز لحزب الشعب الجمهوري، عندما قام رئيس الحزب الحالي، كمال كليتشدار أوغلو، بزيارة واشنطن، وذلك بعد تأسيس المكتب بـ6 شهور فقط، وامتدت من 30 نوفمبر/تشرين الثاني حتى 4 ديسمبر/كانون الأول 2013، ورافقه فيها برلمانيون من الحزب.
كشفت الوثائق التي مصدرها قاعدة بيانات تابعة لوزارة العدل الأمريكية، أن هذه الزيارة بدأت باجتماعٍ مع صحيفة "وول ستريت جورنال"، ثم زيارةٍ لمقر صحيفة "واشنطن بوست". وفي اليوم الثاني من الزيارة اجتمع رئيس الحزب في عشاء مع "منظمات يهودية"، دون تسميتها، كما زار الوفد ولايات أمريكية مختلفة لمقابلة رجال أعمال أتراك، وأعضاء بالحزب، بحسب ما نقله موقع ساسة بوست.
اللافت في هذه الزيارات كان تحركين بارزين لحزب الشعب الجمهوري التركي، هما:
- اجتماع الوفد مع أعضاءٍ بارزين في الكونغرس، أهمهم النائب إريك كانتور، زعيم الأغلبية الجمهورية بمجلس النواب (2011 – 2014)، والنائب الديمقراطي ستيف كوهين، عضو في اللجنة القضائية بالكونغرس، والنائب الجمهوري إيد ويتفيلد، وكلاهما يرأس تكتُّل تركيا في الكونغرس، كما عَقَدَ الوفد عشاءين منفصلين، الأول مع نواب جمهوريين، والآخر مع الديمقراطيين.
- اجتماع الوفد مع كارين دونفريد، التي كانت المساعدة الخاصة للرئيس الأمريكي أوباما، وأحد كبار مسؤولي الشؤون الأوروبية في مجلس الأمن القومي التابع للبيت الأبيض. ويتكرر هذا النمط من التواصل المباشر مع مسؤولين بالحكومة الأمريكية والبيت الأبيض.
ترامب في البيت الأبيض ومعركة الاستفتاء في تركيا
كثف حزب الشعب الجمهوري رحلاته إلى واشنطن، عام 2017، والذي تزامن مع حدثين مهمين، هما: تولي الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب للحكم، وإجراء الاستفتاء الدستوري في تركيا لتحويل النظام السياسي في البلاد من نظام برلماني إلى نظام رئاسي.
في الفترة الواقعة بين 16 و19 مارس/آذار 2017، أي قبل شهر تماماً من الاستفتاء في تركيا، توجه وفد رفيع المستوى من الحزب الجمهوري برئاسة نائب رئيس الحزب أوزتورك يلماز، ونائب عن إسطنبول اسمه أوغوز ساليجي، إلى واشنطن واجتمعا مع أعضاء في الكونغرس من التكتل التركي، ومن بينهم النائب ستيف كوهين.
واجتمعا كذلك مع إيريك ويتشلر، أحد مسؤولي ملف تركيا بوزارة الدفاع الأمريكية، بالإضافة إلى اجتماع مع مارك ليبي من وزارة الخارجية، وهو مدير مكتب شؤون جنوب أوروبا (مكتب معنيّ بشؤون تركيا، واليونان، وقبرص)، وختموا اجتماعاتهم بلقاء مع شانون كلبرستون من البيت الأبيض.
توجه حزب الشعب الجمهوري إلى اللوبي الإسرائيلي
انتهت الزيارة، وفي 16 أبريل/نيسان 2017 صوّتت أغلبية الشعب التركي بـ"نعم" على الاستفتاء الدستوري، ليصبح النظام التركي رئاسياً، فعاد أوزتورك يلماز في زيارة أخرى بعد الهزيمة في الاستفتاء، من 24 إلى 26 مايو/أيار من نفس العام، ليجتمع مع المسؤولين ذاتهم من وزارة الخارجية والبيت الأبيض، ومع وجوه من اللوبي الإسرائيلي هذه المرة.
في هذه الزيارة اجتمع أوزتورك مع مارفن فوير، الذي يعمل بمنصب مدير السياسات والشؤون الحكومية في أيباك مسؤولاً عن توجيه أنشطة الضغط، وجهود البحث وتطوير السياسات داخل المنظمة. واجتمع مع دان ماريشين، المدير التنفيذي لمنظمة بناي بريث، المنظمة اليهودية الأمريكية المؤيدة لإسرائيل.
مع مرور السنوات ازداد تواصل الحزب وممثله في واشنطن مع اليمين الأمريكي، ومع بعض الأطراف في اللوبي الإسرائيلي.
كما رصدت الوثائق الأمريكية تواصل أوزجان مع جايسون ايزاكسون، مسؤول الشؤون السياسية والسياسات في اللجنة اليهودية الأمريكية، وهي واحدة من أعرق المؤسسات اليهودية والصهيونية في أمريكا.
يذكر أنه وفي 2014 حضر أوزجان المؤتمر السنوي، واجتماعات المعهد اليهودي للأمن القومي الأمريكي، وهو منظمة بحثية أمريكية تروّج لسياسات إسرائيل، ولضرورة الدعم الأمريكي لها.
تطوّرت العلاقات بالجهات الإسرائيلية لاحقاً، وذهب أوزجان للمشاركة في احتفالات يوم الاستقلال الإسرائيلي (ذكرى النكبة) في 2 مايو/أيار 2017. واجتمع مع أمير روم، الدبلوماسي في السفارة الإسرائيلية بواشنطن. وفي 2018 شارك في مؤتمر الأيباك السنوي الممتد ليومين.
علاقة حزب الشعب الجمهوري مع اليمين الداعي للحروب
شهد تمدد حزب الشعب الجمهوري التركي بالعلاقات تطوراً مهماً، عندما التقى أوزجان مع باحث في الأيباك حضرهُ شخص آخر اسمه جون هانا، من مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات في 26 سبتمبر/أيلول 2019.
تشير الوثائق إلى أن هانا كان أحد أخطر وجوه اليمين الجديد التي تواصل معها حزب الشعب الجمهوري في أمريكا، إذ عمل مستشاراً للأمن القومي لدى ديك تشيني، نائب الرئيس الأمريكي جورج بوش، وأحد أهم المؤيدين لغزو العراق وأفغانستان بعد هجمات سبتمبر/أيلول 2001.
الأمر الأكثر حساسية في لقاء أعضاء الحزب الجمهوري التركي مع هانا، هو أن الأخير، كان قد توقع قبل شهر واحد فقط من 15 يوليو / تموز 2016، بأن هناك محاولة انقلابية ستحدث في تركيا، قائلاً: "الرئيس أردوغان شخص خطير.. لا يزال أردوغان يشكل مخاطر كبيرة على المصالح الأمريكية. من المحتمل أنه عاجلاً أم آجلاً سيأتي يوم الحساب. يجب على الولايات المتحدة أن تبدأ الاستعدادات لتقليل أضرارها الآن …" بحسب ما نشرته صحيفة يني شفق التركية.
كما عمل هانا قبلها في وزارة الخارجية مستشاراً للوزير في فترة رئاسة بيل كلينتون، وقبلها نائباً لمدير معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، الذي ذكرنا أن تأسيسه وتمويله كان بدعم من الأيباك في المقام الأول.
واللافت أيضاً في شخصية هانا، هو العلاقة الوثيقة التي تربطه بدولة الإمارات وبسفيرها يوسف العتيبة، فقد كشفت عنها إيميلات مسرّبة نشرها موقع ذي إنترسبت. وفي 24 أبريل/نيسان 2017 طلبَ هانا من العتيبة تنسيق اجتماع له مع محمد دحلان، السياسي الفلسطيني ومستشار ولي العهد الإماراتي محمد بن زايد.
يذكر أنه بعد شهر من محاولة الانقلاب في تركيا، في 16 أغسطس/آب 2016، أرسل هانا للعتيبة مقالاً في صحيفة تركية يتهم الإمارات ومركز الدفاع عن الديمقراطيات بالمشاركة في التخطيط لمحاولة الانقلاب، وختم الرسالة بـ"يشرفنا أنّا برفقتك". وفي وقتٍ لاحق اتهمت مصادر بوزارة الخارجية التركية الإمارات بتمويل الانقلاب.
ومن المعلومات التي كشفتها الوثائق الأمريكية والتي تؤكد على علاقة حزب الشعب الجمهوري التركي بجهات يمينية ومحافظة، هي التحركات التي يقوم بها إيكان إيردمير في واشنطن وعلى رأسها مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات، المموّلة جزئياً من إسرائيل، وتتبنى سياسات مناصرة بالكامل لها، كما ركز عمله على مجموعة من المراكز البحثية، ومن بينها معهد إنتربرايز الأمريكي للأبحاث السياسية العامة، المناصر لإسرائيل، حيث اختار المعهد عام 2015 رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو للفوز بجائزة إرفينج كريستول، أرفع جائزة تكريمية في المعهد.
يذكر أن إيردمير هو سياسي تركي سابق كان نائباً للحزب، ثم ترك الحياة السياسية، وهاجر للولايات المتحدة، ومطلوبٌ الآن للقضاء التركي بتهمة تزوير أدلة في قضية "بنك خلق" في أمريكا.