لا يزال قرار محكمة الجنايات الدولية، الخاص بالوصاية القضائية على الجرائم الإسرائيلية التي ترتُكب بحق الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة وشرقي القدس، يتصدر المشهد السياسي بالجانبين الفلسطيني والإسرائيلي، وباتت الأخيرة تخشى أن يتسبب قرار المحكمة في تقييد نشاطاتها السياسية، ويعرِّض حياة جنودها وضباطها لخطر الاعتقال والملاحقة.
قرار محكمة الجنايات الدولية
ردود الفعل الإسرائيلية تعكس حجم التهديد الذي يشعر به الاحتلال بعد القرار التاريخي للمحكمة، فأدانه رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، واصفاً المحكمة بأنها "هيئة سياسية، وليست مؤسسة قضائية"، فيما عقد المجلس الوزاري السياسي والأمني الإسرائيلي (الكابينت) اجتماعاً استثنائياً استمر عدة ساعات تناول فيه القرار، ورفض التعاون أو التنسيق مع المحكمة، وكلف بالبدء باتخاذ الخطوات المطلوبة، من أجل صون مصالح الدولة، والدفاع عن مواطنيها وجنودها.
فلسطينياً، لاقى القرار ترحيباً، فوصفه رئيس الوزراء محمد اشتية بأنه "انتصار للعدالة والإنسانية وقيم الحق والعدالة"، وقال نبيل شعث، مستشار الرئيس، إن "القرار يفتح الطريق أمام الخطوة التالية وهي فتح تحقيق جنائي في جرائم حرب ارتكبها الإسرائيليون بالأراضي الفلسطينية".
حنا عيسى أستاذ القانون الدولي، والأمين العام للهيئة الإسلامية المسيحية لنصرة القدس والمقدسات، قال لـ"عربي بوست"، إن "الطرف الفلسطيني هو المنتصر من قرار المحكمة، بموجب قرار مجلس الأمن الدولي (242) الذي دعا إسرائيل إلى الانسحاب من المناطق المحتلة عام 1967، والمحكمة تعتبر من الناحية القانونية أن الضفة الغربية وقطاع غزة وشرقي القدس مناطق فلسطينية تخضع لاحتلال عسكري إسرائيلي".
وأضاف المتحدث، أن "ما ستناقشه المحكمة هو التحقيق في الجرائم التي ارتكبها أشخاص بصفتهم الطبيعية أو بصفتهم الاعتبارية، وفقاً لتمثيل المؤسسة التي كانوا يعملون بها، وهم العسكريون الحاليون أو المتقاعدون أو المدنيون، ممن لا يزالون يمارسون نشاطاً سياسياً".
وتابع المتحدث، أن "عدم وجود إسرائيل كطرف في المحكمة لا يُعفي مواطنيها من المحاكمة، إذ إن قرار الإدانة في حال صدر بحق أي شخص ثبتت بحقه تُهم ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، فإنه سيخضع لقرار الملاحقة غيابياً، وسيتم التعامل معه على أنه فارٌّ من العدالة".
سلسلة القضايا
تقوم المحكمة الجنائية الدولية على مبدأ التكامل القضائي، أي إنه لا يحق لها أن تمارس ولايتها القضائية إلا عندما تفشل النظم القضائية الوطنية في ممارسة ولايتها القضائية وفقاً للمعايير الدولية، والجدير بالملاحظة هنا أن عدم رغبة إسرائيل في اتخاذ إجراءات قضائية على المستوى الوطني بحق الأشخاص المزعوم ارتكابهم جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، يفتح الباب أمام تدخُّل المحكمة الجنائية الدولية.
ومن القضايا الثابتة التي ستحقق فيها المحكمة الدولية، العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة صيف 2014، والذي استمر لأكثر من 50 يوماً وأدى إلى استشهاد قرابة 2500 فلسطيني وتشريد 100 ألف من بيوتهم نتيجة الدمار الذي لحِق بالأحياء السكنية، وجاء التعامل القضائي الإسرائيلي مع هذه الحرب صورياً، ومقتصراً على توجيه المدعي العام العسكري الاتهام لثلاثة جنود فقط بتهمة إطلاق قذائف على مدرسة تابعة لـ"الأونروا" تضم عدداً من اللاجئين المشردين من القصف، دون النظر إلى الجرائم الأخرى التي مارسها الجيش بحق المدنيين طيلة أيام الحرب.
ومن بين الأسماء التي قد تكون مطلوبة للتحقيق في محكمة الجنايات الدولية، رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو، ووزير الحرب السابق أفيغدور ليبرمان، ورئيس حزب "أزرق-أبيض" بيني غانتس، ورئيس أركان جيش الاحتلال أفيف كوخافي وآخرون، لاسيما قادة أركان سابقين، ووزراء الحرب، ورؤساء جهاز الأمن العام "الشاباك"، وقادة ألوية بالجيش، ورؤساء مجالس المستوطنات.
الحقوقي صلاح عبدالعاطي، رئيس الهيئة الدولية لدعم حقوق الشعب الفلسطيني "حشد"، قال لـ"عربي بوست"، إن "قرار المحكمة جاء متأخراً، فالأصل أن يكون القرار ساري المفعول منذ نحو عام، وتأخيره كان نابعاً من ضغط الإدارة الأمريكية على المحكمة، لذلك فإن الفلسطينيين أمام مسار طويل لتتويج هذا القرار بمحاكمة القادة الإسرائيليين بتهم الجرائم التي ارتكبوها، لأن سماع الشهادات وتوثيقها لدى مراقبي المحكمة، في حال سمحت إسرائيل لهم بالعمل بحرية داخل المناطق المحتلة، يحتاجان شهوراً طويلة أو بضع سنوات على أقل تقدير".
وأضاف المتحدث، أن "ما هو مطروح أمام المحكمة هو قضية الاستيطان التي رفعت بها فلسطين طلباً للنظر فيها في 2017، وهذه القضية معقدة، لأنه ليس هنالك شخص بعينه متهم بها، بل هي سياسة عامة انتهجتها دولة الاحتلال منذ 1967، وحتى يتم النظر في قضايا تدين أشخاصاً بعينهم، فإن على السلطة الفلسطينية أن تتقدم بملف كامل للانتهاكات الإسرائيلية ذات الطابع الجنائي ضد الفلسطينيين، وأهمها قضية الأسرى وتقييد حرية الحركة والتنقل والقتل وحصار غزة والحروب والاعتداءات التي يقوم بها الجيش الإسرائيلي والمستوطنون".
وتابع أن "صلاحيات المحكمة الدولية تختص بقضايا جرائم الحرب وجرائم ضد الإنسانية وجرائم الإبادة الجماعية وجرائم العدوان، وهذه القضايا مجتمعة تنطبق شروطها على الحالة الفلسطينية، لذلك يجب أن تكون الجهود الفلسطينية مركزة بما يخدم مسار القضاء ويحقق العدالة".
قرار مفاجئ
رغم أن قرار المحكمة صدر بشكل مفاجئ دون وجود مؤشرات مسبقة على ذلك، فإن إسرائيل كانت تتحضر لهذا الأمر، إذ كشفت صحيفة "إسرائيل اليوم" العبرية المقربة من رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، أنَّ تولي بايدن مقاليد الحكم في البيت الأبيض، والذي يركز على ملف حقوق الإنسان، سيضع قادة إسرائيل أمام تحدي التعرض لعمليات اعتقال واستصدار أحكام قضائية بحقهم بتهمة ارتكاب جرائم حرب.
وكان ترامب قد وقَّع مرسوماً رئاسياً في يونيو/حزيران الماضي، يقضي بفرض عقوبات اقتصادية على المحكمة الجنائية الدولية، بداعي محاولات استجواب ومحاكمة القوات الأمريكية على شبهة ارتكاب جرائم في أفغانستان، أو حلفاء الولايات المتحدة، ومن ضمنهم إسرائيل.
عبدالمجيد سويلم، أستاذ العلوم السياسية في جامعة القدس المفتوحة، قال لـ"عربي بوست"، إن "قرار محكمة الجنايات الدولية أحدث إرباكاً في المشهد الإسرائيلي، وهذا الأمر سينعكس بالضرورة على تقييد حرية المؤسسة السياسية والأمنية، وضمنها الجيش، لممارسة أي نشاط قد يمثل انتهاكاً للقانون الدولي".
وأضاف المتحدث، أن "الخشية الإسرائيلية تتمثل بأن يكون الرئيس الأمريكي الجديد جو بايدن متساهلاً مع المحكمة، عكس سلفه ترامب، الذي بدا في كثير من مواقفه تجاه المحكمة متشدداً، لذلك فإن إسرائيل في حال لم تتحرك الولايات المتحدة بجانبها، ستقف وحيدة في هذه المعركة".
وأكد المتحدث أن "إسرائيل ستحاول كسب معركة الوقت لطيِّ هذا الملف، لأن المدعية العامة للمحكمة، فاتو بنسودا، ستنتهي ولايتها خلال أقل من 6 أشهر، لذلك سينصبُّ الجهد الإسرائيلي على إيجاد مدعٍ عام جديد يكون صديقاً لها، وستسعى لتهديد المحكمة بممارسة ضغط عليها من خلال رفض السماح للمفتشين الدوليين بدخول الأراضي المحتلة لسماع شهادات الضحايا".