يتناولون مواد لا تدخل ضمن خانة المواد الغذائية الخاصة بالبشر، مثل الحجر والطين أو الصابون؛ بل منهم من يقوم باستهلاك مواد غريبة كالحديد والبلاستيك والزجاج والأدوات الصلبة.
في العديد من الحالات تتجاوز حدَّة المرض النفسي "بيكا" أكل هذه المواد لتصل حد الاستمتاع بها أو إدمانها، وهو ما قد يُفسره البعض في الثقافة الشعبية بأنه يرتبط بـ"مسّ جنّي" أو مهارات خارقة، في حين يُصنفها العلم ضمن حالة مرضية نفسية تستوجب تدخلاً طبياً قبل انعكاسها سلبياً على صحة الإنسان المصاب بها.
وتوضح تقارير منظمة الصحة العالمية، أن متلازمة "بيكا" هي أحد الاضطرابات النفسية عموماً، وتصنَّف من اضطرابات الأكل. ويتفاوت مدى انتشار متلازمة بيكا في بعض الفئات العمرية كالرضع، والأشخاص ذوي العاهات الخلقية، والنساء الحوامل، وبعض فئات المرضى النفسيين.
قوة خارقة
كثير من المصابين بمرض "بيكا" لا يعلمون بذلك، كما أنهم لم يسمعوا يوماً باسمه أو أعراضه، ولم يكتشفوا أنهم رقم ضمن إحصائيات عالمية حول هذا المرض النفسي، الذي شغل بال الأطباء والعلماء، الذين أجروا حوله دراسات كثيرة.
عبدالحفيظ محروقي، شاب مغربي ينحدر من مدينة تازة (شمال شرقي المغرب)، يشتهر بقيامه بأمور خارقة بلغت شهرته ذروتها بعد انتشار فيديوهات له على الإنترنت قبل بضع سنوات، على موقع محلي، وهو يجر شاحنات بشعره.
أصبح عبدالحفيظ أحد مشاهير المدينة، إذ يُقدم نفسه كـ"إنسان غير عادي يتمتع بموهبة خارقة وقوة داخلية، تمكِّنه من أكل الزجاج والحديد، وجرّ الشاحنات والسيارات بشعر رأسه أو أنفه أو فمه".
كانت بداية محروقي سنة 2006، من خلال مُمارسته مجموعة من الرياضات المتعلقة بفنون الحرب والقتال والعَدو الريفي، حسب ما رواه لـ"عربي بوست"، قائلاً: "أحسست بأن لديّ طاقة وموهبة اكتشفتها مع الجمهور ومنه كانت البداية، وهذه الموهبة الخارقة مكَّنتني من الفوز بجوائز محلية ووطنية".
لا يعترف المحروقي بإصابته بمتلازمة "بيكا"، كل ما يعرفه عن نفسه ويروج له باقتناع، هو أنه إنسان بقوى خارقة، تُمكِّنه من ابتلاع ما لا يتحمله الجهاز الهضمي البشري، ويتحمل جسده ما لا يتحمله الإنسان الطبيعي.
"لا أستطيع التخلص"
تتجاوز حدَّة المرض النفسي "بيكا" أكل مواد غريبة تصل لحد الاستمتاع به أو إدمانه، وهو ما قد يُفسره البعض في الثقافة الشعبية بأنه يرتبط بـ"مسّ جنّي" أو مهارات خارقة، في حين يُصنفها العلم ضمن حالة مرَضية نفسية تستوجب تدخلاً طبياً قبل انعكاسها سلبياً على صحة الإنسان المصاب بها.
"أرجو ألا تسخروا مني".. هكذا استهلت "فاطمة.ت" حكايتها في حديثها لـ"عربي بوست" قائلة: "أعاني من مشكلة غريبة لكنها حقيقية: أنا مدمنة على أكل الصابون منذ الصغر، وهذا الإدمان يتفاقم يوماً بعد يوم ولا أستطيع التخلص منه".
وأضافت فاطمة: "في صغري كنت أهوى جمع قِطع الصابون بأشكالها المختلفة، ولا أدري كيف تطور الأمر إلى تذوقه، ثم أصبحت مدمنة عليه، حاولت في مرات عديدةٍ التوقف عن هذه العادة، لكن في كل مرة أشعر بشعور جارف وأشتهيه أكثر من المرات السابقة وأحس بشعور غريب في لساني.. أصبحت أكره نفسي ولا أعرف هل هذا مرض وإدمان أم حالة نفسية".
من جهتها، تسرد "سوسن. ب" الحالة المرضية التي تعانيها إحدى قريباتها البالغة من العمر 19 سنة، والتي لم تستطع التخلص من عادة أكل "التراب والجبص والفحم الخشبي".
وتوضح المتحدثة لـ"عربي بوست"، أنه بمجرد ما يتم ذكر اسم إحدى هذه المواد، تصبح في حالة غريبة، ويسيل لعابها، وتتوتر بشكل لافت للانتباه.
تقول سوسن، إنّ "قريبتي تأكل هذه المواد دون علم أهلها"، مؤكدةً أنَّ تناولها تسبَّب لها في أعراض مرَضية، وتدهور بوظائف الكلي، لكنها مُصرَّة على تناولها، كأنها تنتحر تدريجياً.
راحة نفسية
سعاد، البالغة من العمر 22 عاماً، حالة أخرى من حالات مرض "بيكا" المزمن، تقول لـ"عربي بوست" إنه "اقترن لديها أكل طين الإسمنت الخاص بالبناء، براحة نفسية ولذة لا يمكن كبحها".
تقول سعاد، إن "إدماني أكل الإسمنت تسبب لي في مضاعفات صحية، كما اكتشفت أني أعاني من فقر الدم في الشهور الماضية، وأخبرت الطبيب بأنّي أتناول طين الإسمنت والحجر ونصحني بالابتعاد عنه، وعندما توقفت عن استهلاكه تغيرت حالتي النفسية، وأصبحت سريعة الغضب والتوتر، وتتملكني رغبة جامحة في تناوله".
وهكذا تكون الحالة قد تحولت من عادة إلى إدمان يصعب على سعاد وغيرها من المصابين بمتلازمة "بيكا"، في ظل غياب تشخيص ومتابعة طبية لحالتهم النفسية والجسدية، محاولة إيقاف الأضرار التي يسببها تناول مواد، منها ما يعتبر خطيراً على صحة الإنسان.
اضطراب بيكا النفسي
هذه السلوكيات الغريبة التي يقوم بها كثيرون سراً في محيطنا يومياً، يُفسّرها الأخصائي النفسي محمد البارودي، باضطراب نفسي يُصيب الصغار والكبار معاً، يُصطلح عليه بـ"اضطراب بيكا".
ويوضح الأخصائي النفسي في تصريح لـ"عربي بوست"، أنّ "بيكا" يُصنف ضمن اضطرابات التغذية والأكل حسب الدليل التشخيصي والإحصائي للأمراض النفسية، وهو عبارة عن تناول مستمر وغير معقول لمواد غير غذائية، مبرزاً أنّ "تناول الحجر والطين والجبص والشعر ومواد بلاستيكية في حالات استثنائية معزولة، لا يُمكن تصنيفه ضمن هذا الاضطراب".
ويُرجع البارودي أسباب اضطراب "بيكا" إلى "مشاكل صحية متعلقة بنقص أحد العناصر الغذائية في الجسم، إضافة إلى الأزمات النفسية"، موضحاً أن "اضطراب بيكا نجده بشكل كبير في صفوف الأطفال الذين يعانون إعاقة ذهنية أو تأخراً في النمو الإدراكي أو الوجداني، أو اضطراب التوحد، وفي صفوف المُراهقين الذين يُعانون من الوسواس القهري الناتج عن نقص في هرمون الدوبامين، أو انفصام الشخصية، وبالتالي عدم تمكن هؤلاء الأفراد من التخلي عن سلوكيات معينة، كما ينتج أحياناً عن سوء التغذية الذي نتج عنه نقص في بعض المعادن بالجسم كالحديد والزنك".
وأضاف المتحدث في تصريحه: "لا يمكن أن يدفع الفقر والجوع البعض إلى تناول مواد غير غذائية لسدّ حاجاتهم الغذائية، ثم يتحول الوضع إلى عادة وإدمان".
وتعليقاً عن تناول المرأة الحامل هذه المواد غير الغذائية، يوضح: "لا يُمكن تصنيف أكل المرأة الحامل الطين أو الفحم أو الأظافر أو الشعر خلال فترة (الوحم) ضمن هذا الصنف من الاضطرابات النفسية، إلا بالعودة إلى تشخيص حالتها ما قبل فترة الحمل، إن كانت فعلاً تدمن هذه المواد سابقاً".
ويبرز المتحدث أنّ "تناول مواد غير صالحة للأكل يمكن أن ينتج عنه مضاعفات صحية، وهو ما يكشف عنه أخصائيو الجهاز الهضمي، من خلال الأشعة السينية" .
ويقوم علاج اضطراب "بيكا"، حسب الأخصائي النفسي، على التشخيص الجيد، وتاريخ الحالة المرضية ومتابعة الحالة وعلاجها من خلال الأدوية المناسبة وحصص العلاج النفسي، بالاعتماد على التقنية العلاجية TTC التي تعتمد على معرفة تاريخ الحالة المرضية، خاصة فيما يتعلق بالوسواس القهري والفصام والإعاقات الذهنية، أما في حالة سوء التغذية الذي ينتج عنه نقص العناصر الغذائية والإصابة بفقر الدم، الذي يسبب هذا الاضطراب، فمن الواجب تتبع العلاج الطبّي.
ثقافة شعبية خاطئة
من جهتها، تُفسّر الباحثة في علم النفس الاجتماعي وعلوم التربية نادية مخلوفي، جهل عامة الناس بهذا النوع من الاضطرابات النفسية، بنقص عدد الأخصائيين النفسيين، والتمثلات الخاطئة عن الاضطرابات النفسية السائدة في المجتمع المغربي والعديد من الدول العربية، والربط بين الأمراض النفسية والعقلية ومجموعة من التمثلات القديم.
وتُضيف مخلوف في حديثها مع "عربي بوست"، أنَّ "تناول مواد غير طبيعية من حجر وطين وفحم، وأحياناً الحديد والزجاج، غالباً ما يتم ربطه بالقوة الخارقة أو (مس جنّي)، لأنها سلوكيات غير اعتيادية. فحين نتحدث عن الأمراض العضوية فنحن نشخصها ونُموقعها في عضو معين ظاهر أو باطن، لكن في مقابل ذلك، تظل الأمراض النفسية مبهمة وليست لها تفسيرات".
ومما يعمّق مشاكل المصابين بمتلازمة "بيكا"، أن المغرب لا يتوفر على إحصائيات لهذا الاضطراب، كما أنه لا وجود لجمعيات تهتم بالأشخاص المصابين بهذا الاضطراب أو تقوم بالتوعية بمخاطره.