تضاف أزمة المستشفيات في مصر إلى سلسلة الأزمات التي يُعاني منها المصريون في السنوات الأخيرة، نتيجة سيادة مبدأ "ادفع تحصل على أي شيء"، إذ بدأت ملامح خطة حكومية تتشكل من أجل خصخصة المستشفيات العامة، وإسناد إدارتها إلى وزارات سيادية.
وتأتي فكرة الخصخصة تنفيذاً لرؤية قدمها وزير الصحة الأسبق عام 2017، معتبرا أن ذلك هو حل أزمة المستشفيات في مصر، متجاهلاً في الوقت نفسه نصاً دستورياً واضحاً بحق المواطنين في العلاج المجاني.
إهمال متعمد
أوائل أغسطس/آب 2020، شَعرت عائشة بارتفاع في ضربات قلبها كما بدأت تظهر على جسدها بقع داكنة، وخلال أسبوع تطورت الأعراض، كانت السيدة الأربعينية تعيش مع زوجها وأبنائها الأربعة، بالإضافة إلى سلفها وزوجته وابنتهما في شقة واحدة من حجرتين وصالة في عزبة قريبة من قرية العزيزية بمحافظة الفيوم.
يروي الزوج الذي يعمل بستانياً لـ"عربي بوست" تجربة قصته مع أزمة المستشفيات في مصر، بعدما مرضت زوجته ومحاولة علاجها بمستشفى العزيزية، حيث كانا دائمي التردد عليها للتغيير على البقع التي عُدَّت مرضاً نادراً يصيب الشخص.
كانت المستشفى مؤسسة تعليمية تفتح أبوابها في الفترة الصباحية فقط، ولا يوجد بها أية إمكانيات للإسعافات الأولية، حتى الشاش والقطن كان يأتي بهما من الصيدلية، ولا توجد أسرّة للمرضى في الحجرات الخاوية التي باتت مسكونة بالأشباح.
لم يستطع الزوج الذهاب إلى المستشفى المركزي لأن هذا يحتاج منه نفقات قد يعتبرها البعض بسيطة، لكنها بالنسبة له كانت تعجزه وما كان يكسبه يكفي بالكاد لسد رمق عائلته الكبيرة.
تطورت حالة عائشة عندما تعرضت للدغة عقرب، ولم يجد الزوج في المستشفى من يعالجها لتتوفى بعد 10 ساعات من الألم.
عندما ذهب فريق "عربي بوست" إلى مستشفى العزيزية بمحافظة الفيوم، والذي يُمثل أزمة المستشفيات في مصر، وجد بلا أبواب مغلقة أو شبابيك لحماية المرضى والعاملين بداخله، ولا يوجد بالمستشفى إلا طبيب واحد وقيل لنا إن هناك ممرضتين اثنتين في إجازة، تساعدان الطبيب الموجود، في الوقت الذي كان فيه 8 مرضى ينتظرون دورهم للكشف.
وفاة قبل العلاج
عم نجاد، رجل مسن على مشارف الثمانينيات، مزارع بسيط واحد ممن ينتظرون دورهم للكشف الطبي بمستشفى العزيزية بمحافظة الفيوم.
نجاد واحد من سكان قرية العزيزية قال لـ"عربي بوست" إن "المفترض أن المستشفى يقدم الخدمة الطبية لسكان أكثر من 25 عزبة تابعة لمركز العزيزية، بالإضافة إلى الآلاف من مصابي الحوادث على طريق أسيوط الغربي، لكن أغلبهم يلقون حتفهم بسبب عدم وجود أجهزة أو أطباء لنجدتهم".
وأضاف المتحدث أن "المستشفى يمثل أزمة المستشفيات في مصر ويحتاج من يخدمه وينظر إليه بعين الشفقة، إذ إنه يئن تحت وطأة الإهمال المتعمد، وغير المبرر من المسؤولين في وزارة الصحة والتأمين الصحي".
وأشار المتحدث إلى أن "الموت أصبح يُلاحق المرضى الذين يحتاجون لعلاج فوري، ولن يتحملوا النقل إلى المستشفى المركزي بالفيوم لمسافة تفوق 51 كيلومتراً، وبينه وبين مستشفى مدينة طامية البعيد أكثر من ساعة ونصف، وفي هذه المسافة تُوفي العشرات".
أزمة المستشفيات في مصر رصدها "عربي بوست" بمستشفى العزيزية الذي يمتد على مساحة خمسة أفدنة لم يستغل منها إلا نصف فدان تقريباً، والمساحة المتبقية مستغلة من مجهولين في تربية الماعز والطيور، بالإضافة إلى العنكبوت الذي عشش في زوايا الجدران، بالإضافة إلى رائحة العفن التي تزكم الأنوف، وروث المواشي، والرطوبة التي نهشت عنابر المرضى ودورات المياه.
يقول الشيخ مؤمن في حديثه مع "عربي بوست" إن "المستشفى كان يضم عيادات خارجية، وغرف حجز للمرضى، وصيدلية، وحجرات يستخدمها الأطباء للسكن والمبيت، لكن السنوات السابقة شهدت تهدم الأسوار المحيطة به، وتآكل الجدران بسبب عدم الصيانة الدورية".
ويتحسر الرجل على أرض المستشفى التي صارت معبراً للسيارات والموتوسيكلات والدواب، فضلاً عن أن الأهالي يتخذونها طريقاً مختصراً لمنازلهم، كل هذا في غياب تام للأمن بالفترة المسائية مما يتسبب في تكرار حوادث السرقة.
وأشار المتحدث إلى أن "عمال النظافة بالمستشفى ثلاثة فقط أحدهم مسؤول عن نظافة المستشفى بأكمله، والآخر يهتم صورياً بحديقة المستشفى، والثالث يظهر بين حين وآخر وراتبه قائم على التبرعات".
ويضيف المتحدث "أن الطبيب يحضر فقط من الساعة التاسعة صباحاً إلى الثانية عصراً، ورغم خبرته إلا أن الضغط ونقص الإمكانيات يحولان بينه وبين قيامه بالعمل على أكمل وجه، مشيراً إلى أنه "في بعض الحالات يحتاج الأمر إلى متخصصين، كما أن القسم الداخلي من المستشفى لا يعمل على الرغم من وجود غرفة عمليات كاملة ومجهزة".
أزمة المستشفيات في مصر
اللافت ما يقوله أهالي قرية العزيزية بمحافظة الفيوم، أنهم طرقوا كل الأبواب رسمياً وودياً لإنقاذ مستشفاهم من الإهمال دون فائدة، مما جعلهم يشعرون أن هناك تعمداً لتحويل المكان إلى "خرابة" قطاع عام، وسط تكهنات برغبة الدولة في إسناد إدارته لجهة ما.
وتساءل هؤلاء عن المصداقية في تصريحات وزيرة الصحة المصرية التي قالت عند توليها الوزارة إن "المستشفيات الحكومية ستكون أولى اهتماماتها لتوفير أماكن تصلح لعلاج المصريين في أي مكان على أرض مصر".
وقال أحد المرضى الذين التقاهم "عربي بوست" داخل المستشفى "نفسي أوصل رسالة للمسؤولين وأقولهم اعتبرونا زي أهاليكم، لو المريض من أهلك شعورك إيه لو مش عارف تعالجه، طيب لو حد من المسؤولين كان موجود وقت ما كان فيه حريق في القرية وأصيب ومش عارفين نروح به فين؟ إحنا بقينا بنخاف نمرض علشان منجيش حظيرة المواشي اللى بيقولوا عليها إنها مستشفى".
ولم يكن العزيزية المستشفى الوحيد الذي يشتكى مواطنوه، ففي محافظة الفيوم هناك عشرة مستشفيات "تكاملية" غير العزيزية تعاني الإهمال تحولت إلى وحدات طب أسرة بسبب تردي أحوالها من سيئ إلى أسوأ، وبسبب ذلك أطلق عليها المواطنون "خرابات قطاع عام" أو "حظائر مواشي" وهي أبوجندير، وتطون، والشواشنة، والخالدية، وقوتة، ومطرطارس، وسرسنا، واللاهون، والغرق، ودار السلام.
وكان وزير الصحة أحمد عماد، سنة 2016 قد صرح أن الوزارة استفادت من قرض قيمته 75 مليون دولار في تطوير مستشفيات التكامل وعلاج فيروس سي والوحدات الصحية، وذلك في إطار مواجهة أزمة المستشفيات في مصر.
لكن يبدو أن الوزير كان يتحدث عن مستشفيات أخرى لأن مستشفيات التكامل أغلبيتها خرابات مهجورة، وحتى الأجهزة التي تحدث عنها من عاصروا تلك المستشفيات في بداية نشأتها تم تخزينها في الحجرات بطرق عشوائية وعلاها الصدأ، رغم أنها كانت معدة لإجراء العمليات الجراحية كما قال مصدر بنقابة الأطباء لـ"عربي بوست".
وأضاف المصدر ذاته أن "هذه المستشفيات لم تشهد متابعة واهتمام وزارة الصحة، ولم تحقق الهدف من تطويرها بتقديم خدمة طبية جيدة، وتحول معظمها إلى أماكن مهجورة، فضلاً عن قيام مديرية الشؤون الصحية بنقل الأجهزة الطبية إلى المستشفيات المركزية، وتعرض بعض تلك المستشفيات للسرقة، فيما تسبب عدم وجود أطباء أو تمريض في إغلاق عدد آخر".
تفسير أزمة المستشفيات في مصر من وجهة المتحدث يكمن في حب المسؤولين لمحو أي أثر لمن سبقوهم بدون النظر إلى الضرر الواقع على المواطنين، فالمستشفيات التكاملية تم إنشاؤها لتوفير خدمة صحية للمناطق البعيدة، والتخفيف عن المستشفيات المركزية، وتجهيزها كلف مئات الملايين من الجنيهات، ومع ذلك تم إهمالها، وإغلاق بعضها في الوقت الذي يعاني فيه المرضى من عدم وجود مكان شاغر للعلاج.
ويشير المتحدث إلى أن ما يحدث يمثل عدواناً على حق المصريين في الصحة، وهو أحد الأركان الرئيسية لمخططين لخصخصة القطاع الصحي فى مصر، وتحويله من حق وجب توفيره للمصريين بغض النظر عن قدرتهم المادية، إلى سلعة يتمتع بها القادر على ثمنها.
شبهات الفساد
حال المستشفيات الحكومية لا يقل سوءاً عن مستشفيات التكامل، إلا أن الأخيرة جاء ذكرها في حديث الرئيس المصري، عبدالفتاح السيسي إذ أمر في ديسمبر/كانون الأول 2016 خلال افتتاحه المرحلة الرابعة من تطوير المجمع الطبي للقوات المسلحة في منطقة كوبري القبة، بدراسة عرض مستشفيات التكامل على المجتمع المدني والقطاع الخاص لتحقيق الاستفادة منها وزيادة حجم الخدمات الطبية المقدمة.
وقدم وزير الصحة أحمد عماد سنة 2017 تصوره للاستفادة من المستشفيات عبر إسنادها للقطاع الخاص ووزارات الدفاع والداخلية والاستثمار.
وكشف وزير الصحة آنذاك عن طلب وزيرة الاستثمار 75 مستشفى، لتكون نواة للشراكة بالتعاون مع قطاع الخدمات الطبية التابع لوزارة الدفاع، كما تم عرض اﻷمر على وزارة الداخلية، وهو ما اعتبره الكثير من الأطباء تخبطاً في إدارة القطاع الصحي في مصر وأن المسؤولين يعالجون العشوائية بمزيد من العشوائية، مما سينتج عنه ارتفاع سعر الخدمة الطبية، فضلاً عن أن ذلك مخالفة صريحة للدستور الذي ينص في المادة 18 على أن "تكفل الدولة الحفاظ على مرافق الخدمات الصحية العامة التي تقدم خدماتها للشعب ودعمها والعمل على رفع كفاءتها وانتشارها الجغرافي العادل".
ويستنكر مسؤول سابق بوزارة الصحة ما آلت إليه أزمة المستشفيات في مصر خصوصاً مستشفيات التكامل قائلاً: "الحكومة تتعامل بمنطق (فيها يا أخفيها) (أن يكون لها مصلحة أو تقوم بإفشال الأمر) معندهاش وسط، إما الاستثمار وإسناد المهمة للجيش والشرطة أو تركها فريسة للإهمال، وعندما اعترضنا تركوها ولم يهتم بها المسؤولون لتنتهي إلى تلك الحالة الرثة"، مضيفاً أن "تبوير المستشفيات بات واضحاً، وهو تقديمها هي الأخرى للجيش ليتولى إدارتها وإزاحة المدنيين".
واتهم المسؤول مديريات الصحة بنزع الأجهزة من المستشفيات بحجة إعادة توزيعها بعدما صدرت تعليمات بوقف العمل بهذه المستشفيات لأنها غير مطابقة لمواصفات الجودة، وكان هذا هو الطريق لطرحها للبيع ويتساءل المسؤول عن الجودة التي تتسبب في إغلاق المستشفيات، وحرمان الفقراء من الحق في خدمة صحية كانت بين أيديهم، أفضل مما يحدث الآن في المراكز النائية والقرى.
ويشير المتحدث إلى أنهم "عارضوا فكرة الاستثمار في المستشفيات التكاملية، سواء بالبيع أو التأجير أو الإدارة وسط أزمة سكانية وصحية، وفي خضم الأوبئة المنتشرة في مصر سواء إنفلونزا الطيور أو الخنازير أو كورونا، كما أن هناك تجربة فاشلة عندما تم تحويل خدمات الدم إلى الشركات، وتحول الموضوع من خدمة إلى سمسرة وتجارة، فالمستثمر هدفه الربح وليس غبياً أن يضع أمواله في مستشفيات لخدمة الفقراء".
ويضيف المسؤول السابق أن "إسناد تلك المستشفيات للقطاع الخاص يعني زيادة أسعار الخدمة فيها، وتنفيذ واحدة من توصيات البنك الدولي برفع الدعم عن الخدمات الصحية وتحرير إدارتها لصالح القطاع الخاص".
وبلغ إجمالي عدد المستشفيات في مصر خلال عام 2018، 1848 مستشفى، من بينها 1157 مستشفى خاصاً، بنسبة 62.6%، في حين مثلت مستشفيات القطاع الحكومي 37.4%، ضمت كلاً من المستشفيات العامة والمركزية والتابعة لجهات حكومية، بإجمالي 691 مستشفى، وذلك وفقًا لأحدث أرقام الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء في النشرة السنوية لإحصاء الخدمات الصحية الصادرة في نوفمبر/تشرين الثاني 2019.
في نفس السياق كشفت أحدث البيانات الصادرة عن منظمة الصحة العالمية أنه كان لدى مصر 445,000 طبيب يعملون داخل البلد في عام 2018، وهو ما يعادل حوالي 5 أطباء لكل 10,000 مواطن، وهذه نسبة منخفضة وفق المقاييس الإقليمية، بالمقارنة مع نسبة 26 طبيباً لكل 10,000 شخص في السعودية، و23 في الأردن، و7 في العراق والمغرب، على سبيل المثال.
وكانت هذه النسب قد شهدت ارتفاعاً ما بين عامي 2003 و2014 بلغ ذروته عند 11 طبيباً لكل 10,000 شخص، ثم انخفض المتوسط مرةً أخرى إلى حوالي 8 أطباء على مدار السنوات الثلاث التالية ليشهد مزيداً من الانخفاض مجدداً في 2018. ومن منظور إقليمي، مثّلت مصر حالة شاذة أزمة المستشفيات في مصر ففي كل الدول السابق ذكرها أعلاه، ثبتت النسب أو تحسَّنت في الغالب على مدار المدة نفسها.
أيضاً كشف النشرة الصحية الصادرة عن جهاز التعبئة العامة والإحصاء لعام 2019، أن متوسط عدد الأسرّة في مصر هو سريرٌ واحد لكل 778.6 شخص، وهذا أقل من المتوسط العالمي، إذ أوصت منظمة الصحة العالمية أن يتراوح عدد الأسرّة بين 3 إلى 5 أسرّة لكل 1000 فرد.
محاولات الخصخصة
أرجع الدكتور محمد طبيب بمستشفى إمبابة وعضو ببرنامج الدفاع عن الحق في الصحة وهي منظمة حقوقية صحية، أزمة المستشفيات في مصر إلى فشل الحكومة في الامتثال للنص الدستوري الذي يُلزم بأن يخصص لنظام الرعاية الصحية 3% على الأقل من الناتج المحلي الإجمالي للدولة، على أن ترتفع تلك النسبة تدريجياً لكي تضاهي المتوسطات العالمية.
ويؤكد المتحدث في تصريح لـ"عربي بوست" أن "النظام الصحي المصري يعاني من مشاكل متعددة، نظراً لعدم وضع النظام السياسي المكون الصحي على أجندة أولوياته، وتغليب نظرية الإنفاق على المؤسسات الأمنية والعسكرية عن الإنفاق على المؤسسات الخدمية، وعلى رأسها الصحة والتعليم، وهو ما أدى إلى تردي الخدمات الصحية وتراجع الإنفاق الصحي بشكل كبير خلال العقود الأربعة السابقة".
وقال المتحدث إن "أغلب المستشفيات يعتمد على التبرعات العامة، مما يؤدي إلى تقديم خدمات رديئة للمرضى أمام ندرة الدعم المالي، والوزارة الآن تبحث في دفاترها القديمة لكي تكفي احتياجاتها ورواتب موظفيها، لذلك اتجه القائمون على النظام الصحي لتحويل المستشفيات إلى مشاريع استثمارية".
واستشهد الطبيب على كلامه بأن "ميزانية عام 2020-2021 التي اعتُمدت في شهر إبريل/نيسان 2020 شملت نسبة 3.65% من الناتج المحلي الإجمالي لقطاعي الصحة والتعليم قبل الجامعي والتعليم العالي، والبحث العلمي، بدلاً من نسبة 10% المنصوص عليها في الدستور.
ويوضح المتحدث أن برنامج الإصلاح الصحي الذي بدأته وزارة الصحة بالتعاون مع البنك الدولي عام 1998، اشتمل على تحويل الخدمات الصحية لتُصبح "ربحية" بدلاً من كونها بسعر التكلفة.
ويُضيف المتحدث أن "فترة تولي الدكتور حاتم الجبلي وزارة الصحة ما بين 2005 و2011، كانت الحلقة الأهم في الخصخصة، بدءاً من محاولة خصخصة خدمات التأمين الصحي عام 2006، مروراً بقرار إنشاء الشركة المصرية القابضة للرعاية الصحية رقم 637، في العام التالي مباشرة"، ويشرح أنه "لولا حكم المحكمة الصادر عام 2008 بإيقاف إنشاء هذه الشركة، لكان تم بيع أصول التأمين الصحي المصري".
مقابل ذلك كشف مصدر بوزارة الصحة لـ"عربي بوست" أن النظام الحالي، قرر أن يسير أيضاً بخطوات ثابتة نحو خصخصة النظام الصحي مستشهداً بمسودة قانون المستشفيات الجامعية وما أثارته من جدل.
وأضاف المتحدث "الخوف من أن تكون المستشفيات الجامعية هي الخطوة التالية لتقليل مستشفيات الغلابة، إذ إنه في نهاية 2019 تم تعديل مسودة قانون المستشفيات الجامعية تتضمن استقلالها عن كليات الطب في كل الجامعات، وأن تصبح مستشفيات خاصة لا تتبع الجامعات، الأمر الذي دفع العديد من الأطباء للتخوّف من فكرة الخصخصة، خاصة أن هذه المستشفيات تخدم قطاعاً عريضاً من المواطنين".
ولم تكن تلك هي المرة الأولى التي يثير فيها قانون المستشفيات الجامعية الجدل، إذ بدأ الحديث عنه في أواخر عام 2014، عندما كشفت وزارة التعليم العالي عن مشروع قانون جديد لتنظيم العمل في المستشفيات الجامعية، مكون من 18 مادة من بينها فصل المستشفيات الجامعية عن الكليات، لكن تلك الخطة لاقت مواجهة حاسمة من نقابة الأطباء التي تصدت لها بقوة.
من مستشفيات التكاملية إلى وحدات لطب الأسرة
أزمة المستشفيات في مصر لا تقتصر على محافظة الفيوم بل تحدث في جميع المحافظات الأخرى، حيث تحولت المستشفيات التكاملية من أبنية صحية تخدم آلاف المواطنين إلى وحدات لطب الأسرة، وما زالت وزارة الصحة تسير في هذا الاتجاه حتى الآن.
يقول محمد أحمد موظف من أهالي مركز أشمون بمحافظة المنوفية إن المركز به 11 مستشفى تكاملياً، من بينها ستة مستشفيات مغلقة كسمادون، وشما، وجريس، وشطانوف، وطليا، وتم تحويل الأربعة الأخرى إلى وحدات لطب أسرة.
كما رصد "عربي بوست" المعاناة، التي يعيشها أبناء قرى محافظة الدقهلية، فهناك 73 مستشفى تحولت من مستشفيات للتكامل إلى وحدات لطب أسرة، غابت عنها الكوادر الطبية والفنية وتعطلت أجهزتها بسبب قلة الاستعمال وعدم الصيانة.
الملفت كما قال عضو بمجلس المدينة لـ"عربي بوست" هناك محاولات من أحد المحافظين، وقرار لحصر جميع مستشفيات التكامل بالمحافظة، وتقسيمها إلى خمسة قطاعات لتحويلها إلى طوارئ ومركزي للاستفادة من جزء كبير منها، إلا أن القرار تعطل تنفيذه بدون سبب واضح.
ومن بين المستشفيات المهملة مستشفى ديسط التابع لمركز طلخا، والمقام على مساحة 21 ألف متر مربع، إذ تحول من مستشفى قروي إلى مستشفى تكاملي، كان يضم جميع التخصصات ويأتى إليه المرضى من جميع قرى المركز، بالإضافة إلى حالات الطوارئ والحوادث التي تحدث على طريق طلخا/شربين، كما كان يحوي غرفتي عمليات، ومعامل تحاليل وأشعة، وقسماً داخلياً، وجميع التخصصات وجاء قرار وزير الصحة بتحويل ذلك الصرح إلى وحدة لطب الأسرة ليتم استخدام ثلاث غرف منها فقط وإغلاق الباقي.
يقول سمير عيسى تاجر مواشٍ في المنطقة، في حديثه مع "عربي بوست" إن "مستشفيات التكاملي كانت تقلل الضغط عن المستشفيات المركزية"، مشيراً إلى أنها "ليست الوحيدة التي تم تحويلها إلى طب الأسرة، فهناك أيضاً مستشفى بقرية درين مركز نبروه، ومستشفى بهوت التابع لنفس المركز والذي كان يخدم أكثر من 80 ألف نسمة، ومستشفى قرية كوم النور الحمص، الذي تم إعادة بنائه بتكلفة تزيد على 15 مليون جنيه على مساحة 3 أفدنة، وأصر المسؤولون بالصحة على تخصيصه لطب الأسرة بعدها اختزلت مهمته في تقديم وسائل تنظيم الأسرة والتطعيمات".
المستشفيات التكاملية
المستشفيات التكاملية هي مجموعة مستشفيات أنشأها وزير الصحة الأسبق، الدكتور إسماعيل سلام في 1997 بتكلفة تخطت المليار و200 مليون جنيه، لكي تقدم خدمات طبية متكاملة للمرضى، وهي شبيهة بالمستشفيات المركزية، وبحسب التقرير الصادر عن وزارة الصحة 2012، بلغ عددها 522 مستشفى في جميع المحافظات عدا القاهرة وبورسعيد ومرسى مطروح وجنوب سيناء، والبحر الأحمر.
وطبقاً للتخطيط الجغرافي القائم، فإن سكان القرى كانوا مضطرين للجوء إلى المستشفيات المركزية أو المستشفيات العامة للحصول على خدمة طبية، وجاءت فكرة مستشفيات التكامل لتجاوز أزمة المستشفيات في مصر وسد الثغرة كمرحلة وسطية بين وحدات الرعاية الصحية، وبين المستشفيات المركزية، وفي ذات الوقت تخفف الضغط على المستشفيات المركزية والعامة.
وبعد رحيل الوزير إسماعيل سلام عن كرسي الوزارة سنة 2002، لم يقدم خلفه، الدكتور محمد عوض تاج الدين شيئاً في ملف المستشفيات التكاملية، فظلت أغلب هذه المستشفيات كما هي بلا أجهزة وبلا أطباء.
سنة 2005 جاء الدكتور حاتم الجبلي وزيراً للصحة، وأعاد فتح هذا الملف مجدداً وقرر تحويل عدد من هذه المستشفيات إلى مستشفيات مركزية بنسبة 30% منها، وتحويل النسبة المتبقية إلى مستشفيات لطب الأسرة بحجة أنها تتكلف 500 مليون جنيه من الموازنة العامة للدولة ونسبة الإشغال بها 23%، والمقرر لها مبلغ 170 مليون جنيه وأدى قراره إلي تحويل المستشفيات التكاملية إلي طب أسرة وهو مشروع على ورق.
ومع قيام ثورة الخامس والعشرين من يناير عام 2011 أطيح بالجبلي، وظل الملف مغلقاً في أدراج ستة وزراء تعاقبوا على المنصب، ولم يأت ذكر لهذه المستشفيات سوى أنها كانت سبباً في استدعاء الوزير الجبلى للنيابة العامة بتهمة إهدار المال العام.
وأُعيد فتح الملف مرة أخرى بشكل واسع في عهد الوزير عادل العدوي (مارس/آذار 2014/ سبتمبر/أيلول 2015)، إذ تواصلت الوزارة مع الشركات التي تتبرع بـ 5% من ربحها لخدمة المجتمع لعقد اتفاق على تطوير عدد كبير من هذه المستشفيات، لكن هذا لم يحدث.
وبقي الوضع معلقاً حتى جاء الوزير التالي أحمد عماد (2015 /2018) وطرح ملف مستشفيات التكامل، إذ صرح في أحد لقاءاته بأن لديه خطة لإعادة هذه المستشفيات إلى الخدمة بشكل جيد، لكنها ممكن تدخله السجن وكان ذلك في مايو/أيار 2016.
إسناد إدارة المستشفيات للجيش والشرطة
يدافع الدكتور إسماعيل سلام، وزير الصحة سابقاً في مقال له عن مستشفيات التكامل والفلسفة التى قامت عليها للخروج من أزمة المستشفيات في مصر، وأن الخلط في هذه المفاهيم قد أدى إلى وضعها في دائرة المجهول، مشيراً إلى أنها ليست للبيع أو القنص أو المتاجرة وليست ملكاً للحكومة، وإنما هي حق لغير القادرين والمهمشين والأصحاء والمرضى في القرى التي أهملت فيها التنمية وصارت أحد أبرز معالم التفرقة في مجتمع ظالم.
واعترض سلام على فكرة إسناد إدارة المستشفيات للجيش والشرطة قائلاً: "حين يظهر أحد مسؤولي وزارة الصحة مؤخراً ليبشر بأنهم سيعطون بعضاً من هذه المستشفيات إلى القوات المسلحة والشرطة، نحن إذاً لسنا في حاجة إلى وزارة صحة، فالجيش والشرطة لن يضعا الكوادر المدنية على الرف، والملاحظ أن كافة الإجراءات الاستثنائية عادة ما تنتهي بنتائج غير جيدة ناهيك عن الإثارة التي قد تسببها".
وأضاف المتحدث "أرى أن القوات المسلحة يمكنها المساهمة في الرسالة الإنسانية في المشاكل العلاجية الملحة بتخصيص نسبة من الأسرَّة بالمستشفيات العسكرية للعلاج المجاني لغير القادرين وخاصة في هذه الظروف الاقتصادية الصعبة".
وتداول عدد من مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي مقطع فيديو في الساعات الماضية لطفل على جهاز تنفس صناعي، في طرقات مستشفى المنشاوي العام بطنطا، في حالة صحية متدهورة، مشتبه في إصابته بكورونا، وسط صرخات وصيحات من أهله وذويه، مع تعليق يوضح رفض المستشفى دخوله العناية المركزة للأطفال، إذ كتب الأب: "ابني ملقى في الممر أمام غرف العناية المركزة".
كما رصدت صفحة أهل قنا على الفيسبوك بالصور قصة مأساة مستشفى دندرة العريق الذي يمثل وجهاً لأزمة المستشفيات في مصر الذي أنشئ منذ ما يقرب من مئة عام بعدما كان نموذجاً للمستشفيات وتم إهماله وإعطاء مساحة منه لقسم الشرطة.
قرارات وزارية قاتلة
لم تكن مستشفيات التكامل فقط هي النقطة السوداء في ثوب الحكومة، وإنما انضمت إليها مستشفيات حكومية بعدما أغلقت الحكومة المصرية عبر سلسلة قرارات 476 مستشفى حكومياً، فضلاً عن خروج 60 مستشفى حميات أو مما اصطلح على تسميتها "مستشفيات الفقراء" من الخدمة، بعدما تحولت إلى مجرد أقسام تابعة للمستشفيات المركزية، مع بدء تنفيذ خطة الإصلاح الصحى نهاية تسعينيات القرن الماضي.
تشير د.عبير محمد وهي عضو بحركة الحق في الدواء إن إدارة المستشفيات المصرية تغيرت منذ عام 2010، حين أصدر وزير الصحة حاتم الجبلي قراره رقم 674 المعروف بـ"اللائحة الموحدة"، والتي جرى فيها للمرة الأولى تقسيم المستشفيات المصرية إلى 6 فئات، تم فيها تحديد عدد الأسرّة، بعكس اللائحة السابقة رقم 239 الصادرة عام 1997، التي لم تحدّ من عدد الأسرّة بالمستشفى الواحد.
وبمجرد تطبيق هذه اللائحة، خرج من الخدمة أكثر من 60 مستشفى حميات، بعد تحولها إلى مجرد أقسام داخلية للمستشفيات المركزية، وقد تم إغلاق مستشفى حميات بهتيم ومستشفى حميات الخرقانية، ومستشفى حميات شبين القناطر، هذا الأخير الذي تقدم النائب محمود بدر بطلب إحاطة لإعادة تشغيله سنة 2018، ومستشفى حميات الخانكة، وتقدم النائب رضوان الزياتي بطلب إحاطة لإعادة تشغيله 2020.
أزمة المستشفيات في مصر وصلت إلى تهالك البنية التحتية لمستشفيات الحميات المتبقية وعانت نقصاً في التجهيزات، وعلى رأسها حميات العباسية وحميات إمبابة، جعلتها عاجزة عن استقبال مصابي كورونا.
مستشفيات الحميات المتبقية هي وجه أزمة المستشفيات في مصر رصدت "عربي بوست" داخلها رائحة الموت يفوح من حجراتها حتى باتت تلك المستشفيات معبراً للقبور بعدما تزايدت بها حالات الوفيات كما قال أهالي بعض المرضى.
وتروي سيدة عن معاناتها داخل مستشفى حميات إمبابة قائلة: "لو مفيش معاك فلوس هتموت في المستشفيات اللي تبع الحكومة، ابني كان هيضيع مني بسبب عدم وجود جهاز تنفس صناعي متاح، ولفيت على كل المستشفيات الحكومية ولم أجد فيه مكاناً حتى استأجر أولاد الحلال جهازاً شبيهاً بجهاز التنفس ساعد ابني حتى استقرت حالته".
ولم تقتصر معاناة المرضى داخل أروقة المستشفيات من الإهمال ونقص الخدمات، فأمام قسم الطوارئ والاستقبال، نجد أن أهالي المرضى يفترشون الأرض لانتظار دور ذويهم فى الكشف وتلقيهم العلاج، إذ إنه لا توجد أسِرّة متاحة وإن وجدت رافقتها القطط.
ويعرَّف المعهد المصري للدراسات، مستشفيات الحميات بأنها "خط الدفاع الأول" للتصدّي للأمراض المعدية والوبائية، ومنها فيروس كورونا، بالإضافة إلى إمكانية تخصيصها لعزل مصابي كورونا.
ويُوضح المعهد أن مستشفيات الحميات تُعاني "أزمة هوية"، بسبب تأرجح تبعيتها بين قطاعي الطب العلاجي والوقائي بوزارة الصحة، ما أحَدّث خللاً في تركيبتها، بدأت بإسناد المسؤولية الإدارية للقطاع الوقائي، والمسؤولية الفنية للقطاع العلاجي عام 2011، قبل أن يتم تحويل الأمر بالكامل إلى القطاع الوقائي في 2017 مما تسَبب في تأخر انضمامها لمنظومة التأمين الصحي الشامل، وأثر على مستقبلها وجعلها خارج أولويات برامج التطوير ورفع الكفاءة، الأمر الذي ضاعف أزمة المستشفيات في مصر.