أثارت قصة اختفاء لوحات بيكاسو جدلاً ثقافياً في الجزائر، وذلك بعد العثور على سبعة أعمال تشكيلية، في سبتمبر/أيلول 2009، بمنطقة مدريسة بولاية تيارت غرب الجزائر العاصمة، الأمر الذي دفع مثقفي البلاد إلى طرح سؤال يحتاج إلى تحقيق معمق: أين اللوحات؟
ويتخوف هؤلاء المثقفون من أن يؤول هذا الكنز الثقافي الثمين مآل المليارات التي نهبت في الجزائر السنوات الماضية على يد السلطة الحاكمة، في عهد الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة، خاصة أن قيمة اللوحات المختفية تزيد عن الـ100 مليون دولار للرسمة الواحدة.
قصة اختفاء لوحات بيكاسو أعادها الكاتب والروائي الجزائري واسيني الأعرج، بعد نشره مقالاً يتساءل من خلاله عن مصير هذه الأعمال التشكيلية، خصوصاً أن القصة مرت عليها 11 سنة، وسَجن نظام بوتفليقة مكتشفها بتهمة التزوير.
هل سرق نظام بوتفليقة لوحات بيكاسو؟
كان أول من حرّك قضية اختفاء لوحات بيكاسو في عهد الرئيس السابق عبدالعزيز بوتفليقة الروائي الجزائري واسيني الأعرج، وذلك بعدما خبت نار الملف لمدة 11 سنة، وذلك من خلال مقال نشره عبر صفحته بالفيسبوك، متهماً أطرافاً نافذة بالعبث بهذا الكنز وإخفاء آثاره.
وقال واسيني الأعرج في مقاله "إن الشبهة الكبيرة التي أثارت الحقل الثقافي في الجزائر هي السبع لوحات التي تم العثور عليها في مدريسة، وكلها مؤرخة في 1944، وموقعة من طرف بيكاسو، وهي الفترة الموافقة لزيارته لهذه المنطقة التي عمَّرها معمرو الضواحي الفقراء والإسبان وفيها رسم عدة لوحات".
هذه اللوحات بحسب واسيني الأعرج تم العثور على 7 منها بالصدفة، من قبل شاب كان بصدد حفر بئر بعين المكان في خريف 2009، إذ أخبر الشاب مباشرة مديرية الثقافة في المنطقة بما عثر عليه، وكان يعرف جيداً قيمة ما وجده.
بعد أن تم تسجيل اللوحات واعتبارها ملكية وطنية للدولة، يضيف واسيني الأعرج "تم تحويلها باتجاه متحف الفنون الجميلة بالجزائر العاصمة، حيث يتوفر هذا الأخير على مخبر للتحاليل الفنية لتحديد تاريخ اللوحات ومصدرها، لكن ومنذ تاريخ 11سبتمبر/أيلول 2009، لّف الملف صمت رهيب إلى اليوم".
مصادر مقربة من متحف الفنون الجميلة أكدت أنه تم "إرسال إحدى اللوحات إلى فرنسا سنة 2015 ومؤسسة بيكاسو للتأكد من نسبها للرسام، لكن "لا نعرف شيئاً عن ذلك، ولا مآل هذه اللوحات، هل سرقت، أم بيعت، أم نهبت؟"
وفي نظر الروائي واسيني الأعرج فالقضية "لم تعد فردية، ولكنها قضية دولة، وإذا حدث أن سرقت سيكون ذلك واحدة من أكبر جرائم نهب التراث المادي واللامادي المنظم".
من جهتها أكدت لجنة الدفاع عن التراث المادي وغير المادي لمنطقة مدريسة بولاية تيارت غرب الجزائر لـ"عربي بوست"، "أن كل المؤشرات تؤكد أن اللوحات تم العبث بها ونهبها".
وكشف مصدر من اللجنة في حديثه مع الموقع أن "العصابة الحاكمة في عهد بوتفليقة والتي أكلت المليارات من مال اليتامى والفقراء والأرامل، قادرة على فعل أي شيء والعبث بالتراث المادي وغير المادي للبلاد، لذا يجب التحقيق الدقيق في الأمر وكشف المتورطين".
من جهته كشف ناصر المسعودي، الشخص الذي عثر على اللوحات سنة 2009 أن اللوحات هي فعلاً للرسام بابلو بيكاسو، لأن إحدى اللوحات التي بيعت سابقاً في مزاد علني بأوروبا بقيمة 160 مليون دولار تم العثور عليها في منطقة مدريسة، كما أن ارتباط تلك اللوحات بمسكن أقام فيه بيكاسو يدعم تأكيد صحتها.
الشاب نفسه الذي هو في الأصل خريج المدرسة العليا للفنون الجميلة، يقدر قيمة ما عثر عليه قبل 11 عاماً ويؤكد أيضاً "أنه رأى مجموعة كبيرة من اللوحات، وتبين له لاحقاً أن مصدرها كان بيتاً لأحد المعمرين في مدريسة، اسمه فرانسوا قوماز، وهو مكان إقامة بيكاسو نفسه، خلال الفترة الممتدة من سنة 1943 و1944".
وأضاف المتحدث أن "رواية العثور على اللوحات صدفة في بيته عند حفر بئر كانت مجرد سيناريو مختلق لإخراج أطراف من القضية كانت الرواية الحقيقية ستورطهم، وكانت الصفقة أن ينقذوني من السجن بتحوير الموضوع الأصلي وتسليم اللوحات السبع لأجد نفسي محبوساً واللوحات مختفية مع آثار عنف، أبرزها سقوط أسناني".
الحقيقة حسب ناصر مسعودي تكمن في توصلهم للوحات من أشخاص من القرية، هم من عثروا عليها بقبو البيت الذي كان يقيم به بيكاسو، وجلبوها له كونه خريج مدرسة الفنون الجميلة، فتعرف على اللوحات وإمضاء الرسام العالمي، ولما توسط لتسليمها لمديرية الثقافة تعرض لاعتداء وكسرت سنه، قبل أن يسجن بتهمة التزوير.
وكان الروائي واسيني الأعرج قد توقف عند اختفاء لوحة من اللوحات التي تم العثور عليها حسب مصدره من مدرسة الفنون الجميلة، بعدما تأكد إرسال اللوحة لمؤسسة بابلو بيكاسو قبل اختفائها نهائياً.
اختفاء لوحات بيكاسو
سارعت لجنة الدفاع عن التراث المادي وغير المادي لمنطقة مدريسة بولاية تيارت إلى المطالبة بفتح تحقيق معمق من الجهات العليا في الجزائر، للكشف وبالتفاصيل عن مصير اللوحات السبع التي تقول إنها للرسام الإسباني بابلو بيكاسو.
اللجنة تضم مثقفين وفنانين تشكيليين، إضافة إلى مختصين في التاريخ والعلاقات الدولية، وتم تشكيلها لمتابعة الملفات الثقافية للحفاظ على التراثين المادي وغير المادي للمنطقة، ويحرص هؤلاء على متابعة اللوحات المختفية من معهد الفنون الجميلة بالجزائر العاصمة.
وقال مصدر، وهو أحد أبرز الناشطين في اللجنة إن "السكوت عن اختفاء لوحات بيكاسو في الأصل جريمة ثقافية كبيرة، لذلك لا بد من الوزارة الأولى، أو رئاسة الجمهورية التحقيق وكشف كل التفاصيل المتعلقة بالحادثة".
وأضاف المصدر في حديثه لـ"عربي بوست" أن "اللوحات التي تم العثور عليها في مدريسة بولاية تيارت، تعود بنسبة كبيرة للرسام بيكاسو، بالنظر إلى معطيات عديدة، أبرزها المكان الذي عُثر فيه على اللوحات كان في الأصل محل إقامة الرسام الإسباني، كما أن إمضاءه هو الذي كان يطبع على اللوحات".
الروائي الجزائري عبدالعزيز غرمول بدوره سارع لمطالبة وزارة الثقافة، للكشف عن مصير اللوحات، وضم صوته للجنة الحفاظ على التراث المادي وغير المادي لمنطقة مدريسة، معتبراً أن ما أثير في قضية اللوحات "فضيحة لا يمكن لأي مثقف السكوت عنها".
ولا يستبعد الروائي غرمول في حديثه مع "عربي بوست" "تعرض اللوحات للنهب في عهد السلطة الحاكمة، خاصة أن قيمة اللوحات ثمينة جداً، وتسيل لعاب الكثيرين".
من جهته، دعا الإعلامي الجزائري قادة بن عمار، لعدم السكوت عن ملف اختفاء اللوحات، مطالباً بفتح تحقيق أمني بعدما شكك في بيانات وزارة الثقافة، وحقيقة التحاليل التي أقيمت على اللوحات لإثبات صاحبها.
بيان رسمي غير مقنع
الضجة التي أحدثها الروائي واسيني الأعرج، ومن بعده مكتشف اللوحات الناصر مسعودي، ابن مدينة مدريسة بتيارت، حول اختفاء لوحات بيكاسو، قابلتها وزارة الثقافة الجزائرية ببيان يفند كل ما قيل.
وجاء في بيان الوزارة الذي يتوفر "عربي بوست" على نسخة منه "نشرت بعض وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي في الآونة الأخيرة خبراً مغلوطاً حول اختفاء سبع لوحات زيتية للرسام الإسباني الشهير بابلو بيكاسو سنة 2009، كان قد تم العثور عليها من قِبل أحد المواطنين أثناء قيامه بحفر بئر في بلدة مدريسة على بعد 60 كلم جنوب ولاية تيارت".
وأضاف البيان "حين تم الإعلان عن هذا الاكتشاف، رجّحت وسائل الإعلام آنذاك أن تكون هذه اللوحات قد رسمها بابلو بيكاسو خلال زيارته لهذه المنطقة عام 1944، حيث كان يُقيم رفقة العديد من المعمّرين الإسبان".
وتنتهز وزارة الثّقافة والفنون المناسبة، يضيف البيان "لإفادة الرأي العام أنه فور تلقيها المعلومة خلال سنة 2009، نقلت هذه اللوحات إلى متحف الفنون الجميلة بالعاصمة للتّأكد من هوية صاحبها، وعلى ضوء الخبرة المنجزة من قِبل المختصّين باستعمال التّقنيات الحديثة التي مست فحص الإمضاءات وخطوط الكتابة ونوعية الألوان الزيتية والتقنيات المستعملة والدّقة، تبيّن أنّ هذه اللوحات هي نسخ غير أصليّة ولم تصدر إطلاقاً عن بابلو بيكاسو".
التلفزيون الجزائري تابع البيان بزيارة لمدرسة الفنون الجميلة، وتوقف عند حال اللوحات ونتائج التحاليل، وفق تصريحات مديرة المدرسة، التي أكدت مراسلتها لوزارة الثقافة بخصوص اللوحات في وقت سابق.
ما قدمته وزارة الثقافة الجزائرية للرد على أخبار اختفاء لوحات يقال إنها لبيكاسو بحسب المهتمين والمتابعين "غير مقنع تماماً"، ولا بد حسبهم "من نشر نتائج التحاليل، ومراسلات مؤسسة بابلو بيكاسو".
وقال الروائي الجزائري واسيني الأعرج "إن بيان وزارة الثقافة الجزائرية غير مؤسس ولا مُمضى، فالوزارة اضطرت إلى نشر بيان (كأننا في حرب)، بدل توضيح مُدعم بالوثائق والوقائع تؤكد من خلاله حقيقة لوحات بيكاسو".
واعتبر الأعرج في حديث مع "عربي بوست" أنه "من المستحيل أن يعيش بيكاسو كل تلك الحياة الجميلة والرومانسية مع حبيبته دورامار، وفي تلك المزرعة والبيت الرائع بمدينة تيارت دون أن يترك أثراً له، ولو لوحة تحاكي تلك اللحظات".
وزارة الثقافة بحسب واسيني الأعرج "اختصرت قصة اللوحات في بيان من كلمات بلا توثيق ينهي الجدل، خاصة ما تعلق بنتائج المخبر، ومراسلات الوزارة دون نسيان الإرسالات التي تمت مع مؤسسة بيكاسو للتأكد من اللوحات والإمضاء".
من جهته، لم يقتنع الروائي عبدالعزيز غرمول هو الآخر برد الوزارة حول اختفاء لوحات بيكاسو، وقال لـ"عربي بوست" إن "البيان جاف، وكان بالإمكان دعمه بوثائق تؤكد ما جاء به، كما أن السلطة الحاكمة حينها تستطيع أن تهرب النسخ الأصلية، وتضع نسخاً تقول إنها مزورة وليست لبيكاسو".
جدل متأخر
خلقت وزارة الثقافة الجزائرية شبهة أخرى حول حقيقة اختفاء لوحات بيكاسو المكتشفة غرب البلاد، والذي جاء بعد 11 سنة، وهو ما يوحي حسب محدثينا بوجود أمر مثير لَّف الملف وجعله طي الكتمان والنسيان.
وقال الروائي عبدالعزيز غرمول لـ"عربي بوست" إن "وزارة الثقافة قادرة على إصدار بيان يؤكد الوضعية القانونية وحقيقة اللوحات السبع المكتشفة وتمريره للإعلام لحسم الأمر بشكل نهائي".
وأضاف المتحدث "أن تلتزم الوزارة الصمت كل هذا الوقت أي مدة 11 سنة، حتى إثارة ملف اختفاء لوحات بيكاسو من قبل بعض الروائيين مرة أخرى، ثم تأتي للحديث عن كون اللوحات مزورة وغير حقيقية، وتحاليل المخبر التابع لمدرسة الفنون الجميلة، فهذا غير مقبول وغير منطقي".
من جهته، تساءل الروائي واسيني الأعرج عن "سر الانتظار الطويل وتَعاقُب ستة وزراء على حقيبة الثقافة، آخرهم الوزيرة الحالية مليكة بن دودة، دون الكشف عن حقيقة هذه اللوحات".
بيان الوزارة، يضيف واسيني الأعرج في حديثه مع "عربي بوست"، "جاء متأخراً جداً، ومن شأنه أن يزيد في إثارة الشكوك حول مصير اللوحات التي اكتشفت عام 2009".
المطالبة بلجنة خبراء
وأمام الجدل القائم قال أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية الدكتور زوهير بوعمامة، يثمن لـ"عربي بوست"، "فالبيان لا يكفي ما دام جاء متأخراً عن تاريخ وقائع الحادثة من جهة، وباعتباره يفتقر للإثباتات والدلائل التي تؤكد حقيقة اختفاء لوحات بيكاسو".
الجزائريون ووفق ما قاله الدكتور زوهير "أصبحوا يصدقون كل ما يقال عن ملفات الفساد التي كانت تدار في عهد النظام السابق، والتي أثبتت التحقيقات أنهم لم يتركوا قطاعاً إلا وأفسدوه بما فيه قطاع الثقافة".
وأضاف المتحدث "على وزارة الثقافة إن كانت لديها نية خالصة لكشف الحقيقة كاملة للجزائريين حول اختفاء لوحات بيكاسو، أن تستدعي الخبراء والمختصين، سواء أكانوا محليين أو دوليين للبت في الحقيقة".
ويعتبر بوعمامة أن "مكتشف اللوحات جزئية مهمة في كل ما حدث للتأكد من طبيعة اللوحات التي تسلمتها مديرية الثقافة لولاية تيارت، ولأن مسؤولي البلاد يستطيعون فعل أي شيء، باعتبار أن قيمة اللوحة الواحدة تتعدى الـ100 مليون دولار".
وأشار المتحدث إلى "ضرورة الكشف عن الحقائق كاملة حول اللوحات، إذا كانت لبيكاسو فهذا كنز للثقافة والتاريخ بالجزائر، وإن كان غير ذلك فسيتم على الأقل إنهاء الجدل بشكل موثوق".
وماذا عن لوحة المجاعة؟
إن كان الجميع مهتماً بقضية اختفاء لوحات بيكاسو، فإن الروائي والناقد السينمائي الجزائري محمد علاوة حاجي، يتساءل عن مصير لوحة الرسام الفرنسي المستشرق، غوستاف غيوميه، التي جسدت أزمة المجاعة التي عاشتها الجزائر حينها.
الرسام الشهير، حسب تصريح محمد علاوة حاجي لـ"عربي بوست"، "نشأ في عائلةٍ تشتغل بالدباغة بالجزائر، وأقام فيها بين سنتَي 1862 و1884، وخلال هذه الفترة تنقّل بين عددٍ من مدنها، خصوصاً مدن الصّحراء".
ومن أبرز الأعمال التي قام بها غيوميه لوحة رسمها عام 1869، جسد من خلالها مشهداً قاسياً يُلخّص الوضع الذي عاشته الجزائر خلال المرحلة التي تلت الاستعمار الفرنسي، وخصوصاً الفترة بين 1866 وحتى 1868، التي شهدت هلاك قرابة ثلث الجزائريين بسبب المجاعة والأوبئة.
الفنّان الفرنسي بحسب الروائي محمد علاوة حاجي كان "الوحيد الذي جسّد تلك المرحلة المأساوية من تاريخ الاستعمار، وقد عرَض اللوحة عام 1869 في محاولةٍ منه لاستدرار تعاطف الرأي العام الفرنسي مع ضحايا الجفاف وسياسة التفقير التي انتهجها الاستعمار".
اللوحة ورغم قيمتها التاريخية والثقافية الكبيرة، يضيف محمد "ظلت مهملة بمتحف سيرتا بقسنطينة حتى حلول العام 2018، حينها تحركت جمعية فرنسية متخصصة في التراث وأعمال غيوميه، وظلت لسنوات تبحث عن اللوحة، حتى وصل بها المقام إلى متحف قسنطينة، وتم العثور عليها في وضع سيئ".
وقررت الجمعية بحسب الروائي "جمع تبرعات بفرنسا بغرض ترميم هذه اللوحة النادرة، وأُسندت العملية إلى المختصّة في ترميم الأعمال الفرنسيّة باسكال برينيلي، على أن تتم إعادة اللوحة إلى الجزائر بعد مشاركتها في معرض غيوميه السنوي بفرنسا".
اليوم، وبعد مرور ثلاث سنوات، يقول محمد علاوة حاجي: "علينا أن نتساءل عن مصير اللوحة، ومكان تواجدها، ولماذا ظلت وزارة الثقافة صامتة عن الحديث وكشف مراحل نقل اللوحة من الجزائر إلى فرنسا، ومتى تستردها؟".