أثار الاجتماع الذي قام به الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، في 18 نوفمبر/تشرين الثاني 2020، مع أعضاء مجلس الديانة الإسلامية في فرنسا جدلاً واسعاً، وذلك بعد الإعلان عن انطلاق مشاورات تشكيل مجلس وطني للأئمة في غضون 6 أشهر، المكلف بضبط عمل الأئمة بما يتماشى مع قيم العلمانية، وذلك في إقصاء تام للأئمة.
قرار الرئيس الفرنسي أحدث جدلاً وسط أئمة فرنسا، الذين عبَّروا حسب مصدر لـ"عربي بوست" على "تحفظهم على إحداث مجلس وطني يُعنى بشؤونهم دون العودة لهم ولا حتى استشارتهم و إقصائهم من الحوار مع الرئيس".
إقصاء مقصود
بعد مرور أسبوع من اللقاء مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مع أعضاء المجلس الوطني للديانة الفرنسية قصد إعداد "ميثاق للجمهورية" ومجلس وطني للأئمة، لم يتم التواصل مع الأئمة الفرنسيين من أجل المشاركة في تشكيل المجلس.
وحسب المعلومات التي حصل عليها "عربي بوست"، فإن "عدداً من الأئمة ثاروا على أعضاء مجلس الديانة الإسلامية بسبب إقصائهم، أولاً من الاجتماع الذي عُقد مع رئيس الجمهورية، وثانياً بعدم إشراكهم في الحوار المنطلق منذ أكثر من أسبوع بغرض تشكيل مجلس وطني يُعنى بأمورهم".
مصادر الموقع قالت إن "أعضاء مجلس الديانة الإسلامية بفرنسا هم الآن بصدد إعداد ميثاق الجمهورية بشكل انفرادي ودون العودة إلى المسلمين واستقبال مقترحاتهم، ولا ملاحظاتهم في الأمور التي يجب أن يتضمنها هذا الميثاق بعيداً على "أحلام" الرئيس ماكرون، الذي يستغل "الإرهاب" لصياغة ديانة إسلامية جديدة على مقاسه وبالتالي سيكسر قيم العلمانية التي تقوم على أساس فصل الدين على السياسة".
وقال المصدر ذاته: "لحدود اليوم لم يتصلوا بنا أو بممثلينا في جميع بقاع الجمهورية"، متسائلاً: "كيف سينشئون مجلساً يُعنى بعملنا، سواء في الخطابة أو الإمامة أو الدعوة، ونحن غير موجودين؟ حتى استشارتنا لم تتم، وإذا خرج هذا المجلس الوطني فيسكون مصمماً من طرف الحكومة الفرنسية وليس من طرف أي مؤسسة أخرى".
وتعليقاً على الموضوع، قال المفكر المغربي الشهير والإمام بمدينة بوردو الفرنسية، طارق أوبرو، في تصريح لـ"عربي بوست" إنه كـ"إمام موقفه أصبح يعلمه الجميع في البلاد، لأنه لا يعترض على إنشاء المجلس الوطني للأئمة ولكن يتحفظ على المنهجية التي بدأ بها تشكيل هذه المؤسسة".
وأضاف المتحدث "إذا كان لا بد من إنشاء مؤسسة على المستوى الفرنسي للأئمة لا يجب أن تكون تحت ضغط سياسي، لأنها لن تؤتي أُكلها فالأئمة لهم الأسبقية، وهم أنفسهم من يجب عليهم القيام بدور تشكيل المجلس، فمن بديهيات الأمور أن يتشكل مجلس الأئمة من الأئمة كما يتشكل مجلس العلماء من العلماء".
واعتبر المتحدث أن "مجلس الديانة الفرنسية غير مؤهل من الداخل لتأسيس مجلس وطني للأئمة، لأنه يعاني من وضع داخلي هش وليس فيه أي إمام، باستثناء فدراليات بعض رؤسائها لا يصلون وآخرين لا يجيدون حتى الوضوء، فكيف لهم أن يقفوا على شؤون الأئمة، وهناك قاعدة تقول إنه لا يُعين الإمام إلا من كان إماماً ويفوقه علماً".
وأشار طارق إبرو في حديثه إلى أنه "إذا كانت النية صحيحة من تشكيل المجلس الوطني للأئمة فهذا لا نقاش فيه، لكن الوسيلة والطريقة هي التي يقع عليها الخلاف، وأن تمثل المؤسسات التي تدير المساجد فهذا تمثيل إداري للشأن الديني، لكن التمثيل الفقهي فهو من خصائص الأئمة فقط".
أزمة المجلس
مقابل ذلك طالت الانتقادات مجلس الديانة الإسلامية في فرنسا بسبب إقصائه للأئمة في الوقت الذي يرفض فيه الرئيس ولا حتى الأعضاء الخروج بأي تصريح إعلامي حول الموضوع.
وأصدر مجلس الديانة الإسلامية بياناً يقول فيه إن "تشكيل المجلس الوطني للأئمة لم يعد اليوم خياراً أمام فرنسا، ولكنه ضرورة يحتمها السياق الحالي الذي تمر منه الجمهورية، وذلك ليقوم كل إمام بمهمته في إطار واضح ويتماشى مع الجميع في كل بقاع البلاد".
وأضاف المصدر ذاته أن "مجلس الديانة الإسلامية في فرنسا يظل هو الهيئة التمثيلية الوحيدة للمسلمين في البلاد، لكنه سيعترف بالمجلس الوطني للأئمة كهيكل مستقل يُوافق على الأئمة الذين يرأسون دور عبادة للمسلمين ويصدر توصيات في المسائل الدينية".
وحدد مجلس الديانة الإسلامية مهام أعضاء المجلس الوطني للأئمة في "ضمان الموافقة على الأئمة على المستوى الوطني حسب قدراتهم، وتدريب الأئمة المعتمدين في مناصبهم، وتعزيز التماسك الاجتماعي واحترام التعددية، ومساعدة الأئمة المرخصين في سياق منع التطرف".
البيان الذي أصدره مجلس الديانة الإسلامية في فرنسا أحدث شرخاً وانقساماً بين الأئمة التي اعتبرت أن إقصاءها من الحوار مقصود، كي لا تقدم مقترحات لا تتماشى مع سياسة الرئيس ماكرون.
وقال مصدر لـ"عربي بوست" إن "إقصاء المجلس للأئمة كان منتظراً، فتكوين المجلس الوطني للأئمة كان باقتراح الرئيس إيمانويل ماكرون، والاجتماع تم بحضور وزير الداخلية، إذن فلا بد لهذه المؤسسة أن ترعى مصالح الحكومة الفرنسية لا غير".
وكشف الطارق إبرو في حديثه مع "عربي بوست" أن "حوالي 1110 مساجد لم يشاركوا في انتخاب مجلس الديانة الفرنسية، هذا الأخير الذي لا يمثل إلا نفسه والقلة من الفيدراليات المكونة من مسلمين من تركيا والمغرب والجزائر، وإسناد له مهمة تشكيل مجلس الأئمة هو مناورات سياسية فقط".
وأضاف المتحدث أن المجلس الوطني للأئمة لن يكون له وقع، لأن الأئمة لا يحتاجون لأي اعتراف، ويشتغلون الآن تحت وطأة القانون، والحكومة بقرارها تريد مأسسة المساجد، رغم أنها لن تتدخل في الشأن الديني المحض التزاماً بمبادئ العلمانية، لكنها ستستعمل ورقة الإرهاب وحماية الأمن العام الذي يطالب به الشعب الفرنسي السياسيين الآن.
واعتبر المتحدث أن دعوة الرئيس ماكرون لمجلس الديانة الفرنسية لتشكيل مجلس وطني للأئمة "خطأ سياسي ومنهجي، لأن التطرف والإرهاب والنزعة الانفصالية لن يحل بإنشاء المجلس".
مجلس وطني للأئمة
وقبل 6 أشهر تقريباً من إخراج المجلس الوطني للأئمة للوجود، بدأ مجلس الديانة الإسلامية في فرنسا، في تحديد ملامح هذه المؤسسة التي ستكون رسمية، وتمثل جميع الأئمة في كل جهات الجمهورية.
وحسب المعلومات التي حصل عليها "عربي بوست"، فإن المجلس الوطني للأئمة سيكون عبارة عن منظمة ذاتية تُرخص للأئمة، وتجيب على جميع أسئلة المسلمين، وذلك عن طريق أئمة سيكونون وسطاء بين المواطنين والمجلس.
أيضاً سيكون المجلس الوطني للأئمة هو المؤسسة الوحيدة المخول لها تسمية الأئمة داخل فرنسا، وذلك في إطار الانخراط في المبادئ الأساسية للجمهورية الفرنسية والمختصرة في شعار "حرية عدالة كرامة".
وسيكون دور المجلس الوطني للأئمة بدءاً من تحديد قبلة الصلاة، وإحصاء أماكن العبادة في فرنسا، من مساجد وقاعات الصلاة، هذه الأماكن التي سيكون أمامها فترة سنة لتقديم طلب الحصول على ترخيص أئمتها لمزاولة مهامهم في الجمهورية.
وسيسمح المجلس الوطني للأئمة في فرنسا للنساء أيضاً بالمشاركة في تسييره، وذلك بإعطائهن إمكانية الترخيص للمربيات الدينيات في أماكن العبادة، على أساس أن يتوفر مجلس الديانة الفرنسية على قائمة معتمدة من مدرسي ومدرسات دينيين لممارسة مهامهم، وبالتزامن مع ذلك سيكون كل مكان للعبادة مجبراً على تقديم طلب قبل تعيين أي مدرس آخر فيها.
وحسب المعطيات المتوفرة، فإن المجلس الوطني للأئمة في فرنسا سيتألف من 18 عضواً، 9 هم رؤساء الاتحادات التسع المكونة لمجلس الديانة الفرنسية، و9 هم أئمة رئيسيون يتم تعيينهم من طرف كل اتحاد، شرط أن يتوفر 18 عضواً على الجنسية الفرنسية.
ويحصل كل إمام مكلف بالخطابة على عضوية المجلس الوطني للأئمة على ولاية عمرها 4 سنوات قابلة للتجديد مرتين، كما ينص الإعلان على شروط شطب عضوية المجلس الوطني للأئمة، وتعليق أو سحب اعتماد الأئمة، بأغلبية 4/5 من الأعضاء في الجلسة العامة.
وقال إمام المسجد والمفكر طارق إبرو في حديثه مع "عربي بوست" إن "الكلام المتداول بخصوص أعضاء المجلس الوطني للأئمة المنتظر إخراجه للوجود غير صحيح، والأعضاء الذين سيتم اختيارهم ليس فيهم أي إمامة زاول المهنة، ولا يمثلون مؤسسة مجلس الديانة الفرنسية فقط".
وطالب المتحدث بـ"ضرورة تكوين الأئمة عن طريق برنامج محدد، لأن أغلب الأئمة في فرنسا لهم تكوين تقليدي، هذا الأخير الذي يعتبر مهماً، لكن لا بد أن يتماهى مع الحياة الغربية في فرنسا والقيم العلمانية للجمهورية".
وتعليقاً منه على منع التمويلات الخارجية، قال طارق إبرو إن "أي إمام يحتاج إلى أجرة للعيش الكريم في فرنسا، والتمويلات لدور العبادة من الخارج ليست خطيرة بخطر الإرهاب، لأن الأهم هو منع التطرف وليس من أين تأتي الأموال، وعلى فرنسا أن تراقب الخطاب الديني وليست الأموال".