استطاع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون خلق توتر جديد بعد مصادقة الجمعية العمومية (الغرفة الأولى للبرلمان)، ليلة الجمعة 20 نوفمبر/تشرين الثاني 2020 على تعديل قانون "الأمن الشامل" المقترح من طرف الحكومة، والذي يُعاقب بالسجن والغرامة على نشر صور لأفراد الشرطة بوجوه مكشوفة خلال التدخلات الأمنية.
وعُرض مشروع قانون "الأمن الشامل"، الذي يُعتبر إطاراً جديداً لتنظيم عمل الشرطة المحلية، وتقدم به حزب "الجمهورية إلى الأمام"، الذي أسسه ماكرون، إلى الجمعية العمومية (الغرفة الأولى للبرلمان) للنقاش ما بين 17 و20 نوفمبر الجاري.
وتفرض المادة 24 التي أثارت جدلاً كبيراً وسط السياسيين والإعلاميين والحقوقيين، بعقوبة السجن لمدة سنة، وغرامة تبلغ 45 ألف يورو على كل من ينشر صور "وجه أو أي علامة تعريف" لشرطي أو دركي أو لأسرهم خلال أداء عمله بهدف "إيقاع أذى جسدي أو نفسي به".
ازدواجية الخطاب
يأتي مشروع قانون "الأمن العام" ضمن حزمة من الإجراءات والقرارات التي اتخذها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، بعد الأزمة التي تسببت فيها تصريحاته حول الإسلام، وكانت نتيجتها أعمال إرهابية، بالإضافة إلى التجاوزات التي رصدتها عدسات المتظاهرين خلال مسيرات "السترات الصفراء" المستمرة في فرنسا لأشهر طويلة.
وفي الوقت الذي يُدافع فيه ماكرون على نشر الرسوم الكاريكاتيرية المسيئة لنبي الإسلام محمد (صلى الله عليه وسلم) على واجهات البنايات بحجة الدفاع عن حرية التعبير، اختارت حكومته تقييد هذه الحرية لما اعتبرته حماية لرجال الأمن الفرنسيين وسلامتهم، وذلك عبر طرح مشروع قانون "الأمن الشامل" الجديد ببنوده المتعارضة مع حرية الصحافة والمهددة بالغرامة والعقوبة السجنية.
واعتبر الكثيرون أن هذا المعطى، يؤكد أن دفاع ماكرون عن إعادة نشر الرسوم الكاريكاتيرية المسيئة للرسول محمد (صلى الله عليه وسلم) كانت لأغراض انتخابية فقط، واستهدفت استقطاب اليمين لمساندة ماكرون في الانتخابات المقبلة، ولم يكن الأمر متعلقاً بحرية التعبير.
"المشروع من شأنه أن يُجهِز على مسار حقوقي كبير وعلى القيم الفرنسية، ويزعزع الثقة بمكانة الحريات التي بُنيت عليها الجمهورية الخامسة"، هكذا علق عبدالمجيد مراري، المتحدث الرسمي باسم منظمة "إفدي" الدولية لحقوق الإنسان على القانون الجديد في حديثه لـ"عربي بوست"، معتبراً أن "هناك تناقضاً كبيراً بين ما يُصرح به مسؤولو الدولة عن الحرية وقيم حقوق الإنسان والديمقراطية، وبين القوانين الجديدة التي تُخالف ذلك، وتعبر عن ازدواجية خطاب غير مفهومة".
من جهته دافع وزير الداخلية الفرنسي جيرالد دارمانان عن طرح رئيسه ماكرون، وقال في تصريحات حول الموضوع لوسائل إعلام فرنسية، إن المشروع يهدف لـ"حماية من يقومون بحمايتنا"، ويقصد بذلك قوات الأمن التي تواجه مشاعر عدم ثقة متصاعدة، بسبب ما قامت به من خروقات في السابق، رصدتها عدسات الهواتف النقالة، وتناقلتها مواقع التواصل الاجتماعي.
معارضة ماكرون
توشك سياسة الرئيس ماكرون أن تنقلب ضد كل الفرنسيين، بداية من الصحافيين والناشطين الحقوقيين، وأيضاً المواطنين، وما يعزز ذلك ما أثاره القانون الجديد من انتقاد لمختلف الفاعلين في المجال الحقوقي، بدءاً من منظمة العفو الدولية، التي حذرت من أن إقراره سيجعل الحكومة الفرنسية "تنتهك ميثاق الأمم المتحدة الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية لعام 1966، الذي يحمي حرية التعبير".
وعبّرت كلير هيدون، رئيسة ديوان المظالم الفرنسي، عن قلقها الشديد من قانون "الأمن الشامل" المصادق عليه والذي يحظر نشر مقاطع فيديو أو صور لقوات الأمن أثناء الخدمة في أي وسيلة إعلام، مؤكدة أنه "قانون مثير للقلق، ينطوي على خطر انتهاك حرية التعبير".
ويواجه مشروع القانون رفضاً داخل البرلمان وخارجه، فداخل القبة التشريعية عبرت بعض الكتل البرلمانية المعارضة، بما في ذلك اليسارية منها عن رفضها للمادة 24، معتبرةً أنها "خطوة نحو الرقابة الذاتية"، مقابل ذلك تظاهر آلاف الفرنسيين في عدة مدن ضد هذا النص، منددين بما اعتبروه "قانوناً لقتل الحرية".
وحمل المتظاهرون شعار "سنترك هواتفنا عندما تلقون أسلحتكم"، معتبرين أن القانون الجديد هو انتهاك لحرية الصحافيين في كشف الحقائق، وسيُّصعب محاسبة أفراد الشرطة على أي انتهاكات، ومنها الاستخدام المفرط للقوة.
من جهتها عبرت جمعية الصحافيين الفرنسيين رفضها للمشروع، بنشر رسالة مفتوحة في الثامن من نوفمبر/تشرين الثاني 2020، إذ اعتبر أعضاؤها القانون الجديد أنه "تهديد لحرية التعبير".
ويؤكد الكاتب الصحافي الفرنسي علاء أبونجار في تصريح لـ"عربي بوست"، أن "مشروع القانون الجديد يعتبر تراجعاً كبيراً في مجال الحقوق والحريات في فرنسا"، معتبراً أن "المسألة ليست وليدة اللحظة بل ترتبط بسلسلة الهجمات الإرهابية لسنة 2015، التي تلاها تعامل بمنطق سياسي يعطي الأولوية للحلول الأمنية على حساب الحريات".
مقابل ذلك أكد الحقوقي عبدالمجيد مراري، المتحدث الرسمي باسم منظمة "إفدي"، في حديثه لـ"عربي بوست" أنه "سبق لمنظمتنا أن حذرت من موجة التراجعات الحقوقية التي تعيشها فرنسا، ليس بخصوص هذا القانون فقط بل قوانين أخرى سبقته منها قانون الهجرة وقانون الإرهاب الذي أدرج ضمن القانون الجنائي، الذي يسمح باقتحام البيوت بإذن إداري فقط خارج أوقات العمل دون رقابة القضاء".
واعتبر المتحدث أن تفاصيل هذا القانون هي "انتهاك للعهد الدولي الخاص للحقوق المدنية والسياسية، مشدداً على أن منظمته "على كامل الاستعداد للطعن في القانون المصادق عليه أمام كل المؤسسات المخول لنا الترافع أمامها".
عقوبات سالبة للحرية وغرامات بالملايين
تُطالب المادة 24 من قانون "الأمن الشامل" بفرض غرامة مالية قيمتها 45 ألف يورو، مع السجن لمدة عام، الأمر الذي اعتبره الحقوقي عبدالمجيد مراري في حديثه مع "عربي بوست "أمراً غريباً"، مؤكداً أن الأصل "ألا يعاقب الصحافي إلا بقانون الصحافة ولا يمكن السماح أبداً بمعاقبته ببنود القانون الجنائي"، مشدداً على أن "هذا مطلب حقوقي قديم ناضلت من أجله المنظمات الحقوقية واكتسبته ولا مجال للتراجع عليه".
نفس الطرح يتبناه الكاتب الصحافي الفرنسي علاء أبونجار، الذي قال إن "انتفاضة الحقوقيين والصحفيين ضد هذا القانون مشروعة"، معتبراً أن "مراقبة الشوارع بالفيديو والطائرات بدون طيار تمثل انتهاكاً صارخاً للحرية وخصوصية المواطنين". مبرزاً أن "الحكومة تستغل حديثها عن الأمن للمسّ بالخصوصية الفردية، ما يمثل تخويفاً للناشطين الحقوقيين، واستغلالاً لمخاوف الفرنسيين من الإرهاب للدفع بتشريعات مماثلة".
ويثير القانون قلق الناشطين الحقوقيين، إذ من شأنه -حسب تعبيرهم- تعزيز إفلات مرتكبي العنف من أفراد الشرطة من العقاب، بل ويسمح لهم بإخفاء تجاوزاتهم، وإزالة مصدر أدلة مهم أثناء ارتكابهم للقمع.
وطرح هذا المعطى للنقاش بعد استحضار مشاهد العنف التي مارستها الشرطة الفرنسية لمواجهة مظاهرات "السترات الصفراء"، واحتجاجات سابقة ضد إصلاح نظام التقاعد، تم تصويرها بالكاميرات، ونشرها على وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة، ما ترتب عليه فتح تحقيقات بحق رجال الشرطة.
ويرى الحقوقي عبدالمجيد مراري أن "هذا المشروع غطاء لرجال الأمن وضوء أخضر لتبرير الشطط في استعمال السلطة، كما أنه سيسمح لهم بخرق قوانين حقوق الإنسان، وممارسة العنف دونما رقيب".
ويتفق الكاتب الصحافي الفرنسي علاء أبونجار مع هذا الطرح بقوله إن "القانون خطر عن المواطنين والصحفيين على حد سواء، فالمواطن أيضاً ساهم في نشر فيديوهات توثق لتجاوزات الشرطة في فرنسا"، معتبراً أن مشروع القانون يمثل "تراجعاً كبيراً في مجال الحريات خاصة منها حرية الصحافة، ورغبة واضحة في حماية رجال الشرطة والتغطية على تجاوزاتهم واستخدامهم للعنف غير المبرر، ما سيؤدي إلى المزيد من الاحتقان الداخلي".
وأشار المتحدث إلى أن "رغبة ماكرون في الحفاظ على كرسي الرئاسة دفعته لاختيار الحلول الأمنية والسير على نهج يميني يجلب به مزيداً دعم اليمين المحافظ الذي يعشقه الفرنسيون ويصوّتون له".