نهاية الأسبوع الماضي، نشرت كريمة نادر، مواطنة وناشطة حقوقية مغربية، مقطعاً مصوراً على حسابها في فيسبوك، تستنجد فيه بالسلطات بسبب تسريب موقع "شوف تيفي" الإخباري وثيقة خاصة بطفلها القاصر، بعدما كانت قد أعلنت أنها أم عازبة.
وعلى الرغم من أن الفيديو الذي نشرته كريمة انتشر على مواقع التواصل، وتحولت قصتها إلى قضية رأي عام فإن السلطات لم تُعلن عن فتح أي تحقيق إلى حدود الساعة، الأمر الذي دفع المعنية بالأمر إلى طرق باب القضاء.
كريمة واحدة من بين مئات ضحايا المواقع الإخبارية في المغرب، فالتشهير الإعلامي لم يطَل السياسيين والمشاهير والمكلفين بالشأن العام فقط، بل مسَّ الحياة الخاصة ونهش في أعراض المواطنين العاديين وحتى الصحفيين، فالجميع لم يسلم من نار التشهير.
قانون جديد
مع انطلاق ثورات الربيع العربي سنة 2010 عرفت المملكة ثورة غير مسبوقة في عدد المواقع الإلكترونية الإخبارية، التي أصبحت تتجاوز الـ 500 في عام 2012 بعدما كانت لا تتعدى موقعاً واحداً فقط في عام 2007 وهو "هسبريس".
انتبهت الحكومة المغربية إلى هذا التطور غير المسبوق الذي يشهده الإعلام الإلكتروني في المغرب، فعملت على تأطيره من الناحية القانونية، فسنت القانون 88.13 الصادر سنة 2016، والذي فرضت من خلاله شروطاً جديدة تُلزم بأخلاقيات مهنة الصحافة، إلا أن ذلك لم ينعكس على أرض الواقع.
ومن بين الشروط التي حددها القانون الأخير أن يكون مدير النشر حاصلاً على شهادة من مستوى الإجازة أو دبلوم صحافة على الأقل مسلَّمة من طرف مؤسسات التعليم العالي، وأن يتوفر على صفة صحفي مهني، وأن يكون قاطناً في المغرب.
أيضاً، أعطى القانون للصحفيين الحق في الحصول على أي معلومة والولوج لمصادر الخبر والحصول على المعلومات من مختلف المصادر باستثناء المعلومات التي تتسم بطابع السرية.
وأعطى قانون الصحافة الأخير في المغرب الحق لكل القطاعات للاستفادة من الدعم العمومي مع تحديد شروطه، كما أن السلطات ملزمة بحماية الصحفيين من أي اعتداء أثناء مزاولة مهنتهم، وضمان قرينة البراءة في كل القضايا المعروضة أمام القضاء.
دخلاء على المهنة
يوجد بالمغرب حالياً 546 صحيفة إلكترونية قنَّنت وضعها فيما يتعلق بقواعد قانون الصحافة والنشر، بحسب أحدث تصريح لوزير الاتصال والثقافة عثمان الفردوس، إلا أن تقنين الأوضاع لا يحولُ دون ارتكاب "مجازر" يومية في حق المهنة وأخلاقياتها.
فوضى المواقع الإلكترونية تترأسها ثلاثة "مواقع إخبارية" أصبحت متخصصة في النبش في الحياة الخاصة للأشخاص، سواء بالفيديو أو الصورة أو بوثائق شخصية جداً.
يقول عزيز إدامين، الخبير الحقوقي والباحث في الإعلام لـ"عربي بوست" إن التطور السريع لعدد المواقع الإلكترونية لم يواكبه تخريج عدد كبير من الصحفيين، معتبراً أن بداية الإعلام الالكتروني في المغرب كانت على يد الصحفيين والمهتمين بمجال الصحافة والاعلام، إلا أنه بعد ذلك أصبح بعض الدخلاء يملكون مواقع إلكترونية، مما انعكس سلباً على المهنية والحرفية، واللجوء إلى الإثارة والبحث عن المشاهدات بكل الوسائل، حتى وإن كانت ضد أخلاقيات المهنة.
وحول ما إذا كان الجهل بأخلاقيات المهنة، والرغبة في الحصول على عدد أكبر من الزيارات هو الذي دفع بعض مالكي المواقع إلى البحث عن الفضائح واستهداف الحياة الخاصة لبعض المدافعين عن حقوق الإنسان، يرى الخبير الحقوقي، عزيز إدامين، أن الأمر لا يتعلق بالجهل بأخلاقيات المهنة بقدر ما يتعلق بتوجه عام تقوده "يد خفية" ويحركه عدد كبير من المواقع الإلكترونية في إطار إيقاع موحد، مشيراً إلى أنه عندما يراد استهداف شخص معين، نجد هذه المواقع تشهر به في تناغم وانسجام فيما بينها، معتبراً أننا "أمام عملية ممنهجة ومفكر فيها ومخطط لها".
رأي إدامين يشاطره فيه صلاح الدين المعيزي، صحفي مغربي وعضو النقابة الوطنية للصحافة، والذي اعتبر في حديثه مع "عربي بوست" أن التشهير لا يرتبط بالمواقع الإلكترونية فقط، بل حتى بعض الجرائد الورقية والوكالة الرسمية كانت تقوم به ضد بعض الأصوات المعارضة، لكن مع الانتشار السريع للمواقع الإلكترونية أصبحت الحياة الخاصة للأفراد مستهدفة بشكل كبير، مضيفاً أن سلاح التشهير لم يعُد له حدود.
ويرى المعيزي أن ضعف الثقافة الحقوقية عند بعض العاملين في وسائل الإعلام أحد العوامل التي ساهمت في انتشار ظاهرة "صحافة التشهير"، مما يستدعي العمل على إشاعة هذه الثقافة في الوسط المهني، ومحاربة الدخلاء على المهنة.
انتفاضة المهنيين
لم تكتفِ "مواقع التشهير" في المغرب باستهداف من تعتبرهم السلطة معارضين لها، بل امتدت لتنهش عدداً من أبناء المهنة، إذ تعرَّض عدد من الصحفيين للنبش في أعراضهم وحياتهم الخاصة، من بينهم هاجر الريسوني، الصحفية السابقة بجريدة "أخبار اليوم" المعارضة التي اعتقلت في آب/أغسطس 2019 ووجهت لها تهمة الإجهاض السري، وتعرضت بعدها لجلد آخر ومحاكمة من نوع ثانٍ على وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي.
هاجر الريسوني ليست وحدها، فقبلها تفجرت قضية الصحفي توفيق بوعشرين، زميلها في نفس الجريدة، الذي وُجهت له تهمة "الاتجار بالبشر" وحوكم إعلامياً قبل النطق بالحكم القضائي 15 سنة نافذة، وبعدها الصحفي عمر الراضي المتهم بـ"العمالة".
هذه الوقائع كلها دفعت أزيد من 100 صحفي مغربي إلى توقيع بيان يطالب الحكومة والمجلس الوطني للصحافة وتجمع المعلنين باتخاذ موقف حازم من المواقع والجرائد المتورطة في التشهير بالحياة الخاصة للمواطنين.
ودعا بيان الصحفيين وزارة الاتصال إلى ربط استفادة الجرائد والمواقع الإلكترونية الإخبارية من الدعم العمومي باحترام أخلاقيات المهنة واستبعاد المواقع والجرائد المتورطة في عملية التشهير، كما طالبوا المجلس الوطني للصحافة بتحريك "مساطر التوبيخ، والعزل في حق الصحفيين، والصحفيات، والمنابر الإعلامية، التي تحترف التشهير، والإساءة إلى الأشخاص، وخرق ميثاق أخلاقيات مهنة الصحافة، ونشر تقارير رسمية بخصوص عدم احترام قواعد وأخلاقيات المهنة بكل موضوعية وبشكل دوري، وذلك بعد التنبيه إلى هذه الخروقات، والمطالبة بسحبها، والاعتذار عنها، كما تفرضه المواثيق القانونية المعمول به.
ولم يكتفِ هؤلاء الصحفيون بالتوجه للحكومة والمجلس الوطني للصحافة، بل خاطبوا كذلك تجمع المعلنين بالمغرب بصفته ممولاً للصحافة عبر الإعلانات الإشهارية، وطالبوه بوضع معايير لحماية القراء عوض البحث عن المقروئية كمقياس وحيد، معتبرين أن مساندة صحافة رديئة لا تحترم أخلاقية المهنة فقط لأنها تجلب القراء أكثر هو مساهمة في إقبار الصحافة الجادة ومشاركة غير مباشرة في حملات التشهير والسب والشتم.
ويرى الصحفي صلاح الدين المعيزي، أحد الموقّعين على هذه العريضة، أن هذه المبادرة هي صرخة من الصحفيين من أجل حماية مهنتهم من بعض السلوكيات الدخيلة التي تسيء إليها.
وأشار المعيزي إلى أن المجلس الوطني للصحافة أخبرهم بشكل رسمي بأن الذين يملكون حق مراسلته هم المتضررون من التشهير، لكن المعيزي يرى أن المجلس يجب أن يتدخل تلقائياً عندما يكون هناك خرق جسيم لأخلاقيات المهنة سواء من خلال ضرب الحياة الخاصة، وعدم احترام قرينة البراءة.
المجلس الوطني للصحافة.. الغائب الحاضر
منذ أزيد من سنة تم إحداث هيئة جديدة تحت اسم المجلس الوطني للصحافة عهد إليها التنظيم الذاتي للمهنة، وفي مايو/مايو 2020، صدر النظام الداخلي للمجلس في الجريدة الرسمية وبدأ في ممارسة مهامه عبر لجانه، بما فيها لجنة أخلاقيات المهنة التي ستبث في الشكايات المتعلقة بخرق أخلاقيات المهنة، وعدم احترام ميثاق الأخلاقيات الذي صادق عليه المجلس ونُشر في الجريدة الرسمية.
ونشر المجلس في يونيو/حزيران 2020 تقريراً تضمن عدداً من خروقات ميثاق أخلاقيات المهنة في ظل جائحة فيروس كورونا المستجد، ونبه إلى ضرورة عدم تكرارها.
ويعوِّل الصحفيون المهنيون على أن يقوم المجلس الوطني للصحافة بالارتقاء بمهنة الصحافة وجعلها في خدمة المجتمع، على الرغم من أنه لم يحرك ساكناً في عدد من قضايا التشهير التي تملأ أخبارها وصورها وفيديوهاتها مواقع التواصل الاجتماعي.
ويرى الصحفي صلاح الدين المعيزي أن المجلس عليه تحّمل مسؤولية جسيمة في إيقاف سيل التشهير، والانتصار لأخلاقيات المهنة، ورد الاعتبار للذين تم التشهير بهم والمس بحياتهم الخاصة، بينما يرى الخبير الحقوقي عزيز إدامين أن المجلس الوطني غير قادر على وقف زحف صحافة التشهير، لكونه هو من منحهم بطائق الصحافة، كما أنه لم يتخذ أي قرار في حق صحفي مسَّ بأخلاقيات المهنة.
المجلس الوطني للصحافة حاول لملمة الاحتجاجات التي تواجهه بالتقصير في حماية المهنة فقام بخطوة افتراضية عقيمة، من خلال ندوة وطنية في العاصمة الرباط تحت شعار "حرية التعبير بين النقد والتشهير"، والتي تعهَّد من خلالها بمعالجة الشكايات الصادرة على لجنة الأخلاقيات، إلا أنه لحدود الساعة لم يتم اتخاذ أي قرار يُلجم، ولو قليلاً، فوضى المواقع الإخبارية في المغرب.