فوجئ المصريون يوم الجمعة 25 سبتمبر/أيلول الماضي، بأخبار عن توجه الحكومة لبيع أو استثمار أصول الدولة غير المستغلة وفقاً لشروط وقواعد من أجل "استغلالٍ أمثل لموارد الدولة"، وبالفعل تم حصر نحو 3700 من هذه الأصول على مستوى محافظات الجمهورية، وسيتم طرحها للاستثمار أو للبيع سواء للعرب أو للأجانب، بعد أن يتم ضمها أولاً لتكون تحت تصرف صندوق مصر السيادي.
ما أثار مخاوف الكثيرين أن تصريحات المسؤولين الحكوميين حول تعظيم الاستفادة من أصول الدولة غامضة إلى حد كبير، ذلك أن مفهوم "الأصول" هو مفهوم شامل، فكل ما ليس ملكية خاصة في مصر هو من أصول الدولة وتشمل الأراضي وشواطئ البحار، وقناة السويس، وآثار مصر، ومؤسسات القطاع العام ومباني الوزارات.
تلك الخطوات كان يتخللها من حين لآخر تصريحات لمسؤولين تمهد لخطة الصندوق "المجهولة"، حيث أعلن المدير التنفيذي للصندوق أيمن سليمان عن اعتزام الحكومة التخلص من بعض ديونها ببيع أصول مملوكة للدولة إلى مستثمرين عرب وأجانب بالشراكة مع صندوق مصر السيادي، مشيراً إلى إن فتح الباب للمستثمرين لشراء بعض الأصول من خلال تحالفات مع الصندوق ستتيح للاقتصاد المصري إعادة تدوير رؤوس الأموال، مضيفاً أنه إذا تمت المعاملات الاستثمارية على تلك الأصول فسوف تزيح عن كاهل الاقتصاد القومي ديوناً تثقل ميزانية الدولة.
في التقرير وعلى مدار 3 حلقات منفصلة نعرض تفاصيل الدور الذي قام به صندوق مصر السيادي، والاتفاقية التي أبرمها مع الإمارات للتصرف في أصول الدولة، وما علاقة إسرائيل؟
فكرة إنشاء الصندوق
بدأت فكرة إنشاء صندوق سيادي مصري عام 2017، وكان من المفترض أن يتولى إدارة الفوائض المالية للدولة في الخارج على غرار الصناديق السيادية الخليجية والصناديق المشابهة في دول أوروبا، ولصعوبة تنفيذ ذلك تم طرح فكرة إنشاء كيان لإدارة كافة أصول الدولة غير المستغلة، وأقر البرلمان مشروع قانون إنشاء الصندوق السيادي، في يوليو/تموز 2018، بهدف استغلال أصول الدولة، والتعاون مع المؤسسات والصناديق العربية والدولية.
وفي أغسطس/آب من العام نفسه وجدت الفكرة طريقها إلى أرض الواقع 2018، بإصدار الرئيس عبدالفتاح السيسي القرار بقانون رقم 177 بشأن إنشاء صندوق مصر السيادي "ثراء"، ثم بإصدار رئيس مجلس الوزراء مصطفى مدبولي اللائحة التنفيذية للقانون والنظام الأساسي للصندوق في مارس/آذار 2019.
اكتمل النصاب القانوني لإنشاء الصندوق بإعلان وزارة التخطيط والمتابعة والإصلاح الإداري، في 23 مايو/أيار 2019، تشكيل أعضاء مجلس إدارته برئاسة وزيرة التخطيط هالة السعيد، في منصب رئيس مجلس الإدارة غير التنفيذي، وممثل عن كل من وزارة التخطيط ووزارة المالية ووزارة الاستثمار، وخمسة أعضاء مستقلين من ذوي الخبرة. على أن تكون مدة العضوية 4 سنوات قابلة للتجديد مرة واحدة.
وبهذا تكون مصر قد أنشأت أول صندوق سيادي برأسمال مرخص له 200 مليار جنيه مصري، أي نحو 12.7 مليار دولار أمريكي، ورأسمال مصدر يبلغ 5 مليارات جنيه، أي نحو 318 مليون دولار، يُسدد منه مليار جنيه من الخزانة العامة للدولة عند التأسيس، ويسدد الباقي وفقاً لخطط فرص الاستثمار المقدمة من الصندوق خلال ثلاث سنوات من تاريخ التأسيس وكانت هناك توقعات أن يصل رأسمال الصندوق كما يقول القائمون عليه إلى تريليون جنيه (63.6 مليار دولار) خلال 3 سنوات أو أقل.
وفي غضون شهور قليلة، وبالتحديد في الأول من يونيو/حزيران وضع معهد صناديق الثروة السيادية العالمية، صندوق مصر السيادي ضمن قائمته التي تصنف صناديق الثروة السيادية العالمية، وحل في المرتبة الـ43 بين صناديق الثروة العالمية التي تصنفها المؤسسة والبالغ عددها 93 صندوقاً، بإجمالي أصول 8229 تريليون دولار.
ووفقاً لبيانات معهد صناديق الثروة السيادية، تقدر أصول الصندوق بـ11.959 مليار دولار، مستحوذاً بذلك على 0.14% من إجمالي أصول الصناديق السيادية العالمية.
وتعد هذه المرة الأولى الذي تصنف فيه المؤسسة العالمية المتخصصة في بيانات الصناديق السيادية، الصندوق السيادي المصري.
لماذا تم نزع كلمة "سيادي" من اسم الصندوق؟
يبدو أن اسم الصندوق كان مصدر حيرة وارتباك للمسؤولين، ففي العاشر من فبراير/شباط من العام الجاري، أقرت لجنة الخطة والموازنة بمجلس النواب المصري تعديلات على مشروع قانون صندوق مصر السيادي، خلال اجتماعها، استهدفت تغيير اسم "صندوق مصر" في القانون إلى "صندوق مصر السيادي للاستثمار والتنمية" ومنحه مزايا ضريبية، وحصانة قضائية من الطعن على عقوده، والتوسع في أهدافه.
لكن بعد مرور سبعة شهور ونصف أصدر الرئيس المصري، في التاسع والعشرين من سبتمبر /أيلول الماضي القانون رقم 197 لسنة 2020 بتعديل بعض أحكام القانون رقم 177 لسنة 2018 بإنشاء صندوق مصر تستبدل عبارة "صندوق مصر السيادي للاستثمار والتنمية" بعبارة "صندوق مصر"، وذلك أينما وردت في القانون رقم 177 لسنة 2018 بإنشاء صندوق مصر وفي أي من القرارات الصادرة تنفيذاً له.
وهو الأمر الذي أرجعه نشطاء إلى التغطية على كلمة "سيادي" التي تثير الاستياء أينما ذكرت.
وفي سبتمبر/أيلول 2020 أطلق الصندوق السيادي المصري باكورة صناديقه الفرعية، المتمثل في صندوق مصر الفرعي للخدمات المالية والتحول الرقمي، وذلك برأسمال مرخص به 30 مليار جنيه، ومصدر 500 مليون جنيه.
هل الاقتصاد المصري يمتلك ترف تدشين صندوق سيادي؟
من وجهة نظر خبراء الاقتصاد فإن الفوائض المالية للحكومات لا تترك في صورة سائلة وغير مستغلة، ويتحتم عليها استغلال هذه الفوائض في أنشطة اقتصادية تدر عوائد مرتفعة.
وعندما تتجمع هذه الفوائض من مصادر مختلفة فإن قواعد الرشد الاستثماري تقتضي توحيد الإدارة الاستثمارية لهذه الفوائض، وجعلها تحت سيطرة مباشرة من الحكومة وأجهزتها الاستثمارية؛ وهو ما يخلق الحاجة لإنشاء الصناديق السيادية.
لذلك ارتبط ظهور مثل هذه الصناديق بفوائض النقد الأجنبي التي تحققت من أنشطة التصدير، سواء في موازنات الدول الصناعية المتقدمة، أو في موازنات الدول المصدرة للمواد الخام (الدول النفطية أوضح مثال). فالدول التي تكونت لديها الفوائض المالية اعتمدت على هذه الصناديق في التصدي لمشكلة كامنة في بنيانها الاقتصادي.
ففي حالة الدول المتقدمة، وبسبب تراجع قدرة أسواقها الداخلية على استيعاب مزيد من الاستثمارات، لجأت حكوماتها لاستخدام هذه الصناديق في تصدير الفوائض المالية في الأسواق الخارجية، واستغلالها بشكل يحافظ على أصولها المالية من التآكل بفعل التضخم.
أما في حالة الدول المصدرة للمواد الخام، وبالإضافة لضعف الطاقة الاستيعابية لاقتصاداتها الضيقة، وحاجتها للاستثمار في الأسواق الخارجية، فلقد كان الأساس الاقتصادي وراء تدشين هذه الصناديق، نابعاً من وعيها بنضوب ما تمتلكه من مواد خام، ومن سعيها للحفاظ على حقوق الأجيال القادمة في هذه الموارد الاقتصادية.
ولذلك، فقد ألقت على عاتق هذه الصناديق مسؤولية استدامة الدخل الوطني، حال نضوب ما تملكه من هذه المواد غير المتجددة.
فضعف القدرة الاستيعابية للاقتصاد، والحاجة لاستدامة الدخل الوطني من أرصدة المواد الخام، هما الأساسان الرئيسيان لقيام الصناديق السيادية في التجربة الدولية.
لكن في المسألة المصرية تنتفي الأسس الموضوعية لحاجته لمثل هذه الصناديق، فالاقتصاد المصري بصورته الراهنة يتمتع بطاقة استيعابية كبيرة. فحاجته الماسة لتحفيز الاستثمار المحلي على التوسع، ولتشجيع الاستثمار الأجنبي على القدوم والتوطن (بما فيها استثمارات الصناديق السيادية الدولية)، هي مما يسير به الركبان. كما أن الاقتصاد المصري في ذات الوقت لا يمتلك ترف "الفوائض الدولارية"، ليدشن بها صندوق استثمار سيادياً، ليستثمر هذه الفوائض في الأسواق الدولية.
يشير أحمد السيد النجار وهو خبير اقتصادي في مقال غير منشور له تحت عنوان "الصندوق السيادي المصري.. البوابة الملكية للخصخصة والاستدانة وهيمنة الأجانب وتغييب العاملين عن تقرير مصير شركاتهم" أن الصناديق السيادية تؤسس من قبل الدول ذات الفوائض المالية الريعية أساساً لإدارة تلك الفوائض وتنميتها لصالح الأجيال القادمة أو كاحتياطي استراتيجي يمكن اللجوء إليه في أوقات الأزمة الكبرى والوجودية، لذا نجد أن أكبر الصناديق السيادية تملكها دول صغيرة مثل بعض إمارات الخليج وجزر الأوفشور، وهي دول غنية من ريع نفطها أو من ريع دورها كملاذات ضريبية ترعى الاحتيال الضريبي، أو من ريع دورها في رعاية غسيل الأموال.
ويمتلك عدد محدود من الدول التي لا تدخل في تلك التصنيفات صناديق سيادية صغيرة، لكن الصين التي تقوم الدولة فيها بدور جوهري وحاكم في الاقتصاد، تعد حالة خاصة لدولة تملك صندوقاً سيادياً عملاقاً يتم تمويله من الفوائض الهائلة التي تحققها الدولة والشركات المملوكة لها.
أما مصر فإنها دولة عجز مالي بامتياز، فالظروف المالية لإنشاء أي صندوق سيادي لإدارة الفوائض غير موجودة من الأساس في مصر.
الدستور يجرّم التصرف في أصول الدولة
يأتي ذلك على الرغم من أن الدساتير المصرية تجرّم بيع أصول وممتلكات الدولة، حيث تنص المادة 32 منه، على عدم جواز التصرُّف في أملاك الدولة العامة، بينما تنصُّ المادة 34 على أنه "للملكية العامة حرمة، لا يجوز المساس بها، وحمايتها واجب وفقاً للقانون"، ومن ثم فإن الشروع في بيع أصول الدولة مخالفة للدستور، لأنها ليست ملكاً للحكومة، وإنما ملك للشعب؛ ومن ثم فإن بيعها، دون إرادة الشعب وموافقته، مخالف للدستور والقانون.
50 إلى 60 ملياراً قيمة الأصول التي ستنتقل ملكيتها للصندوق حتى الآن، ولا توجد خطة واضحة للتعامل معها
تواترُ الحديث عن الاستعداد لبيع الأصول فتح الباب أمام مخاوف كثيرة وتساؤلات أكثر عما إذا كانت الحكومة مطلقة اليد في التصرف فيما يسمى أصول الدولة، بلا حدود لما يجوز لها أن تفعل وما لا يجوز، ومن سيستفيد من عمليات البيع المرتقبة.
وتعززت المخاوف حين أصدر الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي، بداية سبتمبر/أيلول الماضي، قراراً يقضي بإزالة صفة النفع العام عن أملاك عامة للدولة، ونقل ملكيتها إلى صندوق مصر السيادي، تمهيداً لبيعها، كان أشهرها مبنى مجمع التحرير الشهير ومبنى الحزب الوطني المنحل الذي يقع خلف المتحف المصري ويطل على كورنيش النيل قريباً من ميدان التحرير.
عضو باللجنة المخصصة لحصر أصول الدولة غير المستغلة قال لـ"عربي بوست"، إنه يجري التحضير لنقل أصول بقيمة تتراوح بين 50 و60 مليار جنيه، قيمة الحزمة الأولى المستهدفة خلال أول 12 شهراً، من أصول غير مستغلة وأصول يجري استغلالها وتم عمل عرض تقديمي لهذه الأصول، وتتضمن أراضي ومنشآت في مناطق مميزة بالعاصمة والمحافظات، مشيراً إلى أن الصندوق سيتولى فيما بعد، طرح هذه الأصول للبيع أو للاستثمار بنظام المشاركة أو الاستغلال بنسب متباينة قد تكون 50-50 أو 70-30 أو 60-40، بحسب التكلفة الاستثمارية والهيكل التمويلي لكل مشروع.
لكن العضو تجاهل الرد على سؤالنا حول السند القانوني لتولي مؤسسة لا تخضع لأي رقابة، التصرف في مباني وأراضي الدولة، خاصةً أنها تتضمن بعض المباني التاريخية والتراثية، مكتفياً بإعادة ترديد ما يقوله كل مسؤولي الصندوق منذ إنشائه، من أنه "سيكون قادراً على العمل متحرراً من القيود البيروقراطية، وفقاً للضوابط والتوازنات من داخل الإدارة الحكومية التي يعجز المستثمرون عن التعامل معها".
وختم تصريحه المقتضب بالقول إنهم حالياً يجمعون بيانات الأصول غير المستغلة بكل المحافظات؛ لفرزها وتقييمها وتحديد أولويات طرح أي منها للبيع أو للشراكة مع المستثمرين، دون أن يوضح من هم المستثمرون المستفيدون، مكتفياً بالرد: "سيكونون إما عرباً وإما أجانب".
وكان أيمن سليمان، المدير التنفيذي لصندوق مصر السيادي، قد أطلق تصريحاً غريباً في مقابلة مع وكالة أنباء رويترز، في 12 ديسمبر/كانون الأول 2019، قال فيه إن شهية المستثمرين ومتطلباتهم هي التي ستحدد الأصول التي سيسيطر عليها صندوق مصر السيادي.
وفي 8 ديسمبر/كانون الأوّل الماضي، قالت الدكتورة هالة السعيد وزيرة التخطيط والتنمية الاقتصادية، خلال اجتماعها مع الدكتور مصطفى مدبولي رئيس الوزراء، إنه يجري حالياً عقد لقاءات مع عدد من المستثمرين السعوديين الذين أكّدوا رغبتهم في المشاركة بالصندوق السيادي. وقالت إنه من المقرر أيضاً عقد لقاءات أخرى مماثلة مع عدد من المستثمرين الإماراتيين الأعضاء في مجلس الأعمال المصري-الإماراتي للمشاركة فيه.
أما ما يتعلق بالاتفاقية التي أمر بها الصندوق مع دولة الإمارات، فهذا ما سنتعرض له في الجزء الثاني من التقرير.