هيلين طروادة.. هل كانت ملكةً مظلومةً في إسبرطة أم “لعوباً” جلبت العار لمدينتها؟

إذا شاهدت فيلم Troy أو قرأت قصّة حصان طروادة فأنت بالطبع تنتابك مشاعر متضاربة تجاه هيلين الطروادية ، المرأة الفاتنة التي تسببت بالحرب الأسطورية التي قضت على مملكة طروادة. وربما ينتابك نفس التضارب في المشاعر بخصوص باريس، الأمير الوسيم الذي أحبّ هيلين واقتادها إلى طروادة.

عربي بوست
  • ترجمة
تم النشر: 2020/09/02 الساعة 14:23 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/09/03 الساعة 20:48 بتوقيت غرينتش
هيلين الطروادية من فيلم Troy

إذا شاهدت فيلم Troy أو قرأت قصّة حصان طروادة فأنت بالطبع تنتابك مشاعر متضاربة تجاه هيلين الطروادية، المرأة الفاتنة التي تسببت بالحرب الأسطورية التي قضت على مملكة طروادة. وربما ينتابك نفس التضارب في المشاعر بخصوص باريس، الأمير الوسيم الذي أحبّ هيلين واقتادها إلى طروادة.

في الفيلم، تبدأ الحرب القاسية لمدة 10 سنوات، ويقتل فيها الكثير من الناس الأبرياء، فقط لأنّ هيلين وباريس وقعا في الحبّ، وهي امرأةٌ متزوجة من مينلاوس وهو قائد كبير وأخ للملك القاسي أجاممنون.

لكنّ صورة هيلين في الفيلم لم تكن هي الوحيدة، وفي هذه الحروب القديمة الأسطورية هناك دائماً الكثير من وجهات النظر في الشخصيات الأساسية.

المعروف في القصّة أنّ جيش إسبرطة ترك حصاناً كبيراً معبأً بالفرسان وانسحب، ظنّ الطرواديون أنهم انتصروا وسحبوا الحصان إلى داخل المدينة للاحتفال، وفي مساء تلك الليلة تسلل الفرسان من الحصان ودخلوا المدينة وسيطروا عليها. ليصبح مثال "حصان طروادة" معروفاً عبر السنين.

فهل كانت هيلين مخادعة أم امرأة عاهرة أم تواطأت مع الإسبرطيين للإيقاع بطروادة؟! 

هذا الموضوع من موقع The Collector يتناول شخصية هيلين كما ظهرت في العديد من الأدبيات الإغريقية القديمة ويعرض لنا شخصياتها المختلفة.

هيلين
هيلين والأمير باريس، مشهد من فيلم Troy

هيلين.. هل هذا هو الوجه الذي أطلق ألف سفينة؟

العنوان السابق هو اقتباس، وكله ليس من قصيدةٍ قديمة لشعراءٍ إغريق مثل هوميروس أو رومان مثل فيرجيل. بل إنه مأخوذ من مسرحيةٍ كتبت في القرن السادس عشر، وهي مسرحية "دكتور فاوست"، لكاتبها كريستوفر مارلو، التي ألَّفها بعد أكثر من ألفيّ عام من أول ظهورٍ أدبي لهيلين في الإلياذة لهوميروس. وهذا الاقتباس هو الوصف الأشهر لهيلين الطروادية.

أصبحت قصة هيلين الطروادية مع الزمن إحدى تلك القصص التي صمدت أمام اختبار الزمن. تُعَدُّ هيلين شخصيةً ساحرة وفاتنة عبر العصور، من ملحمة هوميروس إلى أفلام هوليوود.

لكن لماذا صمدت شخصية هيلين كلَّ هذا الوقت؟

هل جمالها الخلَّاب هو الذي جَذَبَ إليها الأنظار أم دورها في إحدى أكثر الحروب دمويةً في التاريخ؟ هل كانت امرأةً مظلومةً وضحيةً لاختطافٍ وحشي، أم أنها "ساقطة" موصومة بالعار تسبَّبَت رغباتها المستهترة في مقتل عدة آلاف من الناس؟ 

إن تصويراتها في الفن والأدب في اليونان القديمة وروما هي التي خَلَقَت هذه الحالة من الغموض حولها، لذا علينا أن نعود إلى هذه المصادر لنحاول كشف اللغز الذي تمثِّله هيلين الطروادية.

هيلين الطروادية في الأساطير الإغريقية

أقدم الأساطير الإغريقية تعتبر أن هيلين ابنة الإله زيوس والإلهة نمسيس. غير أنّ قصة الأصل الأكثر شيوعاً هي أنها كانت ابنة زيوس وليدا، الأميرة الأيتولية التي أصبحت ملكة إسبرطة.

كانت والدتها ليدا رائعة الجمال وقد زارها زيوس في هيئة بجعة. تنوَّعَت القصص بين أن زيوس قد اغتصبها وأنه قد أغراها، لكنّ نتاج ذلك كان ولادة هيلين وأخيها بولوكس، الذي وُلِدَ في هيئة بيضة. وأنجَبَت ليدا في الوقت نفسه كليتيمنيسترا وكاستور، بوسائل طبيعية، نتيجة زواجها بالملك تينداريوس، ملك إسبرطة.

في إحدى الأساطير، يختطف ثيسيوس هيلين في شبابها قبل أن ينقذها أخواها التوأم كاستور وبولوكس. وهذه القصة ربما تكون تمهيداً لرحلتها اللاحقة إلى طروادة.

أمّا عن رحلة هيلين إلى طروادة فتبدأ بمسابقةٍ بين ثلاث إلهاتٍ إغريقية يتنافسن من فيهنّ الأجمل؟

قادت الأقدار الأمير الطروادي باريس الوسيم ليقف أمام الإلهات الثلاث: هيرا وأثينا وأفروديت، ليؤدي مهمة لا يحسد عليها وهي: أن يقرر أيهنّ الأجمل.

قدّمت كل إلهة حافزاً لباريس لتؤثِّر على قراره. لكنّ أفروديت تكسبه إلى جانبها حين تقدم له أجمل امرأة في العالم: هيلين الإسبرطية.

يسافر باريس بعدها في مهمةٍ دبلوماسية إلى إسبرطة، حيث توجد هيلين زوجة الملك مينيلاوس.

Troy
هيلين

يُحسن مينيلاوس استضافة باريس. لكنّ باريس في يوم رحيله، يأخذ هيلين على سفينته في اللحظة الأخيرة ويبحر كلاهما ناحية طروادة، على الساحل الغربي لتركيا الحالية. 

بعد ذلك أبحر الأسطول الإغريقي ناحية طروادة، عازماً على الانتقام لشرف مينلاوس وإعادة هيلين إليه. وهكذا بدأت سنوات حرب طروادة العشر.

هيلين في شعر هوميروس

نريد أن نذكّر القارئ بأنّه لا يتضح الخط الفاصل بين الأسطورة والتاريخ في عالم الإغريقيين القدماء.

يجادل البعض مثلاً بأنّ شعر هوميروس الملحمي يمكن أن يمثل نقطة تحولت عندها الأسطورة الإغريقية إلى حقيقة. إن كان هذا صحيحاً، فإن الإلياذة والأوديسة اللتين ألفهما هوميروس تظهر فيهما هيلين بطلةً تاريخية.

ينقسم المؤرخون حول ما إذا كانت حرب طروادة قد وقعت بالفعل أم أنها مجرد أسطورة. لكن هناك أدلة حفرية تُشير إلى وقوع حدثٍ مُدمِّر في طروادة في عام 1200 قبل الميلاد أو نحو ذلك.

قصيدة الإلياذة التي كتبها هوميروس في القرن الثامن قبل الميلاد هي عن المرحلة الأخطر في حرب طروادة. يركز هوميوس على الشخصيات الفانية والإلهية معاً، والتي تتلاقى في قصةٍ دراميّة عن الدمار والتضحية بالنفس.

المثير للاهتمام أن هيلين التي لعبت دوراً محورياً في اندلاع الحرب تظهر في ثلاثة أجزاء فقط من قصيدة هوميروس.

في أول مرة تذكر فيها هيلين في القصيدة نجدها تخيط بساطاً يعرض مشاهد من الحرب. وبينما تفعل هذا، يناقش حكماء وأعيان طروادة جمالها الإلهيّ الأخّاذ. وهي كامرأة تنسج في منزلها وجميلة المظهر، تجسِّد الأنثى المثالية في العالم الإغريقي.

وفي خلال القصيدة، تركز هيلين على العار العظيم الذي تشعر به بسبب المصير الذي جلبته على مدينة طروادة. وتعبر أيضاً عن إحساسٍ ملحوظٍ بالندم؛ لأنها تركت زوجها السابق مينيلاوس، بل وتشير لنفسها على أنها "عاهرة". وهذا اللوم لنفسها جعلها شخصية تستثير شفقة القارئ.

أمّا في قصيدته الثانية: الأوديسة، نلتقي بهيلين مرة أخرى، بعد أعوامٍ من انتهاء حرب طروادة. عاد الإغريق المنتصرون إلى وطنهم وأعاد مينيلاوس زوجته الهاربة هيلين إلى إسبرطة. وهنا في هذه القصيدة، هيلين هي الزوجة المطيعة التي تجلس ساكنة عند قدمي مينيلاوس وتلبي كل احتياجات ضيوفه.

لكن حين يذكر مينيلاوس دورها في دخول حصان طروادة، نرى جانباً آخر من هيلين. إذ يُشار إلى أنها خدعت أهل طروادة لإدخال الحصان الخشبيّ إلى المدينة وتحقيق النصر للإغريق، ما يظهر جانباً مخادعاً وماكراً من شخصيتها.

لذا، نرى هيلين في هوميروس تحمل كل جوانب شخصية المرأة الإغريقية كما رأتها عيون الرجال. فهي: خاضعة وجميلة، لكنها في الوقت نفسه يمكن أن تكون مخادعة ولا أخلاقية.

هيلين البريئة التي لا تعلم شيئاً!

كان يوريبيديس كاتباً مسرحياً إغريقياً كتب عدداً من التراجيديات في القرن الخامس قبل الميلاد. ويبدو أنه يرى هيلين شخصية رائعة، لأنها تظهر في ثلاث من مسرحياته.

في إحدى مسرحياته يدين يوريبيديس هيلين بسبب دورها في حرب طروادة، وينتقدها بقسوةٍ، حيث يحكم زوجها السابق مينيلاوس عليها بالموت بعد المعركة، وحين تطلب الرحمة تقنعه امرأة أخرى، وهي الملكة هيكوبا الطروادية، بأن يصر على إعدامها.

تقول الملكة إنّ هيلين كانت متواطئة بالكامل حين غادرت إسبرطة مع باريس، وإنها "عاهرة"، وصوّرت هيكوبا هيلين على أنها انتهازية مخادعة تبيع طروادة أو اليونان إن ناسب ذلك أهدافها.

حرب طروادة
مشهد من حرب طروادة في فيلم Troy

لكن في مسرحيةٍ أخرى يتتبّع يوريبيديس نسخةً مختلفة تماماً من هيلي، إذ يجعلها مقيمةً في مصر أثناء حرب طروادة، وفي ذلك الوقت في طروادة كان شبح هيلين فقط هو الذي أرسلته الإلهة هيرا ليعيث في الأرض فساداً.

في هذه الحكاية الغريبة يبدو أن يوريبيديس يبرِّئ هيلين من أي لومٍ مُلقى عليها في حرب طروادة، بدلاً من ذلك تظهر هيلين شخصية غير نشطة تتشوه سمعتها بإرادة الآلهة.

وبذلك يستكشف يوريبيديس رؤيتين متطرِّفتين بخصوص مسؤولية هيلين عن حرب طروادة، فمن ناحية هي "عاهرة متواطئة"، ومن الناحية الأخرى هي مجرّد متفرجة مظلومة، لكن هل هناك نسخة أكثر إقناعاً من هاتين؟

هيلين من منظور امرأة

كانت سافو شاعرةً غنائية إغريقية، كتبت في القرن السابع قبل الميلاد، وهي واحدة من الشاعرات القليلات للغاية اللاتي بقي عملهنّ موجوداً حتى يومنا هذا. كتبت سافو أشعار حب للرجال والنساء، وفي إحدى قصائدها تشبِّه المحبوبة بهيلين الطروادية.

في هذه القصيدة تصوِّر سافو هيلين على أنها امرأةٌ تَرغب ولا يُرغب فيها، هيلين هي التي تترك مينيلاوس من أجل باريس، وليس باريس هو الذي يغريها ويقتادها على غير رغبةٍ منها، وبذلك تضفي سافو الفاعلية على هيلين، ولا تجعلها مجرد متفرجة خاملة.

على العكس من هوميروس ويوريبيديس، لا تُصدر سافو أية أحكامٍ على هيلين، فهي لا تصفها بأنها خاطئة أو عاهرة، بل تقدِّمها على أنها امرأة شعرت بحبٍ جارف لم يسعها تجاهله، ومع أن لها زوجاً نبيلاً وولداً وحيداً ووالدين محبّين في إسبرطة، فإنها تتبع قلبها إلى طروادة.

تركز سافو في هذا التصور عن هيلين على قوة الحبّ والرغبة، التي تصفها القصيدة بأنها "أعظم جمالٍ على هذه الأرض". لم تكن هيلين في عين سافو عاهرة أو ضحية خطف، بل امرأة غارقة في الحب، حتى وإن كان لهذا الحب عواقب وخيمة على مملكةٍ كاملة.

هيلين في الفن الإغريقي والروماني

منذ القرن السابع قبل الميلاد، صوّر الرسامون الأثينيون مشاهد الأساطير والأشعار الملحمية على مزهرياتهم. فنرى شخصياتٍ مشهورة مثل أخيل وهرقل وأوديسيوس، الذين سرعان ما صاروا من مصادر الإلهام على المزهريات.

بالتالي ليست مفاجأة أن هيلين الطروادية، المشهورة بجمالها الأخاذ، وجدت طريقها إلى الأعمال الفنية الإغريقية والرومانية.

تُظهر إحدى الرسمات هيلين بجلدٍ بلون أبيض نقي، إشارة إلى جمالها وللتمييز بينها وبين الآخرين، لكن هذا التفصيل يُشير أيضاً إلى اللقب الذي استعمله هوميروس مراراً في وصفها: هيلين بيضاء الذراعين.

ويبدو أن صور هيلين في رسومات المزهريات والتصاوير الجَصِّيّة والنقوش على الأحجار تعكس التمثيل المتباين لشخصيتها في المصادر الأدبية المختلفة، ففي بعض الأحيان تظهر هيلين وهي تُسلِّي باريس، وهناك عنصر من الإغراء في وقفتها، إذ تعبث بفستانها بيدها، ومن التصاوير المنتشرة أيضاً ما يظهر أخذها إلى طروادة رغماً عنها.

واستعمل الفنانون رسوماً مأساوية من الأساطير لتزيين الجرات والنعوش الجنائزية، ومنها جرة تحمل رسمة تشير إلى تفسير موقف هيلين بأنّها مختطفة. وهنا تُحمل هيلين إلى سفينة باريس مع ممتلكات أخرى، ويمسك بها رجلان، إشارة إلى هشاشتها وغياب إرادتها الحرة.

وتوجد قصة الاختطاف كثيراً في الفنّ الروماني، ففي رسمة حائط قديمة تظهر هيلين مصدومةً ومشتتة؛ إذ يصطحبها إلى السفينة عبدان بالإكراه، ويظهر في الخلفية وجودٌ منذر بالشؤم لجندي طروادي، ليذكِّر بحالتها الجديدة في الأسر.

بعد النظر إلى بعض الانطباعات الفنية والأدبية عن هيلين الطروادية قد يستحيل الكشف عن هيلين "الحقيقية"، خاصة حين يصورها الرجال من منظور المثالية. لكن ربما الشاعرة سافو هي من نقلت الصورة الأقرب إلى الحقيقة لهيلين، في قصيدتها ليست هيلين ضحية ولا عاهرة، بل امرأة لها صوتها الخاص بها، وتعترف بتبعات أفعالها، لكنها تختار الحب رغم كل شيء مهما كانت نتائجه.

تحميل المزيد