أدت الأنباء المنتشرة حول اقتراب توقيع اتفاقية تعاون بين الصين وإيران، مدتها خمسة وعشرون عاماً، إلى إثارة المخاوف من التقارب المتزايد بين الدولتين المعاديتين للولايات المتحدة.
فقد كشفت صحيفة نيويورك تايمز تفاصيل عن الاتفاقية المزعومة، التي تفيد بأنها "ستوصل نفوذ الصين إلى الشرق الأوسط، وتمد إيران بشريان حياة اقتصادي، وتصنع المزيد من نقاط التوتر مع الولايات المتحدة".
تبدو هذه المخاوف مبالغاً فيها. فالنص المسرّب للاتفاقية يُسهب في الحديث عن الرؤى، لكن تنقصه الالتزامات الفعلية بين الطرفين، حسبما ورد في تقرير لمجلة The National Interest الأمريكية.
اتفاقية تعاون بين الصين وإيران ستسمح بتواجد للجيش والاستخبارات الصينية في الخليج
ويظل كلا البلدين قلق من الاعتمادية الزائدة على بعضهما البعض، ولديهما الكثير من الدوافع للمحافظة على المرونة في المواقف، لكن حتى مع بقاء تهديد المحور الصيني الإيراني للولايات المتحدة منخفضاً حتى الآن، فإن درجة أكبر من التعاون قد تؤدي إلى تقوية الجيش الإيراني وزيادة تواجد الجيش الصيني والاستخبارات الصينية في منطقة الشرق الأوسط. هذه التحديات المشار إليها من بعيد في الاتفاقية هي المشاكل الأصعب التي سيتعين على الولايات المتحدة مواجهتها في الأعوام القادمة.
في يناير/كانون الثاني 2016، اتّفق البلدان على وضع "اتفاقية تعاون شاملة" مدتها 25 عاماً، ضمن "الشراكة الاستراتيجية الشاملة" الجديدة بينهما. ويُشير المستند المسرّب المكون من 18 صفحة أن الطرفين على وشك الانتهاء من هذه الاتفاقية، ولم يُشكّك أيٌّ منهما في صحة التسريب، غير أن النسخة النهائية قد تختلف.
وتتوقع الاتفاقية أن الطرفين سيستكملان أو يوسّعان التعاون بينهما في ست مجالات أساسية، من بينها الاستثمارات الصينية وشراء النفط والغاز الطبيعي الإيراني، والبنية التحتية (بما يشمل مساعدة الصين في تطوير مينائي شبهار وبندر عباس)، والتكنولوجيا (الجيل الخامس والذكاء الاصطناعي)، والقطاع البنكي والتجارة، والدفاع (بتركيز على مكافحة الإرهاب)، والتنسيق داخل المؤسسات متعددة الأطراف.
وهناك أسباب جيدة لتعاون الصين وإيران في تلك المجالات.
النفط مقابل التكنولوجيا والبنية التحتية
فالاقتصادان متكاملان، إذ إن الصين هي أكبر مستورد للنفط في العالم، وإيران تبحث عن مشترين للنفط على استعداد لتحدي العقوبات الأمريكية. وإيران بحاجة إلى بنية تحتية حديثة في قطاعات مثل السكك الحديدية وشبكات الجيل الخامس، وهي قطاعات تتفوق فيها الشركات الصينية. وقد حددت بكين أن إيران يمكن أن تكون نقطة وصل بين شينغيانغ والشرق الأوسط ضمن مبادرة الحزام والطريق.
واستراتيجياً، كلا البلدين تحركهما رؤية مشتركة للخصومة مع واشنطن، ومخاوف من مساعي التدخل العسكري الأمريكية. وتريد إيران أسلحة وخبرات صينية لبسط نفوذها العسكري في المنطقة، بينما تسعى الصين إلى تمهيد سوقٍ مربحة للسلاح في إيران وجعلها حائطاً دفاعياً يصد القوات الأمريكية عن آسيا.
عرقل التعاون بين البلدين في السابق معارضة الصين لبرنامج تخصيب اليورانيوم في إيران، ورغبة بكين في تجنب التعامل مباشرة مع دولة منبوذة على الساحة الدولية، لكن الاتفاقية الشاملة للبرنامج النووي الإيراني في 2015، التي فرضت قيوداً على البرنامج النووي الإيراني، قلّلت هذه المخاوف.
وبعد أسبوع فقط من دخول الاتفاقية حيز التنفيذ، زار الرئيس الصيني شي جينبينغ طهران ووقع اتفاقية "الشراكة الاستراتيجية الشاملة". منذ ذلك الحين كوّن البلدان علاقات في قطات شتى، من بينها تمويل الصين لمشروعات السكك الحديدية الإيرانية، وبروز الصين كأكبر مشترٍ للنفط الإيراني، ولقاءات رفيعة المستوى بين مسؤولي البلدين.
أما العلاقات العسكرية، التي ازدهرت في الثمانينات، حين صارت الصين أكبر مزودٍ للسلاح الإيراني، فقد عاودت الظهور على الساحة مرة أخرى. في ديسمبر/كانون الأول 2019، نفذت السفن البحرية الصينية والإيرانية والروسية مناورة في خليج عمان، موضحة ما وصفه محللون باصطفاف استراتيجي بين الدول الثلاث.
الاتفاقية المسرّبة تشير إلى أن الشراكة سوف تكون محدودة
ويبدو أن الاتفاقية المسربة تلخص هذا التعاون القائم بالفعل، وتقدم لمسات عريضة لمسار تطور هذه الشراكة في المستقبل، غير أن غياب التفاصيل عن الاتفاقية يشير إلى محدودية هذه الشراكة. وقد فحص محللون إيرانيون النص الفارسي بعناية، ولم يجدوا فيه أي ذكر لاستثمار محدد أو أهداف تجارية. لم تُلزم الصين نفسَها بشراء كمية معينة من النفط، لكنها "ستستورد بانتظام". ولا يأتي المستند على ذكر المزاعم الإيرانية السابقة بأن الصين ستستثمر 400 مليار دولار في إيران مقابل خصومات ضخمة على أسعار النفط الإيراني. ولا يدعم النص صحة الشائعات بأن الصين ستنشر خمسة آلاف جندي في إيران لحماية استثماراتها، أو أن الصين ستشتري من إيران جزيرة كيش، التي تتميز بموقعها الاستراتيجي.
الصين لا تريد إغضاب السعودية
وكلا الطرفين من مصلحتهما إبقاء الاتفاقات على أكبر قدرٍ من الغموض. فقد حاولت الصين لوقتٍ طويل تحقيق التوازن بين العلاقات الصينية الإيرانية ومصالحها في الخليج، إذ تظل السعودية من مزودي النفط الأكثر أهمية بكثير للصين، بأربعين مليار دولار في عام 2019 مقابل 7 مليارات دولار من النفط الإيراني. وفي حين تصدّر الاتفاق مع إيران عناوين الأخبار، تعمل بكين في الوقت نفسه على تحسين "شراكاتها الاستراتيجية الشاملة" مع السعودية والإمارات، إضافة إلى شراكات استراتيجية مع الكويت وقطر وسلطنة عمان. دول الخليج من الشركاء الدبلوماسيين المهمين للصين، ويشاركونها مواقفها في قضاياها من شينجيانغ إلى هونغ كونغ. لن تود الصين معاداة هذه الدول عن طريق تحسين علاقاتها بإيران على حسابها.
كما أن السوق الأمريكي له الأولوية على الإيراني
ويؤثر العامل الأمريكي أيضاً على حسابات الصين. ففي التسعينات، أدى الضغط الأمريكي إلى عرقلة التعاون في القطاع النووي والصواريخ البالستية مع إيران. وأفضلية الولايات المتحدة أقل اليوم، لكن خطر العقوبات يظل يعرقل العلاقات التجارية والاستثمارية بين إيران والشركات الصينية الكبرى المملوكة للحكومة، أو الخاصة.
وهذه العراقيل زادت مع انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاقية النووية الإيرانية، في مايو/أيار 2018، وزيادة العقوبات الأمريكية (مع أن واشنطن رفعت العقوبات عن شركة صينية من أجل إحراز تقدم في اتفاقية تجارية ثنائية مع الصين). وقد كان لكل هذا أثر هائل، فحتى قبل أن تضعف جائحة كورونا الطلب على النفط انخفضت مشتريات النفط الصينية في منتصف 2019 بنسبة 60% عن العام الماضي، وانسحبت شركة صينية من صفقة بقيمة 5 مليارات دولار لتطوير حقل بارس الجنوبي للغاز الطبيعي. ترغب بكين في أن يظل النفط الإيراني والأسواق الإيرانية متاحة، لكنها ليست جاهزة لالتزامات قد تحرمها من دخول الاقتصاد الأمريكي الأضخم بكثير.