تتعامل الدول المتقدمة مع الإنسان باعتباره ثروة مهمة، وتستثمر فيه بشكل كبير، ومن هنا كان الاهتمام بالموادر البشرية وتنميتها أحد مرتكزات الإدارة الحديثة، ولكن مع وجود إشكاليات في تنمية الموارد وتراجع بنمو الاقتصاد، ووجود عوامل جذب في دول أخرى فإن الكفاءات تهاجر إلى دول أخرى، خاصةً الدول الغربية التي تسببت في تفريغ الدول النامية من رأس مالها البشري، خاصةً العلماء والخبراء في مختلف المجالات، وهو ما حوَّل الأمر إلى ظاهرة تسمى هجرة العقول أو هجرة الأدمغة، وهي هجرة لها جذور قديمة في التاريخ.
تتعدد دوافع وأسباب هجرة العقول ما بين أسباب طاردة وأخرى جاذبة، حيث إن انعدام الفرص وزيادة المخاطر أو دخول البلد في مناطق الصراعات، مع مقارنة الظروف الاقتصادية والتعليمية بالبلدين في ظل واقع العولمة- تعتبر من الأسباب الرئيسية لهذه الظاهرة.
وقد تعاملت الدول النامية مع هذه الظاهرة على أنها خسارة للأفراد المتعلمين تعليماً جيداً، وإزاء هذه الظاهرة شعرت بعض الدول، مثل مصر والصين والهند وتركيا، بالقلق إزاء هجرة العقول وبقاء الكفاءات في الدول الغربية فبدأت بدراسة كيفية تحويل ظاهرة هجرة العقول إلى كسب العقول، بمعنى تحويل الهجرة في الاتجاه المعاكس، وقد نجحت الصين على سبيل المثال بهذا المجال. وسوف نتحدث في هذا المقال عن السياسة التركية التي بدأت تؤتي ثمارها في العامين الأخيرين بشكل واضح، وتسير بمسار تصاعدي نحو كسب العقول.
سياسة تركيا لعكس هجرة العقول
تعمل عديد من الدول على جذب الطلاب والخبراء الأتراك، وتزداد عملية الهجرة مع تراجع نمو الاقتصاد مثلما حدث في العامين الماضيين، وكانت أكثر الدول في جذب الأتراك هي الولايات المتحدة وألمانيا وإنجلترا وهولندا. وقد تطرَّق تقرير للمعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية إلى هجرة العقول والعمال المهرة بحثاً عن راتب أفضل، من تركيا، كعقبة رئيسية في وجه الصناعات الدفاعية المتنامية في تركيا بشكل ملحوظ، وأن تركيا في حال تغلُّبها على هذه الإشكالية وعلى انخفاض قيمة العملة، يمكن أن تتطور بشكل أكبر في هذا المجال.
وللنظر إلى أحد الأمثلة، فإن كندا على سبيل المثال تعطي 1500 تأشيرة سنوياً للطلاب المتفوقين في تركيا، ويرجح 100 منهم البقاء في كندا، وتحتل تركيا المرتبة الـ11 بين أكثر الدول إرسالاً للطلاب خارج البلاد، ويسهم هؤلاء الكفاءات في اقتصاد البلد المستقبل، فعلى سبيل المثال ذكرت جمعية رجال الأعمال والصناعيين الاتراك "توسياد" أن الطلاب الأتراك يسهمون في اقتصاد الولايات المتحدة الأمريكية بمبلغٍ مقداره 824 مليون دولار في العام الواحد، وبالمقابل فإن هذا الرقم يعد خسارة لتركيا.
الحوافز المقدَّمة للعقول للعودة إلى تركيا
أدركت تركيا حالة هجرة العقول وآثارها، وقد قال الرئيس أردوغان بخطاب له في 2017، تناول فيه هجرة العقول: "إننا في موقع المستهلك لا المنتِج في أهم مصادر القوة ألا وهي تكنولوجيا المعلومات، وهذا يؤثر في أمننا القومي". وقد كان واضحاً من حديث الرئيس أردوغان وجود استشعار لأهمية وجود برنامج لعكس هجرة العقول، خاصةً أن عام 2017 شهد هجرة بعض المهندسين والأكاديميين. وعلى أثر هذا، بدأت تركيا في خطواتٍ، مثل: التواصل مع الكفاءات في الخارج، وافتتاح مكاتب الدعم الإداري للمواطنين في الخارج، ودعم البحث العلمي وتقديم المنح، وحث الجامعات على التنافس في استقطاب الكفاءات، وتسهيل زيارة البلد، وتطبيق برامج للمبدعين.
كما أطلقت وزارة العلوم والصناعة والتكنولوجيا برامج مِنح دراسية تصل إلى 500.000 ليرة تركية للباحثين الشباب، ومليون ليرة تركية للباحثين الأكثر خبرة، حيث سيحصل الباحثون على منحة دراسية بقيمة 20.000 ليرة تركية أو 24000 ليرة تركية شهرياً حسب مستوى خبرتهم. ويتلقى حاملو المِنح الدراسية الدعم المالي مدةً تتراوح بين 24 و36 شهراً للمشاريع التي يعملون فيها.
وقد عملت بعض المؤسسات التركية، خاصةً العاملة في قطاع التكنولوجيا تحت رعاية مكتب الموارد البشرية في رئاسة الجمهورية التركية، على التواصل مع الخبراء الأتراك في الخارج؛ لإقناعهم بالعودة، وقدمت حوافز من قبيل تغطية رسوم العودة وافتتاح معارض للوظائف في الخارج، ومن هذه المؤسسات إحدى كبرى شركات الدفاع في تركيا شركة "اسيلسان"، التي أطلقت مشروع "العودة إلى تركيا"، حيث نظمت من خلاله فعاليات لجذب المواهب من دول مثل المملكة المتحدة وألمانيا وأوزبكستان وجنوب إفريقيا.
وقد قال نائب مدير شركة اسيلسان، هاكان كاراتاش، في تصريح، إن مشروع كسب العقول الذي أطلِق قبل 6 أشهر، نجح في إعادة 22 خبيراً مع توقُّع عودة آخرين، وأشار إلى أن الشركة عقدت محادثات مع موظفيها السابقين، مع خيارات تشمل بيئة عملٍ أكثر تنظيماً، في ظل أن الظروف الاجتماعية التي يعيشونها بالخارج ليست جذابة، كما تعرض الشركات التركية افتتاح فروع في الخارج كخيار لعمل بعض الكفاءات في حالات معينة.
من جهة أخرى، في إطار خطة التقدم التكنولوجي، دعا الرئيس أردوغان العلماء الأتراك في الخارج إلى العودة للوطن، وضمِنت الجهود السابقة التي بذلتها الدولة لإعادة الشتات الأكاديمي، عودة أكثر من 595 باحثاً إلى تركيا في السنوات التسع الماضية، بعد أن تابعوا مهنتهم بالخارج. قام مجلس البحث العلمي والتكنولوجي في تركيا (TÜBİTAK) بصياغة قائمة جرد بالعلماء الأتراك الذين يعيشون في الخارج، وعرض مِنحاً دراسية؛ من أجل عكس هجرة الأدمغة، بالتعاون مع مجلس الأبحاث الأوروبي.
وقد أشار الباحث في المجال الاقتصادي دينيز استقبال، في حوار خاص مع الكاتب، إلى أن نسبة البطالة المتزايدة وتدني المعاشات مقارنة بالغرب، وبعض القوانين مع نزول قيمة العملة في العام الماضي، تعد من أهم أسباب هجرة العقول. وحول مستقبل نجاح تركيا في كسب العقول، رأى أن العامل الاقتصادي، وتحديداً في عامي 2020 و2021، سيكون له أثر مهم على هذا البرنامج، حيث إن تركيا لو استطاعت تحقيق نمو بنسبة 5%، فإن هذا يعني 800 ألف وظيفة جديدة، وإطلاق يد الدولة في تطوير وتوسعة ميزانيات مشاريع كسب العقول، وتوفير بيئات تحدُّ من هجرة العقول.
من زاوية أخرى يشير "استقبال" إلى أن التطور الصناعي في تركيا والذي بدأ يزداد مؤخراً مع إطلاق أول غواصة محلية وأول سيارة محلية وإنتاج طائرات من دون طيار محلياً- يشير إلى تقدُّم ملحوظ يغري الباحثين والعلماء بالمشاركة في المشاريع الوطنية. وعلى سبيل المثال، كان المهندس مراد غورجان، الذي صمم السيارة التركية الأخيرة، قد صمم 5 سيارات: 2 لشركة مرسيدس، و2 لشركة فولكس فاغن، وواحدة لشركة بيجو.
تحاول تركيا إثبات أن عملية كسب العقول لا تعني فقط الحد من هجرة العقول؛ بل الاستفادة من الخبرة والعلوم التي راكموها خلال وجودهم في الخارج، وهو ما من شأنه أن يُحدث طفرة في قطاعات مهمة بالبلاد، خاصةً التكنولوجيا والعلوم، كما لا تكتفي تركيا بعودة طيورها المهاجرة؛ بل تسعى حتى إلى جذب باحثين مؤهلين من بلدان أخرى، وتحاول تحسين واقع هذه القطاعات، كما رأينا قبل أيام، على هامش منتدى كوالالمبور 2019، توقيع اتفاقيات تعاون بين الحكومتين التركية والماليزية في مجال العلوم والتكنولوجيا. ومن المتوقع أن يشجع نجاح تركيا في كسب العقول دول المنطقة على متابعة هذه التجربة؛ لتوظيفها في مسيرة تقدُّم بلدانهم.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.