تعرَّت شجرة عيد الميلاد الكائنة في وسط ساحة بغداد المكتظة بالمتظاهرين المناهضين للحكومة، من كل شيء إلا صور من قَتلتهم طلقات قوات الأمن بالبلاد. وحسبما يقول المتظاهرون، فإنهم يوجهون تحية إجلال وعرفان لقرارٍ صدر مؤخراً عن مسيحيي العراق، يقضي بإلغاء الاحتفالات الموسمية؛ تكريماً للضحايا.
حسب شبكة ABC News الأسترالية، فقد أصدر قادة مسيحيي العراق قراراً بالإجماع، تُلغَى بموجبه احتفالات عيد الميلاد؛ تضامناً مع حركة الاحتجاجات التي تشهدها البلاد، ولكن موقفهم يتخطى زينة الاحتفالات وخيلاءها، إذ ترددت الشعارات المنادية بعراقٍ موحَّد مُنزَّه عن الطائفية في المجتمع، بعدما كانت عديمة الأثر في أعقاب سقوط صدام حسين في عام 2003، وفي خِضم هيمنة الشيعة على السياسة وتشكيلهم سياسات الدولة.
وعلى مر السنين، غادر المسيحيون العراق بأعداد غفيرة؛ بعدما استهدفتهم الجماعات المسلحة مثل تنظيمي "القاعدة" و "داعش".
في زيارة -أجراها مؤخراً- لميدان التحرير، الذي تتمركز فيه حركة الاحتجاجات، قال الكاردينال لويس روفائيل ساكو، بطريرك الكنيسة الكلدانية الكاثوليكية، إن الاحتجاجات قد ألهمته.
وأضاف في حديث أجراه مع وكالة The Associated Press، قائلاً: "ها هنا تشعر بأنك عراقي، إن العراق الجديد يولَد الآن".
وقد اندلعت الاحتجاجات ببغداد والمحافظات الجنوبية ذات الأغلبية الشيعية في الأول من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، حين خرج آلاف العراقيين لأول مرة إلى الشوارع، مطالبين بإصلاحات سياسية شاملة، ووضع حد لسيطرة إيران على الشؤون العراقية. ولقي ما لا يقل عن 400 شخص حتفهم على أيدي قوات الأمن والمهاجمين المجهولين، الذين أطلقوا الذخيرة الحية والغاز المسيل للدموع لتفريق المظاهرات.
"أخلاقياً وروحياً، لا يتسنى لنا الاحتفال"
يقول الكاردينال: "أخلاقياً وروحياً، لا يتسنى لنا الاحتفال في جو من التوتر.. فليس من الطبيعي أن نحتفل بفرحنا وبهجتنا في حين يُحتضر آخرون، هذا لا يصح". يُذكر أن الكلدانيين هم الطائفة المسيحية ذات الغلبة في البلاد.
ودعا لويس ساكو الحكومة والبرلمان إلى الاستماع لمطالب المحتجين، من أجل إيجاد حل مستدام من خلال الحوار، وقال إن "الحل العسكري سيئ".
ويقول ساكو إنه بموجب أمر الكنيسة، ستقتصر احتفالات عيد الميلاد على إقامة الصلوات، وسيتم التبرع بالأموال المخصصة للاحتفالات وزينة الشوارع باهظة التكلفة، لدعم الجرحى من المحتجين.
كما مُنِعت زينة عيد الميلاد داخل بطريركية الكلدان بهيَّة المظهر في بغداد.
وأضاف البطريرك قائلاً: "لن تكون لدينا احتفالات أخرى، إذ لا يمكننا إقامة حفل كبير في حين يواجه بلدنا وضعاً حرجاً".
وحسبما يقول مسؤولو الكنيسة، يدعم مسيحيو العراق حركة الاحتجاجات -التي لا يتزعمها أحد- لأسباب أخرى.
إذ أوضح ساكو أن التركيبة السكانية المسيحية الآخذة في التضاؤل بالبلاد تجسد مخاوفهم الوجودية؛ فقد بلغ عدد المسيحيين نحو 1.5 مليون قبل الغزو الأمريكي الذي شهده العراق قبل 16 عاماً، وهو ما يعني أن المسيحيين كانوا يشكلون حينها نحو 6% من تعداد السكان. أما اليوم، فيُعتقد أن عددهم صار أقل من ثلث هذا الرقم، على الرغم من صعوبة الحصول على تقديرات دقيقة؛ نظراً إلى الافتقار إلى بيانات إحصائية في العراق.
وخلال الهجوم الذي شنه داعش في عام 2014، هُجِّر المسيحيون قسراً من ديارهم، وفروا خوفاً من اضطهاد المتطرفين، خصوصاً أن نفراً منهم عادوا فجدوا منازلهم مُدمَّرة ومجتمعاتهم قد تغيرت إلى الأبد.
وقال ساكو: "لقد عانينا كثيراً، فمنذ انهيار النظام القديم، قُتل كثيرون، واختُطف آخرون، وهُدد غيرهم وغادروا، واحتلت الميليشيات المسلحة عديداً من منازل المسيحيين واستولت على ممتلكاتهم. لذا فإن المحتجين يقولون للحكومة، إننا نبحث عن العدالة والاستقرار، وأن نكون سواسية. وإننا نطالب بالعدالة نفسها لأنفسنا".
محاصصة تخدم الأغلبية الشيعية
إن السمة المميزة للحكم الطائفي في العراق تسمى المحاصصة، وبموجبها تُمنح النخب السياسية الحكم بناءً على الموافقة بالإجماع والاتفاقيات غير الرسمية. ولكن كانت لتلك المحاصصة يدٌ في تمكين الأحزاب ذات الأغلبية الشيعية على حساب الطوائف الأخرى.
وقال ألبرت إلياس، وهو ناشط مسيحي مدني يبلغ من العمر 50 عاماً وقد نال شهرته في ميدان التحرير، بسبب كُشك الكُتب الذي يوزع فيه الأناجيل مجاناً: "إن التهميش أكثر ما عانيناه إثر النظام الطائفي".
وأضاف قائلاً: "يأتي الساسة ويقولون لنا إننا مؤهَّلون ومخلصون، ثم لا يعطينا أحدٌ مناصب في الحكومة ليكون لنا رأي، نحن نرى أننا لا نعني شيئاً بالنسبة لهم في واقع الأمر".
العراق المثالي الذي يرجوه موجود في ميدان التحرير
ويرى إلياس نموذجاً للعراق المثالي الذي يرجوه، في ميدان التحرير، وهناك يستوقفه بعض الطلاب الصغار أحياناً ويسألونه عن عقيدته، وهو ما يجعله يشرح لهم دروساً ارتجالية.
قال إلياس لأحد الشباب الذين اطمأنوا إلى الحديث له، ذات يوم، في ديسمبر/كانون الأول: "هل تعلم أن المسيحيين كانوا أول سكان العراق؟". وفي غضون 30 دقيقة، سرد إلياس تاريخ سبعة قرون، تبدأ من مجيء القديس توما الرسول بالتعاليم المسيحية إلى الأرض التي صارت تُعرف اليوم بالعراق، وصولاً إلى الفتوحات الإسلامية.
ويرى إلياس أن روح الانتفاضة والمخاطر الملاصقة للاحتجاج في الميدان تتجاوز الانتماء الديني، إذ قال: "جميعنا نعاني الأمر نفسه، إننا نتقاسم معهم الخطر، نحن هنا ولا نعرف متى سيهاجمنا أحدٌ بالسكاكين".
وقد أثارت الهجمات الغامضة التي شنها مجهولون في الآونة الأخيرة، الهلع والخوف بالميدان، ففي يوم الجمعة الماضي، لقي 25 شخصاً حتفهم، وكان بينهم 3 رجال شرطة، حين فتح مسلحون النار من سيارات في ميدان الخلاني القريب من ميدان التحرير. وقبلها بيوم واحد، وقعت عديد من حوادث الطعن حين انسحب المتظاهرون الذين يدعمون الأحزاب السياسية والميليشيات التي تدعمها إيران من الميدان.
ويُلقي المتظاهرون باللائمة في أعمال العنف على الميليشيات التي تدعمها إيران.
في حي الكرادة ببغداد، والذي كان يوماً منطقة عامرة بالأطياف الدينية المختلفة وصار الشيعة يهيمنون عليه الآن، تُغطى الأشجار بالجليد المزيف، وما زالت دُميات بابا نويل معروضة للبيع، ولكن المشترين أكثر تحفظاً في اختياراتهم مقارنة بالأعوام الماضية، حسبما يقول حكمت داود.
وأضاف داود: "يجب علينا ألا نحتفل في حين تستمر إراقة الدماء".
أما خارج المركز التجاري، فكانت هناك شجرة عيد ميلاد ملفوفة بالعَلم الوطني العراقي.