يعيش اللبنانيون هاجس الانهيار، ويشعرون بأن بلدهم يمشي بخطىً ثابتة نحو المجهول في ظل أزمات غير مسبوقة تتفجر تباعاً في كافة مناحي الحياة وعلى مختلف الأصعدة.
وبدأت الأزمات المتلاحقة مؤخراً من شحّ الدولار مروراً بالخبز والمحروقات وكارثة الحرائق التي فشلت أيضاً السلطة اللبنانية بالسيطرة عليها، حالها حال الأزمات الأخرى، وصولاً إلى تفجر غضب الشارع مع توجه الحكومة لفرض ضرائب غير مسبوقة تطال بما في ذلك الاتصالات المجانية عبر الهاتف الخلوي.
وأمس الخميس 17 أكتوبر/تشرين الأول 2019، تحولت بيروت إلى ساحة احتجاج كبرى، حيث انتشرت التظاهرات في أرجاء العاصمة، احتجاجاً على فرض 20 سنتاً يومياً (تعادل 6 دولارات لكل مشترك شهرياً) على مكالمات تطبيق "واتساب وغيره من التطبيقات الذكية، بما يؤمّن للخزينة العامة 216 مليون دولار سنوياً.
ودوت في اعتصام نظمه المئات في ساحة رياض الصلح قرب السراي الحكومي ومجلس النواب، رصاصات أطلقها حراس وزير التربية أكرم شهيب لتفريق الجموع الغاضبة التي تجمهرت حول سيارته لدى مروره بالمكان وفق ما نقلت قناة الجديد اللبنانية.
وهذه التظاهرات دفعت وزير الاتصالات محمد شقير، إلى إعلان تراجع الحكومة عن فرض الضرائب على خدمة الـ"واتساب".
حرائق لبنان
الحلقة السابقة في سلسلة الأزمات المتقدة عاشها لبنان يومي الإثنين والثلاثاء الماضيين، وتمثلت باندلاع أكثر من 140 حريقاً في الغابات والأحراش، خلال 24 ساعة، وفقاً لمدير وحدة إدارة الكوارث لدى رئاسة مجلس الوزراء اللبناني.
ونشبت حرائق في مناطق المشرف والدبية والناعمة والدامور في الشوف (ساحل جبل لبنان الجنوبي)، والمدينة الصناعية في ذوق مصبح، وكريت، ومزرعة يشوع، وقرنة الحمرا في قضاء المتن، والمنصورية في قضاء المتن (شمال بيروت)، وعكار شمالي البلاد.
والتهمت الحرائق مساحات واسعة من لبنان وهددت منازل المواطنين من الشمال إلى الجنوب جراء ارتفاع درجات الحرارة، في وقتٍ أعلن فيه الصليب الأحمر اللبناني أن الحرائق التي تعرّضت لها البلاد "هي الأكبر والأخطر".
وتوفي المواطن سليم أبو مجاهد أثناء مساهمته في إخماد الحرائق في منطقة الشوف – جبل لبنان وأصيب 178 مواطناً آخرين.
واستعانت الحكومة اللبنانية بطوافات قبرصية ويونانية وأردنية، إضافة الى تكامل الجهود بين الجيش اللبناني والدفاع المدني و"اليونيفيل"، والأهالي.
أزمتا "رغيف" و"محطات الوقود"
وكانت البلاد قد شهدت إضراباً جزئياً لأصحاب المخابز والأفران الإثنين الماضي وذلك نتيجة شح الدولار.
وقتها أوضحت نقابة أصحاب المخابز والأفران أن" المخابز تبيع بالليرة اللبنانية لكنها مضطرة لتسديد سعر القمح بالدولار الأمريكي، ما يفرض عليها خسائر كبيرة نتيجة تفاوت سعر صرف الدولار، وعدم وجود سعر صرف ثابت في الأسواق".
وسبق أن شهد لبنان أزمة محروقات متقطعة على مدار الأسابيع الماضية، تمثلت في إضراب محطات الوقود احتجاجاً على شح الدولار المستعمل في عملية تأمين المحروقات للسوق اللبناني.
وانتهت سلسلة الإضرابات بعد التوصل إلى حل لأزمة استحصال قطاع المحروقات على الدولارات، نتيجة مساعي جانبية رعاها رئيس الحكومة سعد الحريري، وفق الآلية التي سبق وأقرها رياض سلامة حاكم مصرف لبنان (البنك المركزي) مطلع الشهر الجاري، لتخفيف الضغط على الدولار، وإعادة التوازن للعملة المحلية.
وأصدر سلامة تعميماً يحدد آلية طلب البنوك من البنك المركزي توفير الدولار لأغراض استيراد السلع الاستراتيجية، لكن هذه الإجراءات لم تدخل حتى اللحظة حيز التنفيذ ما يرجّح نظرية عودة التوتر لهذا القطاع في وقتٍ لاحق.
وفي السياق عبّر رئيس مجلس النواب نبيه بري عن امتعاضه ممّا آلت إليه الأوضاع، وقال السبت الماضي: "الوضع في منتهى الحساسية والدقة، وكل هذا الذي يجري يستدعي من الحكومة المبادرة إلى (اتخاذ) خطوات عاجلة لمعالجة الوضع، واتخاذ الإجراءات اللازمة التي تحول دون تفاقم الأزمة".
ولفت بري إلى أن "أزمة المحروقات خطيرة، والأخطر أزمة القمح التي يجب استباقها، أمّا الأخطر من كل ذلك فهو الدواء، لذلك لا بد من عمل إنقاذي سريع".
أزمة الدواء
وفي إطار أزمة الدواء المرتقبة، تشير المعلومات إلى أن كميات الأدوية المتوافرة في المستودعات اليوم في لبنان قد تنفد تدريجياً، ما لم تُحل أزمة تأمين الدولار لمستوردي الأدوية.
وفي التاسع من الشهر الجاري، أكد نقيب مستوردي الأدوية كريم جبارة "أن أكبر مستورد للأدوية لا يملك اليوم مخزوناً لأكثر من ثلاثة أشهر، ولم يعد بالإمكان الاستمرار بتأمين الدولار من الصرافين بنحو 1600 و1650 ليرة".
نظام حكومي فاشل
يضع المحلل السياسي والخبير الاقتصادي سامي نادر كل الأزمات السابقة الذكر في جيب ما يسميه "أزمة الحوكمة في لبنان".
وقال في حديث له لوكالة الأناضول الإخبارية قال إن "نظام الحوكمة الحالي غير قادر على إصلاح الوضع الاقتصادي ولا إدارة المؤسسات العامة أو القيام بالمهام الأساسية المطلوبة منه كالخدمات التي تقدمها الحكومات حول العالم بدءاً من تخليص معاملة رسمية وصولاً إلى إدارة الأزمات على اختلاف أنواعها".
ورأى أن "الصراعات الطائفية والسياسية ونظام المحاصصة هي التي أوصلت البلاد إلى ما هي فيه اليوم".
وتابع نادر في وصفه للواقع اللبناني: "أزمة اقتصادية هي الأقسى، تُترجم بالحياة اليومية من غلاء الأسعار وتأثر القدرة الشرائية للمواطن، وبطالة مستشرية وفساد معمم وأخيراً شح بالدولار في اقتصاد مدولر".
ويربط الخبير الاقتصادي أزمة السيولة "بانقطاع أموال السياحة والصادرات والاستثمارات الخارجية وتململ القطاعات التي كانت تدر للبنان عملة خارجية تمكنه من تغطية العجز الحاصل في الميزان التجاري بالإضافة لعجز الخزينة".
ويضيف "الدولة اللبنانية تنفق أكثر بكثير من قدرتها الاقتصادية، إذ يتم إنفاق 19 مليار دولار ببلد كل ناتجه القومي 5 مليارات دولار، واستدانت (الدولة)على حساب الأجيال القادمة لدرجة تعاظمت فيها فاتورة الدين حدّ التوقف".
ولا ينكر نادر أن الجهات المعنية وأصحاب القرار تأخروا جداً عن الحلول التي لا يمكن أن تتأتى إلا بتقليص النفقات أقلها 4 مليارات دولار وإلا يكون لبنان مهدداً بانهيار حقيقي"، وفق تعبيره.
أزمة موازنة
لكن أي تقليص نفقات قد يحصل والمهلة الدستورية لإحالة الحكومة اللبنانية مشروع موازنة العام 2020 لمجلس النواب قد انتهت في 15 أكتوبر/تشرين الأول 2019، ما يطرح من جديد علامات استفهام حول جدية الدولة اللبنانية في إدارة الأزمات التي تعصف بالبلاد.
وفي هذا الإطار أكد عضو لجنة المال والموازنة النائب آلان عون (المحسوب على تيار رئيس الجمهورية ميشال عون) أن "إحالة موازنة 2020 لمجلس النواب بانتظار المشاورات الأخيرة للبت بما خرج من توصيات عن لجنة الإصلاحات الوزارية".
وأعرب عون عن أمنياته في "أن تكون الموازنة على حجم المشاكل التي نمر بها، واتخاذ القرارات الإصلاحية والضرورية من دون أي اعتبارات شعبوية أو سياسية".
واعتبر أن "المشاكل الحالية هي وليدة تراكم سياسات خاطئة، ونحن بحاجة لعملية إنقاذية".
وأضاف أن الحلول مرهونة بالاتفاق السياسي على تبني خارطة طريق وانتشال لبنان من أزمته الاقتصادية.
وفي 29 سبتمبر/أيلول 2019، انطلقت سلسلة احتجاجات شعبية من وسط العاصمة بيروت إلى مختلف المناطق اللبنانية، تنديداً بتردي الأوضاع الاقتصادية، في ظل أزمة شحّ الدولار، والحديث عن فرض ضرائب إضافية على المواطنين، في موازنة عام 2020.