تجتمع فرقةٌ من الصبية على دراجاتهم في شارعٍ جانبي مغبَّر شرقي السعودية، ويهمُّ مرتجى القريريص البالغ من العمر 10 أعوام، وقدمه مستعدةٌ على الدوَّاسة، بقيادة المجموعة المكوَّنة من 30 طفلاً.
وفي مقطع فيديو حصلت عليه شبكة CNN الأمريكية ونشرته الجمعة 7 يونيو/حزيران 2019، يرتدي مرتجى بنطال جينز مشمَّر الساقين ونعلاً في قدميه، مبتسماً للكاميرا التي تصوُّر الحدث، وقد يبدو الأمر كما لو كان نزهةً عادية بالدراجات، إلَّا أنَّ هذه المجموعة كانت في الواقع تنظِّم احتجاجاً.
بعد لحظاتٍ من انطلاقهم، يختفي القريريص وسط حشد الصبية، مجاهداً لمواكبتهم فيما يرفع مكبراً للصوت ويُلصقه على فمه. يصيح: "الشعب يطالب بحقوق الإنسان!".
كان ذلك عندما كان القريريص صبياً، وحينها شارك في مظاهراتٍ مثل جولة الدرَّاجات تِلك، إذ كانت إحدى مظاهر المعارضة التي أبدتها المنطقة الشرقية في السعودية وسط أحداث الربيع العربي عام 2011.
وبعد مرور ثلاثة أعوامٍ على مشاركته في مظاهرة الدراجات، اعتقلت السلطات السعودية القريريص، الذي كان عمره حينئذٍ لا يتعدَّى 13 عاماً، وذلك بينما كان مسافراً مع عائلته في طريقهم إلى البحرين عندما احتجزته شرطة الحدود السعودية على جسر الملك فهد الذي يربط بين الدولتين.
وفي ذلك الوقت، اعتبره المحامون والنشطاء أصغر سجينٍ سياسي في السعودية، وقالت شبكة Cnn إنَّ القريريص الآن وقد بلغ عمره 18 عاماً، قد يواجه عقوبة الإعدام بعد أن احتُجِز قرابة أربعة أعوام قضاها سجيناً ينتظر المحاكمة.
اتهامات بـ"إثارة الفتنة"
في شهر أبريل/نيسان الماضي، أعلنت السعودية أنَّها أعدمت 37 رجلاً كان أغلبهم، بحسب ما نقلته المجموعة الحقوقية البريطانية Reprive، من الأقلية الشيعية في المملكة.
ولدى المملكة واحدٌ بين أعلى معدَّلات الإعدام في العالم، وقد وُجِّهت لها انتقاداتٌ متكرِّرة بإعدام أشخاصٍ كانوا قُصَّراً وقت ارتكابهم الجرائم المنسوبة لهم.
وقالت الشبكة الأمريكية إن القريريص كان في العاشرة من عمره لا أكثر عندما ارتكب جريمةً واحدة على الأقل مِن تِلك الجرائم المزعوم ارتكابه لها على قائمة التُّهَم الموجهة له. إذ اتُّهِم الصبي بمرافقة أخيه الأكبر، علي القريريص، على دراجةٍ نارية إلى مخفر شرطةٍ في مدينة العوامية شرق المملكة السعودية، "حيث ألقى علي قنابل مولوتوف على المبنى"، حسب تقرير التُّهَم.
وليس سنُّ المسؤولية الجنائية واضحاً في السعودية، لكن في عام 2006 أخبرت السعودية جمعية حقوق الطفل بأنها رفعت حدَّ المسؤولية الجنائية إلى سن 12 عاماً، وفقاً لمنظمة هيومن رايتس ووتش.
كذلك أخبرت السعودية منظمة الأمم المتحدة في السابق أنَّها لا تطرح خيار الحُكم بالإعدام على السجناء المُدانين بجرائمهم، قبل بلوغهم سنَّ المسؤولية الجنائية.
محاكمة بتهم الإرهاب
وفي الوقت الراهن، يمثُل القريريص أمام محكمةٍ لقضايا الإرهاب، حيث اتَّهمه الادعاء بالانضمام "لجماعةٍ إرهابية متطرفة". ويواجه تهماً أخرى تتراوح بين جرائم عُنفٍ يُزعَم أنه ارتكبها أثناء المظاهرات -وتتضمَّن مشاركته في تحضير قنابل المولوتوف- وانتهاءً بإطلاقه النار على قوَّات الأمن والمشاركة في مسيرة جنازة أخيه عام 2011.
وبحسب ما علمت شبكة CNN، أنكر القريريص جميع التُّهَم الموجَّهة له وقال إنَّ الاعترافات المأخوذة منه، والتي يستند الادَّعاء إليها بشكلٍ كبير، قد انتُزعَت منه بالإكراه.
وأشارت الشبكة إلى أن السعودية لم تُجِب على طلبها بالتعليق على هذه القضية.
وكان مرتجى القريريص في الحادية عشرة من عمره عندما قُتِل أخوه أثناء مشاركته في الاحتجاجات التي وصفتها السعودية بالعنيفة.
وفي مقاطع فيديو سُجِّلَت في جنازة شقيق القريريص حصلت عليها شبكة CNN، هتف المشيعون بشعاراتٍ مناهضة للحكومة السعودية فيما ملأت المسيرة الشارع العام بأكمله.
ويظهر في الفيديو أيضاً والد الناشط القتيل، عبدالله القريريص، وهو يميل على جثته المكفَّنة، ويدعو الله جهراً أن يعينه على فراق ابنه. وكان الأب في الفيديو يقبّل ابنه مرةً أخيرة قبل أن تُحمَل جثته على أكتاف سيلٍ من المشيعين.
أقصى عقوبات الإعدام
ومع أنَّ الادعاء لم يحمِّل القريريص مسؤولية أي خسارةٍ في الأرواح، إلَّا أنَّ شبكة CNN علمت أنَّ الادعاء يسعى لتوقيع أقصى عقوبات الإعدام على الصبي، وذلك قد يتضمَّن الصلب أو تقطيع الجُثَّة بعد الإعدام، وفق قولها.
وجادل الادَّعاء في طلبه ذاك بأنَّ "إثارة الفتنة" التي اقترفها الصبي جريمةٌ تستوجب أقصى عقوبةٍ ممكنة.
وقُدِّمَت إلى القريريص صحيفة اتهاماتٍ توصِي بالحُكم عليه بالإعدام قبل شهورٍ لا أكثر من بلوغه سنّ 18 عاماً. وبحسب النشطاء، فقد سُجِن شقيقٌ آخر للقريريص، واحتُجِز والده العام الماضي.
كذلك علمت شبكة CNN أنَّ القريريص قضى عاماً وثلاثة أشهر على الأقل من فترة احتجازه بالسجن الانفرادي.
"اعترافات مُنتَزعة قسراً"
وفي عام 2016، ناقش الفريق العامل المعنيّ بمسألة الاحتجاز التعسفي التابع للأمم المتحدة قضية قاصر سعودي مسجون لم يُذكَر اسمه، لكنَّ معلومات القضية طابقت التفاصيل التي جمعتها شبكة CNN عن قضية القريريص.
وتوافق تاريخ ميلاد السجين المجهول، كذلك محل وتاريخ اعتقاله، مع قضية القريريص.
وقال الفريق العامل التابع للأمم المتحدة في الجلسة السابعة والسبعين المنعقدة في نوفمبر/تشرين الثاني عام 2016 إنَّه يعتقد أن الفتى القاصر قد تعرَّض للتعذيب، وأنَّ اعترافاته "انتُزِعَت منه بالإكراه"، وأنَّ اعتقاله تعسفي. ووفقاً لنتائج الجلسة المنشورة، قال الفريق كذلك إنَّ احتجازه فيه انتهاكٌ للأعراف الدولية.
وقال الفريق العامل التابع للأمم المتحدة أيضاً إنَّ القاصر محتجزٌ على الأرجح لأسبابٍ ترجع لـ "مشاركته في مظاهراتٍ سلمية تطالب بالعدل للمحتجّين المقتولين وسيرِه في جنازات هؤلاء الشهداء".
ولم يردُّ الفريق العامل المعنيّ بمسألة الاحتجاز التعسفي التابع للأمم المتحدة ولا مقرر الأمم المتحدة الخاص المعني بمسألة التعذيب على طلب شبكة CNN للتعليق على القضية.
وأخبر الناشط السعودي المقيم بالمملكة المتحدة محمد دمان، الذي حضر عدة احتجاجاتٍ من التي شارك فيها القريريص عام 2011، شبكة CNN أنَّ المظاهرات كانت سلمية. وقال إنَّ السعودية لم تتقدَّم بأي دليلٍ مصوَّر أو مسجَّل يثبت ارتكاب أي جرائم عنفٍ أثناء الاحتجاجات.
لكنَّ السلطات السعودية عادةً ما تُدين المظاهرات المناهضة للحكومة في المنطقة الشرقية السعودية بالعُنف، قائلةً إنَّ المتظاهرين هاجموا قوَّات الأمن والمدنيين على حدٍّ سواء، بحسب الشبكة الأمريكية.
ومن جانبهم، يقول النشطاء إنَّ المظاهرات الداعمة للديمقراطية عادةً ما تُواجَه بقوةٍ غاشمة من قوَّات الأمن، وإنَّ الحركة كادت تُباد كلياً بحملة القمع التي أُطلِقَت على النشطاء.
إعدام القُصّر
وإذا حكمت السعودية على القريريص بالإعدام، سينضمَّ الصبي إلى ثلاثة مسجونين على الأقل سبقوه ممَّن أُعدِموا عقاباً على جرائم يُزعَم أنَّهم ارتكبوها قبل بلوغهم سن الثامنة عشرة.
وقالت شبكة CNN إنها درست وثائق المحاكمات التي أوردت تفاصيل قضايا اثنين من الرجال الثلاثة الذي كانوا قُصَّر وقت ارتكاب الجرائم المنسوبة لهم. وقد كان عبدالكريم الحواج، ومجتبى السويكت، وسلمان قريش بين مَن نُفِّذ بهم حُكم الإعدام الجماعي لـ37 رجلاً، كان أغلبهم من الشيعة.
واعتُقِل كلٌّ من الرجال الثلاثة على خلفية جرائم عنفٍ تقول الحكومة إنَّها "ارتُكِبت أثناء احتجاجاتٍ اندلعت وقت أحداث الربيع العربي"، لكنَّ الادعاء في محاكمتهم استند بشكلٍ كبير كذلك إلى اعترافاتٍ قال السُجناء إنَّها انتُزِعَت منهم قسراً. وفي جلسات المحاكمة، قال الرجال إنَّهم تعرَّضوا للتعذيب، وإنَّهم أدلوا بتلك الاعترافات تحت الإكراه.
وفي السعودية، لا يُنفذ حُكم الإعدام إلَّا بأمر الملك سلمان أو ممثِّل مفوَّض عنه. وكثيراً ما يوصَف ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان بأنَّه نائب الملك.
المتظاهر مكشوف الوجه
وازدادت حدَّة حملة القمع السعودية على المعارضة في المملكة منذ عام 2015، عندما اعتلى الملك سلمان العرش، معيَّناً ابنه، محمد بن سلمان، في عدة مناصب واسعة السلطة.
وتقدَّم الأمير الشاب حملةً للإصلاح الاجتماعي والاقتصادي في المملكة، وقد سعى لتوطيد سُلطته على البلاد في تلك الأثناء.
إلا أن ولي العهد البالغ من العمر 33 عاماً أمر بالقبض على عشراتٍ من أبرز رجال الدين، والمحلِّلين، ورجال الأعمال، والأمراء، وكذلك على مدافعاتٍ عن حقوق المرأة تعرَّضن للتعذيب تحت الاحتجاز وتتَّهمهم المملكة بوجود "اتصالٍ مشكوك فيه" بينهم وبين كياناتٍ أجنبية. وأنكرت الحكومة السعودية مراراً ادّعاءات التعذيب المنسوبة إليها.
وفي واحدٍ من مقاطع الفيديو، التي حصلت عليها شبكة CNN وتُصوِّر مرتجى، يظهر الصبي واقفاً إلى جوار والده، الذي يخطُب بدوره في حشدٍ من المحتجّين.
وفي الفيديو، يظهر معظم المتظاهرين ملثَّمين. لكنَّ مرتجى ووالده كانا كاشفيّ الوجه، وهو أمرٌ ربما سهَّل أن تقع العائلة ضحية حملة القمع التي شنَّتها الحكومة السعودية على النشطاء.
وقال الناشط محمد دامان متذكراً: "كان مرتجى (القريريص) واحداً من الناس القليلة التي لم تكُن ملثَّمة أثناء الاحتجاجات. ودائماً ما كان مع والده (عبدالله)".
في مقطع الفيديو، يرتدي عبدالله ثوباً بنياً عادةً ما يرتديه شيوخ القبائل العربية فقط، ويتحدث عبر مكبرٍ للصوت فيما يحمل متظاهراً آخر نسخةً من القرآن فوق رأسه. ويقول عبدالله القريريص: "نتعهَّد للشهداء بأن نُكمل المسيرة".
بجانبه يقف مرتجى القريريص وهو يرتدي قناع تزلُّج على رأسه، فيما يبدو أنَّه نزعه عن وجهه. ينظر مرتجى إلى الكاميرا، ويبتسم، ثم يمضي بعيداً، غير دارٍ بما سيراه في المستقبل.