حذرت وكالة الاستخبارات المركزية ووكالات استخبارات أجنبية أصدقاء وزملاء جمال خاشقجي بأن جهودهم للاستمرار في العمل المؤيد للديمقراطية الذي كان يضطلع به الصحفي المقتول، جعلت منهم ومن عائلاتهم أهدافاً لانتقام محتمل من المملكة العربية السعودية، وفقاً لأشخاص قيَّموا تلك التهديدات ومصادر أمنية في بلدين.
وقالت صحيفة Time الأمريكية، الخميس 9 مايو/أيار 2019، إن ثلاثة من بين أولئك الذين تلقوا إخطارات أمنية في الأسابيع الأخيرة، هم دعاة الديمقراطية إياد البغدادي الموجود بأوسلو في النرويج، وعمر عبدالعزيز الذي يعيش بمونتريال في كندا، وشخص آخر يُقيم بالولايات المتحدة طلب عدم الكشف عن اسمه.
3 من أصدقاء خاشقجي "مهدَّدون" من السعودية
وأشارت الصحيفة الأمريكية إلى أن هؤلاء الثلاثة كانوا يعملون من كثب مع الصحفي الراحل جمال خاشقجي على مشروعات إعلامية وأخرى تتعلق بحقوق إنسان تُعتبر حساسة سياسياً، وقت مقتل خاشقجي داخل القنصلية السعودية في إسطنبول مطلع أكتوبر/تشرين الأول 2018.
وبناءً على الإخطارات الأمنية، يقول النشطاء إنهم مستهدَفون لأنهم أصبحوا مؤثرين ومنتقِدين علنيين بشكل خاص لولي العهد السعودي محمد بن سلمان، واتهموه بأنه أمر بقتل خاشقجي في إطار حملة قمعٍ أوسع نطاقاً ضد المنشقين السعوديين في أنحاء العالم.
وكانت وكالة الاستخبارات المركزية هي مصدر التحذيرات بشأن تلك التهديدات، وفقاً لمسؤول استخباراتي أجنبي، والبغدادي وآخرين معنيِّين بتلك الإخطارات. ورفض متحدث باسم وكالة الاستخبارات المركزية التعليق على الأمر، لكن الوكالة مُلزمة بموجب القانون "تحذير" الضحايا المحتملين لتهديدات بعينها بالقتل والخطف والأذى الجسماني الخطير، وفقاً لأمرٍ يعود لعام 2015 وقّعه مدير الاستخبارات الوطنية الأمريكية.
وبعد مقتل جمال خاشقجي واجهت وكالة الاستخبارات المركزية انتقاداً، لإخفاقها في تحذيره بعدما ذُكر أنها علمت أن ولي العهد أصدر أمراً في وقت سابق، بالقبض على الصحفي، الذي كان يكتب مقالات رأي لصحيفة Wahington Post الأمريكية.
وأصدرت وكالة الاستخبارات المركزية تقييماً، قالت فيه إن لديها "ثقة متوسطة إلى مرتفعة" بأن ولي العهد أمر بقتل خاشقجي.
وهو ما دفعهم إلى اتخاذ تدابير وقائية خوفاً من "الانتقام"
ووفقاً لأشخاص مطلعين على الإخطارات، لم تتضح بعدُ طبيعة التهديدات الجديدة، إذ لم يجر إخبار البغدادي أو عبدالعزيز بأنهما أو عائلاتهما في خطر حقيقي سواء في الوقت الراهن أو في المستقبل.
لكن البغدادي قال إنه وجِّه إلى اتخاذ مجموعة واسعة من الاحتياطات، وضمن ذلك تدابير وقائية تجعل من الصعب اختراق أجهزتهم الإلكترونية، لتسريب المعلومات الموجودة عليها واستخدمها كسلاح ضدهم.
وسبق أن استخدمت السعودية هذا التكتيك ضد عبدالعزيز، الذي يُقاضي شركة أمن إسرائيلية تدعى "NSO Group" لبيعها برمجيات خبيثة للسعودية اخترقت هاتفه، وهو انتهاك وثقته مجموعة The Citizenlab التابعة لجامعة تورنتو.
ونُصح النشطاء بتجنُّب السفر إلى عدد من البلدان في أوروبا وآسيا، حيث تتمتع المملكة السعودية بنفوذٍ إلى حدٍّ ما، بالإضافة إلى نقل أفراد أسرهم بعيداً عن دولة واحدة على الأقل، وهي ماليزيا.
يعمل الرجال الثلاثة، الذين أكدوا لمجلة TIME الأمريكية تلقيهم تحذيرات، من أجل التأثير على الرأي العام بشأن السعودية في الداخل والخارج، وهو المضمار الذي سعى الأمير محمد بن سلمان بقوة للسيطرة عليه.
اشتهر البغدادي، الفلسطيني المولد، بنشاطه خلال فترة انتفاضات الربيع العربي. مُنح حق اللجوء السياسي في النرويج عام 2015، حيث أطلق بودكاست بعنوان "Arab Tyrant Manual". وكان يعمل مع محققين عيَّنهم الملياردير الأمريكي جيف بيزوس، رئيس شركة Amazon ومالك صحيفة Washington Post، للتحقيق في الدور المشتبه به للسعودية في اختراق هاتف بيزوس الخلوي. (وقد خلص المحققون إلى أنَّها فعلت ذلك).
نشاط على "تويتر" يُقلق الرياض
مُنح المعارض السعودي عمر عبدالعزيز حق اللجوء في كندا، ولديه عدد كبير من المتابعين على موقع تويتر، لدرجة أن تقرير شركة McKinsey & Company الأمريكية أبلغ الحكومة السعودية أنَّه كان واحداً من 3 أشخاص كانوا يقودون الحديث عن السياسة السعودية في عام 2015 على منصة تويتر، التي لها تأثير كبير بالمملكة. تعاون عبدالعزيز مع خاشقجي سراً في عام 2017، لتقويض قبضة ولي العهد السعودي على تويتر.
عمل خاشقجي وعبدالعزيز على مشروع أُطلق عليه اسم "جيش النحل الإلكتروني"، تضمَّن توفير بطاقات اتصال أجنبية للمعارضين السعوديين، لتمكينهم من نشر تغريدات دون أن تستطيع السلطات السعودية تعقُّبهم.
أما الشخص الثالث، فهو ناشط حقوقي يُقيم بالولايات المتحدة. وعلى غرار البغدادي وعبدالعزيز، تعاون من كثب مع خاشقجي في مشروعات ركزت على توفير مزيد من الشفافية في وسائل الإعلام العربية وعلى منصات التواصل الاجتماعي.
مقتل خاشقجي لم يمنعهم من مضاعفة الجهود
ضاعف كل هؤلاء الرجال الثلاثة تلك الجهود بعد وفاة خاشقجي، مستخدمين مشروعات كان الصحفي السعودي يعمل عليها من أجل إخضاع المملكة السعودية وولي العهد نفسه للمساءلة على جريمة قتل خاشقجي.
يقول البغدادي إنَّ عملاء من جهاز الأمن النرويجي (PST) حضروا إلى منزله في 25 أبريل/نيسان 2019، ونقلوه إلى مكان آمن لتقديم إحاطة معلوماتية لمدة ساعتين. جاء هذا التحذير، الذي نشرته صحيفة The Guardian البريطانية لأول مرة، بالتزامن مع تحذيرات مماثلة في الوقت نفسه إلى عبدالعزيز والناشط الثالث المقيم في الولايات المتحدة، والذي لم يسبق نشر تقارير عنه.
قال البغدادي لمجلة Time: "لم توصف طبيعة التهديد، باستثناء القول إنَّني مستهدفٌ وينبغي لي عدم السفر وتحذير عائلتي على الفور"، مضيفاً: "لكن محادثتي بأكملها مع جهاز الأمن النرويجي من البداية إلى النهاية كانت حول السعوديين. وقد اتَّضح منذ اللحظة الأولى أنَّ النرويجيين قد أخذوا الأمر بجدية شديدة، لأنَّ وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية هي التي مررت إليهم المعلومات الخاصة بالتهديد".
أخبر عبدالعزيز، الذي يتمتع بحق الإقامة الدائمة في كندا، مجلة TIME الأمريكية بأنَّه لا يستطيع التعليق على وضعه بناءً على أوامر السلطات الكندية. ومع ذلك، أكَّد الأصدقاء والمعاونون أنَّ مسؤولي الأمن الكنديين زاروا عبدالعزيز مؤخراً في منزله بمونتريال، وقدَّموا له إحاطة مماثلة بشأن التهديد، ونصحوه بأن يختفي عدة أيام على الأقل.
وقال شخص مُطَّلع على وضع عبدالعزيز: "يمكنك القول إنَّ السلطات الكندية تهتم بالموقف".
وقال الناشط الحقوقي الثالث، الذي تعاون مع خاشقجي ويعيش في الولايات المتحدة، إنَّه تلقَّى تحذيراً من مسؤول أمني أمريكي، نصحه بعدم السفر إلى رحلات عمل مخططة وشيكة لتونس واليونان وقبرص وعديد من الدول الأخرى، لأنَّ "ثمة تداولاً لاسمه من جانب السعوديين".
التهديدات تتزامن مع حملات القمع والعنف
تتزامن تحذيرات التهديد الأخيرة مع موجة واسعة من حملات القمع والعنف في السعودية بعد حملة موجزة لكسب التأييد أطلقها محمد بن سلمان، وصفها مراقبون سعوديون بأنَّها كانت تهدف إلى تعزيز دعمه في واشنطن وعواصم غربية أخرى.
يحظى محمد بن سلمان بدعم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الذي غض الطرف عن تقرير وكالة الاستخبارات المركزية بشأن وفاة خاشقجي، بحجة أنَّ مبيعات الأسلحة الأمريكية إلى المملكة العربية السعودية أهم من أي شيء آخر. كذلك، عارض مشروع قانون في أبريل/نيسان 2019، كان يهدف إلى تقليص المساعدات الأمريكية الموجهة للحرب التي تقودها السعودية في اليمن.
لم تردَّ سفارة المملكة العربية السعودية على طلبات للتعليق على الأمر. ورفض مسؤولون كنديون في واشنطن التعليق على قضية عبدالعزيز، وفيما يتعلق بالتحذير الذي تلقاه البغدادي، قالت أنيت عامودت، وهي مستشارة كبيرة لدى جهاز الأمن النرويجي: "جهاز الأمن ليس في وضع يسمح له بالتعليق على اتصالاتنا مع الأفراد أو تقييماتنا حول سلامة الأفراد".
وهو ما جعل النرويج تتعامل بجدية مع التهديدات
ومن المؤشرات التي تدل على جدية تعامل النرويج مع القضية تدخُّل جهاز الأمن. وتتعامل الشرطة المحلية مع معظم التهديدات ضد الأفراد، في حين أن جهاز الأمن يتولى مثل هذه القضايا النادرة التي يكون فيها أشخاص حصلوا على حق اللجوء السياسي -مثلما هو الحال مع البغدادي- مهدَّدون من حكومة أجنبية لديها نية معادية، وفقاً لأحد المصادر المطلعة على عمليات جهاز الأمن النرويجي.
قال البغدادي إنه على الرغم من تحذير جهاز الأمن له في زيارته الأولى، فإن الأمر لم يكن مفاجئاً له تماماً. وصرح لمجلة TIME، في مقابلة أُجريت معه قبل يوم من زيارة عملاء من جهاز الأمن له بمنزله مرتدين ملابس مدنية، قائلاً إن المطلعين على الأمور في الداخل من السعوديين حذروه من غضب ولي العهد محمد بن سلمان، بسبب انتقاده العلني له، وإنه قد مرر هذه المعلومات إلى جهاز الأمن.
وأضاف آنذاك: "السبب الذي قيل لي، هو أن محمد بن سلمان يعتقد أنني أوذي سُمعته على المستوى الدولي مثلما حدث مع خاشقجي تماماً، ولقد حُذرت من أنهم يتتبعونني".
أرسل البغدادي في اليوم التالي رسالة مشفرة إلى مجلة TIME، قال فيها: "حضرت الشرطة إلى منزلي وأخذتني لكي تحميني، (لأنه) كان يوجد تهديد، وسأكون على اتصال بأسرع ما يمكن. أرجو إبقاء الأمر سراً". وذهب البغدادي للاختباء وبعد ظهوره وصف للمجلة كيف أن اثنين من رجال الشرطة أخبروه بأنه ينبغي أن يذهب معهم على الفور إلى منشأة آمنة ومنعزلة، لمناقشة أمر مهم وعاجل. وقالوا أيضاً إنه يوجد فريق آخر من مسؤولي الأمن كانوا في سيارة آخرى، لضمان أن لا أحد يتبعهم.
والتحقيق في تلك الحوادث هو ما عرَّض الثلاثي للتهديدات
يعتقد البغدادي، الذي تلقى معلومات لاحقة من السلطات النرويجية، أن استهدافه ونشطاء آخرين يرجع إلى أنهم كانوا يتحرَّون سراً عن الجهود التي يبذلها محمد بن سلمان لإسكات المعارضة والنقد، من خلال حملة متصاعدة من القتل والابتزاز وحملات التشهير عبر الإنترنت.
وظهر جزء من هذه الجهود إلى العلن في شهر فبراير/شُباط 2019، عندما كتب البغدادي مقال رأي في موقع Daily Beast الأمريكي، يكشف فيه كيف أن محمد بن سلمان كان وراء حملة التشويه ضد جيف بيزوس رداً على التغطية الكبيرة للصحيفة Washington Post لمقتل كاتبها خاشقجي.
في مقاله، كشف البغدادي، الذي قال إنه لا تجمعه علاقة مالية أو تعاقدية مع الملياردير بيزوس، كيف أنه وفريق الأمن الخاص ببيزوس كانوا يحققون في احتمالية وجود صلة بين ولي العهد محمد بن سلمان وجهد لمجلة National Enquirer لابتزاز بيزوس، من خلال نشر رسائل متبادلة "بطريقة منافية للأخلاق".
على الرغم من أن معظم أعمال البحث والتحقق ما زالت سرية، أخبر البغدادي مجلة TIME بأنه يستوعب أنه هو وعائلته كانوا مستهدَفين، لأن النشطاء نشروا ما توصلوا إليه مع المسؤولين التنفيذيين لـ "تويتر"، في محاولة منهم لإيقاف سوء استخدام المنصة من خلال جيش المتصيدين عبر الانترنت الذي يسيطر عليه ولي العهد.
وأوضح عبدالعزيز أنه جرى اعتقال العشرات من السعوديين على مدار الأيام القليلة الماضية، وتعرضوا لـ "تعذيب شديد"، مضيفاً: "يُمكنك أيضاً رؤية المتصيدين السعوديين على مواقع التواصل الاجتماعي يهاجمون المنشقين السعوديين ويهددونهم".
وقال: "أكاد أجزم بأن الآلة ما زالت تعمل، وأنها لم تتوقف قَط"، في إشارة إلى الجهود السعودية لعرقلة النقاش الحر ومعاقبة المنشقين.