بعد مرور نحو عام على انفجار قضية العاملات الفلاحيات المغربيات في مزارع الفراولة الإسبانية وتعرضهن للتحرش الجنسي والاغتصاب والاضطهاد، عادت صحيفة The Guardian البريطانية، للنبش في هذا الموضوع الذي وصل إلى المحاكم الإسبانية.
ويقول تقرير للصحيفة البريطانية، أنه رغم "فضيحة" التحرش الجنسي والاضطهاد الذي تعرضت له العاملات المغربيات، إلا أن آلاف المزارعات يستعدن للذهاب إلى مزارع الفراولة الإسبانية السابيع المقبلة.
في شهر أبريل/نيسان من العام الماضي، قبَّلت سميرة أحمد رضيعها قبلة الوداع واستقلّت حافلة، لتغادر منزلها في المغرب وتتجه إلى جنوب إسبانيا لتعمل في حقول الفراولة.
واستقرت في حقيبتها تأشيرتها الإسبانية وعقد يتعهّد بحصولها على 40 يورو (حوالي 45 دولاراً) يومياً، بالإضافة إلى الطعام ومكان للإقامة.
وكانت تأمل، أثناء الأشهر الثلاثة التي ستبتعد فيها، بأن تخفف النقود التي سترسلها لعائلتها من ألم بُعدها عنهم، وتعد هذه النقود ثروة مقارنة بما كان يمكن أن تتقاضاه في وطنها.
وبعد مرور عام انهارت حياة سميرة؛ إذ أصبحت معدمة ومطلقة، وباتت، على مدار الأشهر العشرة الماضية، تعيش في الخفاء وتقتات على المعونات مع 9 نساء مغربيات أخريات يدّعين -مثلها- أن تجار البشر استغلوهن وتعرضن للاعتداء الجنسي والاستغلال في مزارع الفراولة الإسبانية التي عملن فيها.
وتقول إن أكبر خطأ ارتكبته -بخلاف المجيء إلى إسبانيا- كان لجوءها إلى السلطات.
تقول سميرة: "قبل أن أغادر وطني كنت بطلة في نظر الجميع. إذ لم تسنح الفرصة لأحد من أهل قريتي مطلقاً أن يسافر للعمل في بلد غني مثل إسبانيا. لكن اتضح أن هذا كان أسوأ قرار اتخذته في حياتي".
آلاف النساء المغربيات في مزارع الفراولة الإسبانية
ومن المقرر أن تصل حوالي 20 ألف امرأة مغربية إلى إسبانيا، في الأسابيع المقبلة، للمشاركة في إنتاج محصول الفراولة لهذا العام.
وتشكل النساء نسبة كبيرة من القوى العاملة الموسمية في الأندلس، وهن يعملن بموجب نظام تأشيرة العمالة الموسمية الذي تديره الحكومتان الإسبانية والمغربية منذ عام 2001.
ومن المفترض أن يشاركن في زراعة وحصاد 400 ألف طن من الفراولة المتوقع تصديرها من المنطقة هذا العام للمتاجر في المملكة المتحدة وفرنسا وألمانيا.
وتعد إسبانيا حتى الآن أكبر مُصدِّر للفراولة في أوروبا، وأصبحت هذه الصناعة التصديرية المزدهرة البالغة قيمتها 580 مليون يورو (حوالي 656.5 دولار) في الوقت الحالي مهمة للغاية للاقتصاد الإسباني الهشّ إذ يُطلق عليها "الذهب الأحمر" للبلاد.
وعلى مدى السنوات القليلة الماضية، ظهرت تقارير تشير إلى انتشار الإيذاء الجنسي والبدني انتشاراً واسعاً واستغلال العاملات المغربيات الموسميات في وسائل الإعلام المحلية والدولية.
وقللت الحكومتان من شأن هذه المزاعم، وأنكرتا انتشار هذه المشكلة. ومع أن وسائل الإعلام أوردت العديد من المزاعم المتعلقة بالإساءة والاغتصاب في تقاريرها، أنكرت وزارة العمل المغربية، وهي الجهة المسؤولة عن توظيف وإصدار التأشيرات للعمال المهاجرين، العام الماضي تلقيها أي شكاوى رسمية.
رغم الظروف "المهينة" التي يشتغلن فيها
لكن أليسيا نافاسكويس، التي تنتمي لجمعية حقوق المرأة Mujeres 24، قالت إن النساء المغربيات يُستَهدفن عمداً لضعفهن.
وقالت: "وصفت لنا النساء المغربيات اللائي يعملن عاملات مؤقتات في الحقل ظروف العمل اللاإنسانية والقاسية التي يتعيّن عليهن تحملها، إذ يعملن في وظائف تضطرهن للانحناء بصورة دائمة ولا يحصلن سوى على استراحة واحدة لمدة 30 دقيقة يومياً في درجات حرارة تصل إلى 40 درجة تحت البلاستيك في البيوت الزجاجية".
وأضافت أنه في المغرب، يبحثون عمداً عن أولئك الضعيفات اللائي يتقاضين أجوراً قليلة للعمل في هذا المجال، أي النساء الريفيات اللائي لديهن أطفال صغار ولا يُجدن سوى اللغة العربية، ولا يمكنهن فهم عقود وظائفهن المكتوبة باللغة الإسبانية أو المطالبة بحقوقهن. إنه نظام جائر".
وقالت سميرة إنها سمعت شائعات حول ما حدث للنساء اللائي ذهبن إلى إسبانيا قبل أن تغادر وطنها. وقالت: "لكنني تجاهلتها. لم أتصور أن مثل هذه القصص يمكن أن تكون حقيقية في بلد غني مثل هذا البلد".
ومع ذلك، قالت هي والتسع نساء المغربيات الأخريات التي سافرن إلى إسبانيا بتأشيرات العمالة الموسمية العام الماضي لصحيفة The Observer إنهن تعرضن لعنف جنسي خطير ومتصل واستغلال للعمالة في المزرعة التي كن يعملن فيها.
وزعمن أنهن أُجبرن على العيش في حاويات شحن ضيقة وقذرة، حيث تشاركت المئات من العاملات عدد قليل من الحمامات والمراحيض المتهالكة.
وكن يتعرضن للاعتداء العنصري ويُجبرن على العمل في نوبات لمدة 12 ساعة دون أجر. وقد حُرمن من الطعام والماء وعُوقبن على ذهابهن للمرحاض أثناء العمل أو عدم عملهن بجد بما فيه الكفاية.
وتعرضهن للاعتداء الجنسي والتحرش
تقول سميرة: "كانت المزرعة تبعد كثيراً عن أقرب مدينة، كنا معزولات تماماً. ولم نكن نجيد اللغة الإسبانية وكنا نريد إرسال المال إلى أطفالنا بأي طريقة. كنا عاجزات تماماً. وقالت النساء الأخريات اللائي كن يعملن في المزرعة وذهبن إلى إسبانيا من قبل إن العاملات الجدد يجدن دائماً الأمر صعباً في البداية، لكننا سنعتاد الأمر".
وزعمت النساء أيضاً أنهن تعرضن للاعتداء الجنسي والتحرش؛ وقال بعضهن إنهن تعرضن للاغتصاب وضغوط أخرى لممارسة الجنس مقابل الغذاء والماء. وقلن أيضاً إن بعض النساء أُمرن بالعمل كمومسات للمواطنين المحليين الذين ينتظرون خارج المزرعة في سياراتهم كل ليلة.
كانت عائشة جابر، التي عملت في المزرعة نفسها التي عملت فيها سميرة، حبلى عندما وصلت إلى إسبانيا في أبريل/نيسان 2018. وتقول: "رأيت إعلان وظيفة يبحث عن نساء تتراوح أعمارهن بين 20 و45 عاماً للعمل لعدة أشهر في الحقل.
وسألت عمّا إذا كان يمكن لزوجي الحصول على وظيفة أيضاً ولكنهم أخبروني بأنهم يريدون نساء. والآن أدرك أنهم إنما أرادوا ذلك لأنهم يعرفون أن بإمكانهم استغلالنا بسهولة".
وتقول إنه فور وصولها إلى المزرعة تعرضت للتحرش والاعتداء الجنسيين. ولم تنجُ من الاغتصاب إلا عندما تدخلت نساء أخريات يعملن في المزرعة. وتقول: "بالنسبة لنا، كان هذا الاعتداء ضرباً من الموت لأننا أصبحنا ملطخين بالعار وكنا نشعر بغضب هائل ولكن برعب هائل أيضاً من أن تعرف عائلاتنا بالأمر".
والآن يبحثن عن العدالة في المحاكم الإسبانية
وبعد حوالي ستة أسابيع في مزارع الفراولة الإسبانية توجهت عائشة وسميرة و8 نساء أخريات إلى ضباط الحرس المدني للإبلاغ عن تعرضهن للاستغلال والاغتصاب والاعتداء الجنسي.
تقول سميرة: "لقد اعتقدنا أنه عند ذهابنا إلى الشرطة، أن العدالة ستتخذ مسارها. وسنتقاضى أجورنا، وسيتوقف التحرش. لكنهم تخلوا عنا وتركونا نتضور جوعاً".
وهؤلاء النسوة لسن أول العاملات المهاجرات المغربيات اللائي يبلغن عن حالات الاستغلال والعنف الجنسي في الصناعة الزراعية الإسبانية. إذ توصل تحقيق أجراه موقع BuzzFeed Germany العام الماضي إلى خروج العديد من النساء بمثل هذه المزاعم وهناك حالة واحدة على الأقل من حالات استغلال العاملات تتخذ مسارها في محاكم الأندلس.
إلا أن هناك تماطلاً كبيراً من الشرطة المحلية
وبعد 10 أشهر من ذهابهن إلى الشرطة المحلية، لم يستدعيهن الحرس المدني أو الشرطة الوطنية بعد لاستجوابهن. وقالت بيلين لوخان سايز، وهي محامية إسبانية تمثل المجموعة، إن الشرطة الوطنية ملتزمة قانوناً بالتحقيق في مزاعم هؤلاء النسوة لكنها رفضت تفعيل البروتوكولات الوطنية لمكافحة الاتجار بالبشر والتي كان من شأنها أن تقدم لهن الدعم والمساعدة أثناء التحقيق في مزاعمهن.
وتزعم بيلين أيضاً أن المحاكم المحلية في الأندلس كانت تعيق الإجراءات، وفشلت في إجراء تحقيق بالطريقة الصحيحة، ولم تمنح نساء مزارع الفراولة الإسبانية وقتاً كافياً للذهاب إلى قاعة المحكمة في مدينة وَلبة لتقديم الأدلة أمام قاض في يونيو/حزيران 2018، ومن ثم تركتهن في وضع قانوني معلق لمدة 8 أشهر أخرى.
وتحولت التهم أيضاً من الاغتصاب والاعتداء الجنسي لتصبح مجرد تحرشات جنسية، وعللت المحاكم هذا الأمر بنقص الأدلة.
وقد عارضت المحكمة في ولبة هذه الدعاوى، قائلة إن هؤلاء النسوة تغيبن عن جلستين حددتهما المحكمة -إحداهما في يونيو/حزيران الماضي والأخرى في فبراير/شباط- وألقت باللائمة على المحامين المدافعين عنهن في عدم إحراز تقدم القضية.
وقالت الشرطة الوطنية إنها لن تستجوب النساء بصفتهن ضحايا محتملين لجريمة الاتجار بالبشر لأنهن رفعن بالفعل دعاوى في محكمة محلية.
ولا حماية للعاملات الزراعيات
وقالت بيلين، التي تمثل النساء عبر مكتب المحاماة الخاص بها Luján and Lerma Abogados: "كل ما نطلبه هو أن تؤخذ بلاغات هؤلاء النساء عن الاتجار في العمال والاغتصاب والاعتداء الجنسي على محمل الجد وأن يجري التحقيق فيها على الوجه الأمثل".
وأضافت: "كان ينبغي أن تتلقى موكلاتنا الحماية والدعم لأنهن ضحايا محتملين للاتجار بالبشر فور إبلاغهن عن هذا الاعتداء. لقد عاملهن نظامنا القضائي بإهمال وازدراء".
منذ ذهابهن إلى الشرطة المحلية للإبلاغ عن مزاعمهن العام الماضي، أصبحت النساء بلا مأوى ومعدمات. وبعد انتهاء صلاحية تأشيراتهن التي تبلغ مدتها ثلاثة أشهر، أصبحن غير قادرات على العمل.
كانت جميع نساء مزارع الفراولة الإسبانية العشر، بالإضافة إلى طفلة عائشة، ينمن على أرضية شقة بيلين الصغيرة ويعشن على معونات الطعام.
ويقول معظمهن إن أزواجهن طلقوهن في حين نبذهن آباؤهن في المغرب بعد أن علمت عائلاتهن بمزاعم الاغتصاب والاعتداء الجنسي، وتلقين رسائل تقول إنهن كن يعملن في الدعارة في إسبانيا.
ولأنهن لا يمكنهن العودة لوطنهن أو مغادرة إسبانيا قبل حل قضيتهن، يقلن إن إثبات برائتهن هو السبيل الوحيد لرؤية أطفالهن مجدداً.
وقالت عائشة، التي يبلغ عمر رضيعتها الآن 9 أشهر: "لقد أدركنا أننا لا نستطيع العودة إلى الوطن لأننا لم نتقاضَ أجورنا بعد وعلينا أن نثبت أن الأمور التي أخبرنا بها الشرطة صحيحة".
كما أن عائلاتهن وأزواجهن تنكروا لهن
ومثل جميع نساء مزارع الفراولة الإسبانية تعاني عائشة من نوبات الهلع والاكتئاب وتشعر بخوف شديد يمنعها من مغادرة الشقة.
قالت: "منذ ذهابنا إلى الشرطة، أصبحت حياتنا لا تطاق. بل ولم يتسنَ لطفلتي رؤية والدها. أفكر أحياناً أنه كان من الأفضل لي تحمُّل سوء المعاملة والعودة إلى الوطن لأكون بصحبة عائلتي الآن".
وبذلت الحكومة الإسبانية هذا العام جهوداً لتخفيف انتقادات معاملة النساء المغربيات في صناعة الفواكه التصديرية. وأعلنت أنها ستزيد من الضوابط والتفتيش على المزارع وستستعين أيضاً بالوسطاء الثقافيين -أي نساء مغربيات أخريات- لمحاولة حل النزاعات والإبلاغ عن أي حوادث بسوء المعاملة.
وتقول المحاكم إن قضية نساء مزارع الفراولة الإسبانية لا تزال قيد النظر، ومنحت الحكومة النساء، الأسبوع الماضي، تأشيرات عمل مؤقتة لأسباب إنسانية، ما سيتيح لهن العثور على عمل لإعالة أنفسهن. ومع ذلك، تقول بيلين إن كل الجهود المبذولة لحمل الحكومة على اتخاذ إجراءات سريعة لحل قضيتهن لا تزال مُعطلة.
وقالت بيلين: "لقد مُنحن التصاريح لأسباب إنسانية لا لأن حالتهن تؤخذ على محمل الجد باعتبارهن ضحايا محتملين للاتجار بالبشر والاغتصاب. سوف نستمر في متابعة هذه القضية في المحاكم، حتى لو اضطررنا إلى الذهاب إلى المحكمة الأوروبية لإيصال أصواتهن".
وقالت سميرة وعائشة إنهما بدأتا تفقدان الأمل في معاملتهما بالعدل الذي تقولان إنهما تستحقانه وقالتا إن ما عاناتاه في حقول الفراولة في إسبانيا غيرهما للأبد. وقالت سميرة: "في الماضي لم أكن أملك الكثير، لكنني فقدت كل ما أملكه الآن. وأقول للنساء القادمات الآن: رجاءً لا تأتين. إذا وقعت أمور سيئة، فلن يساعدكن أحد. توقفن وعدن إلى وطنكن وعائلاتكن".
* الأسماء الواردة في هذا الموضوع مستعارة.