تعد الغابة الهادئة التي لا تزال على طبيعتها في شمال العاصمة الأوكرانية، كييف، مكاناً مثالياً للاستمتاع بالهواء الطلق، عدا أن هناك حقيقة واحدة عنها. وهي أنها تضم منطقة تشرنوبل المحظورة الملوثة بالإشعاع، التي أُقيمت عام 1986 بعد أن تسببت أسوأ كارثة نووية في العالم في اجتياح موجة من الإشعاع أوروبا.
منذ عام 2011، كانت تعد إحدى مناطق الجذب الرئيسية للسياح المغامرين، ولكن الغابات هنا تُخفي إرثاً آخر من آثار الحرب الباردة، تحيط به سمعة أكثر شراً وغموضاً.
رادار "دوغا" أو "تشرنوبل 2".. إرث الحرب الباردة الخفي
مع أن المكان كان يوماً محاطاً بسرية بالغة، يمكن رؤية هذا الهيكل العملاق من على بعد أميال، إذ يخترق حجب الضباب بارتفاعه الهائل في مشهد بديع.
ومن مسافة بعيدة، يظهر وكأنه جدار ضخم. أما عند إلقاء نظرة مدققة، فسيتبين أنه بناء هائل متهالك يتكون من مئات الهوائيات الضخمة والتوربينات، كما يصفه تقرير لموقع شبكة CNN الأمريكية.

كان رادار دوغا (وهي كلمة تعني القوس) يوماً أحد أقوى المرافق العسكرية في إمبراطورية الاتحاد السوفيتي الشيوعية.
ولا يزال ينتصب شامخاً على ارتفاع 150 متراً ويمتد على مساحة ما يقرب من 700 متر. ولكنه تُرك مُهملاً لفترة طويلة في مواجهة الريح المحملة بالإشعاع التي نشأت عن انفجار مفاعل تشرنوبل، وهو الآن في حالة مزرية ويتآكل تدريجياً.
إن أي شخص يحاول استكشاف الشجيرات عند قدميه سيتعثر في المركبات الملقاة بإهمال، والبراميل الصلبة، والأجهزة الإلكترونية المكسورة، والقمامة المعدنية، وتعد هذه الأشياء بمثابة شواهد على الإجلاء السريع الذي بدأ بعد وقت قصير من الكارثة النووية.

تهديد الصواريخ بعيدة المدى
لعقود من الزمان، كان رادار "دوغا" مستقراً في مكان معزول لا يضم أي شخص يشهد زواله البطيء. ومنذ عام 2013، سُمح للزوار الذين يستكشفون منطقة تشرنوبل المحظورة بالدخول إلى منشأة الرادار في مجموعات يصحبها مرشدون.
يقول ياروسلاف يميليانينكو، مدير شركة Chernobyl Tour، التي تنظم برحلات إلى دوغا، إنه حتى أولئك الذين يعلمون بوجوده يُذهلون من حجمه الهائل.

وقال لقسم CNN Travel: "ينبهر السياح بحجم المنشأة الهائل ومظهره البديع الذي ينم عن تكنولوجيا متقدمة، ولا يتوقع أحد أنه كبير إلى هذا الحد". يضيف: "إنهم يشعرون بالأسف الشديد لأنه شبه مدمر ومعرض لخطر الدمار الكامل".
وحتى بعد عقود من انهيار الاتحاد السوفيتي، لا تزال القصة وراء رادار دوغا تطرح تساؤلات أكثر مما تعطي إجابات، ولم يكن الهدف الحقيقي من بنائه مفهوماً تماماً.
محكوم عليه بالفشل
بدأ بناء رادار دوغا عام 1972 عندما توصل العلماء السوفيت الذين كانوا يبحثون عن طرق للحد من تهديدات الصواريخ بعيدة المدى إلى فكرة بناء رادار ضخم بارتفاع هائل، من شأنه أن يطلق الإشارات لتخترق طبقة الأيونوسفير وتنطلق إلى المنحنى الأرضي.
وعلى الرغم من حجم المشروع الهائل، تبين أن العلماء لم يتمكنوا من فهم آلية عمل الأيونوسفير فهماً جيداً، مما حكم عليه بالفشل قبل حتى أن يشرعوا في بنائه.

إن مصدر بعض ما نعرفه اليوم عن دوغا -المعروف أيضاً باسم "تشرنوبل-2" هو فولاديمير موزياتس، أحد قادة مجمع الرادار السابقين.
يقول لصحيفة Fakty الأوكرانية: "إن الهدف الوحيد من بناء تشرنوبل-2، كجزء من منظومة الدفاع المضادة للصواريخ وأسلحة الفضاء الخاصة بالجيش السوفيتي، هو الكشف عن أي هجوم نووي على الاتحاد السوفيتي في أول دقيقتين أو ثلاث دقائق بعد إطلاق الصواريخ الباليستية".
وكان رادار دوغا مصمماً لاستقبال الإشارات فقط، فيما بُني مركز الإرسال على بعد 60 كيلومتراً في بلدة تسمى لوبيتش1، وهي مهجورة الآن أيضاً. وكانت هذه المرافق بالغة السرية محمية بتدابير أمنية مشددة.
تكهنات جامحة.. كالتحكم في العقول والطقس!
كان من عادة القيادة السوفيتية أن تخصص لهذه المنشآت أرقاماً أو هويات زائفة كي تربك "أعدائها".
إذ ظهر الرادار دوغا على الخرائط السوفيتية، كمخيم للأطفال (بل إن هناك محطة غريبة للحافلات على الطريق إلى إحدى المنشآت المزينة بدب تذكاري من أولمبياد صيف عام 1980 في موسكو).
تقول الأسطورة إن فيل دوناهو، أحد أوائل الصحفيين الأمريكيين الذين سُمح لهم بالدخول إلى تشرنوبل بعد الكارثة، سأل مرشده الرسمي عن مشهد رادار دوغا البديع في الأفق فأخبره أنه فندق غير مكتمل!

ووفقاً لموزياتس، من المفترض أن دوغا أثناء تشغيله كان يستخدم موجات راديو قصيرة قادرة على الانتقال آلاف الكيلومترات باستخدام تقنية تسمى تحديد المواقع باستخدام الرادار "عبر الأفق" للكشف عن لهب محركات الصواريخ التي أُطلقت.
وقد سمع العالم لأول مرة الصوت المنتظم الغريب الذي يشبه صوت نقار الخشب القادم من أجهزة الإرسال عام 1976.
وانتشرت نظريات المؤامرة بعدها على الفور، وكانت عناوين وسائل الإعلام الغربية تتحدث عن "التحكم في العقول والطقس".
"نقار الخشب الروسي"
ووسط مخاوف متزايدة من حرب نووية زعم البعض أن "الإشارة الروسية" منخفضة التردد يمكن أن تغير السلوك البشري وتدمر خلايا الدماغ.
ومما زاد من حدة هذه التكهنات الجامحة إنكار الاتحاد السوفيتي لوجود الرادار بالأصل، إذ كان "معسكراً للأطفال" في النهاية.
وفي حين أن احتمال استخدام دوغا كسلاح موجه للأمريكيين للسيطرة على عقولهم كان مستبعداً للغاية، فإن الغموض لا يزال يحيط بغرضه الحقيقي والتفاصيل المهمة عن عمله.
هل كان هناك اتصال بمحطة تشرنوبل النووية القريبة؟ إذ كانت هناك تكهنات بأن المنشأة المنكوبة بنيت في منطقة بعينها لتزويد الرادار الهائل بالطاقة.
ويشير مؤيدو هذه الفكرة إلى أن رادار دوغا كلف الاتحاد السوفيتي ضعف تكلفة محطة الطاقة، على الرغم من إمكاناته العسكرية المشكوك في أمرها.
يتعمق الفيلم الوثائقي الذي يحمل عنوان "نقار الخشب الروسي" والفائز بجائزة مهرجان صندانس السينمائي لعام 2015 في هذه النظرية بعد التحقيق الذي أجراه الفنان الأوكراني فيدور ألكسندروفيتش في أسباب مأساة تشرنوبل، وكان لرادار دوغا دور مركزي في المؤامرة.
أشباح السوفيت
كان انفجار تشرنوبل في 26 أبريل/نيسان عام 1986 بداية النهاية لهوائيّ دوغا. إذ أُغلق المجمع بسبب التلوث الإشعاعي وتم إجلاء العاملين فيه، ولم يكسر هذا الصمت سوى صوت عدادات غايغر التي تتبع الإشعاع.
ونظراً للسرية البالغة المحاطة برادار دوغا، دُمرت جميع الوثائق المتعلقة بتشغيله أو حفظت في أرشيف موسكو، وهو الوضع الذي لا يزال مستمراً حتى يومنا هذا. ونقلت بعض مكونات الهوائي الحيوية إلى موسكو وسرق اللصوص البعض الآخر.
وفي خضم الفوضى التي أعقبت انهيار الاتحاد السوفيتي، كان مصير الرادار مقيداً بموقعه في وسط منطقة تشرنوبل المحظورة، التي أغلقت أمام الجمهور لأكثر من عقدين.
لقد أثرت كارثة تشرنوبل على حياة الآلاف من الأبرياء، وملأت القارة بأكملها بالإشعاع وأدت إلى الموت والدمار.
إن الانبهار الدائم بالحادث والحرب الباردة، الذي قد يعود جزء منه إلى التوترات الدبلوماسية الأخيرة بين الشرق والغرب، يعني أن الأشخاص الراغبين في استكشاف مثل هذه الآثار المهجورة ليسوا بالقليلين.
يقول يميليانينكو: "لقد سمع الكثيرون عن هذا الرادار. وهم يحبونه في الغالب لأن قصة حياتهم الشخصية مرتبطة بطريقة ما بتاريخ الحرب الباردة".
ويقول: "وعاصر بعض الناس تلك الأحداث.. ويودون أن يشاهدوا دوغا بأم أعينهم"، مضيفاً أن معظم الزائرين من الولايات المتحدة، وتتراوح أعمارهم بين 30 و60 عاماً.
ويضيف يميليانينكو، الذي يسعى مع مجموعة من خبراء السياحة الأوكرانيين إلى إدراج المنطقة المحظورة في قائمة اليونسكو للتراث العالمي، قائلاً إن العديد من زوار المنطقة المحظورة يزعمون أن مشاهدة دوغا هو أهم ما يميز رحلتهم.
لذا، ففي حين أن موجات الراديو التي تحمل صوت نقار الخشب المخيف قد توقفت عن الانبعاث، لا يزال رادار دوغا يرسل إشارات حضوره المهيب في أرجاء الغابات المقفرة.
من الجائز أن الاتحاد السوفيتي ذهب بلا رجعة، لكن أشباحه ما زالت تطارد أوكرانيا.