صمت غريب أحاط بعملية التحقيق معه رغم أنه معروف في الأوساط الثقافية والأدبية، وفجأة تم الحكم عليه بالسجن خمس سنوات.. فما هي خبايا الحكم على ناشر كتاب الملاك الذي يعرض الرواية الإسرائيلية التي تزعم أن أشرف مروان زوج ابنة الرئيس الراحل عبدالناصر كان عميلاً لإسرائيل.
في أبريل/نيسان 2018 تم القبض على الناشر خالد لطفي، وفي فبراير/شباط 2019 حكم عليه عسكرياً بالسجن لمدة 5 سنوات بتهمة إفشاء أسرار عسكرية.
ورغم أننا نتحدث عن شخص معروف جداً في الأوساط الثقافية والإعلامية ولديه علاقات جيدة بالجميع، إلا أنه مضى ما يقرب من عام والرجل مختفٍ ومع ذلك لم يكتب أحدهم خبراً عنه ولا حتى تدوينة واحدة عن القبض عليه!
خبايا الحكم على ناشر كتاب الملاك
التعتيم والغموض الذي أحاط بقصة اختفاء خالد لطفي، ثم التصريح بها بعد الحكم عليه بالسجن، يطرح أسئلة كثيرة حول طبيعة العلاقة بين السلطة والمثقفين في مصر.
"عربي بوست" تواصلت مع أطراف القصة لتفهم لماذا اعتقل الرجل أولاً، ولماذا التزم الجميع الصمت ثانياً.
في مطلع عام 2017 أبرم "خالد لطفي" مالك دار نشر "تنمية" اتفاقاً مع "الدار العربية للعلوم" بلبنان على نشر طبعة مصرية من كتاب "الملاك" الصادر بالإنجليزية في أغسطس/آب 2016 بصفتها مالكة حقوق الترجمة العربية للكتاب.
سجن ناشر مصري خمس سنوات بتهمة إفشاء أسرار عسكرية.
الأسرار العسكرية تتمثل فيما ورد في كتاب "الملاك"، لمؤلفه يوري بار جوزيف، وكل ما فعله الناشر أنه ترجم الكتاب وأعاد نشره معرباً
أسرار عسكرية على من؟ هل ما فيه فعلاً أسراراً عسكرية؟
لم أسرارك العسكرية يا عسكري من مكتبات العالم.— سليم عزوز (@selimazouz1) February 21, 2019
نعم لقد ارتكب مخالفة، ولكنها يفترض ألا تتعدى عقوبتها الغرامة
أرسل خالد كما هو متبع نسخة من الكتاب إلى الرقابة لأخذ تصريح ورقم نشر للكتاب.
إلا أنه لم يتلقّ رداً على طلبه، فقرر طبعه وتوزيعه، وهو ما يعد مخالفة إدارية ارتكبتها دار تنمية، قد توجب الغرامة ومصادرة الكتاب.
وتعلق سعاد نصر إحدى العاملات بمجال صناعة الكتب في مصر، على تلك النقطة قائلة: قانوناً هناك مخالفة إدارية بالقطع.
لكن عملياً كثيراً ما يحدث هذا معنا، حين نرسل نسخة للرقابة ولا يأتي الرد أو يتأخر كثيراً، وتكون الدار مرتبطة بمواعيد تعاقد ومؤتمرات فتطبع الكتاب، وإن حدثت أزمة أو حُرر لنا محضر ندفع الغرامة وانتهى الأمر، حسب قولها.
الكتاب منشور في الخارج وهناك نسخة عربية على الإنترنت
وهو ما فعله خالد بالضبط، إذ طبع الكتاب ونشره، ومرت الأمور بسلاسة في البداية، خصوصاً أن الكتاب كان قد مر عام على صدور نسخته الإنجليزية، وعلى رفع نسخة عربي PDF منه على الإنترنت، فلم يتصور خالد وأخوه الأصغر محمود أن هناك كارثة على مشارف الحدوث.
نجح الكتاب وحدث إقبال غير عادي في الشارع المصري عليه، فالجميع كان راغباً في سماع الرواية الإسرائيلية التي يسردها الباحث الإسرائيلي "يوري بار جوزيف".
إذ يحكي الكاتب قصة الخيانة المفترضة لـ "أشرف مروان" (زوج ابنة الرئيس الراحل جمال عبدالناصر) وكيف أنه تم تجنيده لصالح المخابرات الإسرائيلية.
ويزعم الكتاب أن أشرف مروان كشف لإسرائيل تفاصيل تحركات الجيش المصري في حرب 1973 وهي المعلومات التي لو كانوا أصغوا إليها وتعاملوا معها بالجدية المطلوبة لما كانت القوات المصرية استطاعت عبور قناة السويس واقتحام خط بارليف أبداً.
إقبال هائل على الكتاب، وهذا ما أغضب أسرة عبدالناصر
الإقبال والزخم الذي أحدثه الكتاب خصوصاً على صفحات التواصل الاجتماعي أغضب عائلة جمال عبدالناصر، الذي يزعم الكتاب أن أحد أفرادها خائن.
وهي التهمة التي طاردت أشرف مروان في السنوات الأخيرة من حياته، ليأتي هذا الكتاب ويعرض رواية الضباط الإسرائيليين الذين تعاملوا معه، الأمر الذي يعزز هذا الاتهام الذي نسب للرئيس مبارك أنه أنكره.
ورغم أن هناك شكوكاً قوية ومنطقية في مصداقية الكتاب؛ حيث يعتقد أنه صدر نتيجة الصراع بين أطراف أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية المختلفة، والتي يسعى كل طرف منها منذ حرب العبور 1973 لتحميل مسؤولية الفشل للجهاز الآخر، مدعياً أنه قام بعمله على أكمل وجه، وأن التقصير يتحمله الآخرون.
القضية ليست سببها إفشاء أسرار عسكرية، الأمر مجرد مجاملة
القاهرة لم تحاول إبراز الشكوك في الرواية الإسرائيلية بحكمة ولم تبرز خلفيات صناع الكتاب والأزمة بين المخابرات العامة والحربية الإسرائيلية.
بالعكس كان رد فعل السلطات المصرية عصبياً جداً، فصادرت الكتاب أولاً ثم حبست الناشر ثانياً بتهمة نشر أسرار عسكرية، وكأنها تؤكد للجميع صحة ما ورد في الكتاب
لكن أحد المقربين من دوائر صنع القرار في القاهرة قال لـ "عربي بوست" أن تحرك السلطات المصرية لم يأت بسبب دقة ما ورد في الكتاب.
بالعكس يؤكد المصدر أن التحرك العنيف هذا أتى مجاملة لهدى ابنة جمال عبدالناصر، التي تجمعها بالرئيس السيسي علاقات قوية منذ أن وقفت معه في أزمة التنازل عن جزيرتي تيران وصنافير للسعودية.
ففي ذلك الوقت قالت هدى إنها عثرت على وثيقة من وزارة الخارجية المصرية مصنفة (سري جداً) ضمن أوراق والدها الزعيم الراحل جمال عبدالناصر، تؤكد أن تيران وصنافير سعوديتان.
وبذلك أضفت مشروعية على قرار السيسي بتسليم الجزيرتين للمملكة ورفعت الحرج عنه، وهو الموقف الذي لم ينسَه لها السيسي.
هدى عبدالناصر تتصل برئيس المخابرات.. حان وقت رد جميل تيران وصنافير
وحين غضبت هدى من الكتاب واتصلت باللواء عباس كامل رئيس المخابرات العامة المقرب من الرئيس السيسي، وأبدت استياءها الشديد من كتاب الملاك.
فقررت الرئاسة المصرية إصدار أمر بمصادرة الكتاب، والتنكيل بالناشر إرضاء لها، حسبما قالت المصادر.
إذ يبدو أن الرئيس السيسي لم ينسَ لها موقفها الداعم لقرار تسليم الجزيرتين للسعودية، والذي أثار انتقادات حادة في مصر آنذاك.
القبض على الناشر رغم إعدامه لكل النسخ.. "الموضوع كبر قوي"
وعن ملابسات القبض على خالد قال أحد العاملين في دار تنمية للنشر لـ"عربي بوست": في مطلع سبتمبر/أيلول 2017 داهمت لجنة من المصنفات الفنية المكتبة وحررت لنا محضراً، وتم إلقاء القبض على أحد العاملين بالدار، الذي أخلي سبيله بعد ذلك.
يضيف الموظف قائلاً: اللي عرفناه إنه تم إبلاغ أستاذ خالد إن الموضوع كبر قوي، وإنه لازم يلم كل النسخ اللي في السوق، وهو ما قمنا به فعلاً وأعدمنا كافة النسخ المطبوعة، لنفاجأ في شهر أبريل/نيسان 2018 بالقبض على أستاذ خالد.
هدى عبد الناصر
لقيت وثيقة من بتوع بابا
تؤكد ملكية السعودية
لتيران وصنافير
-=-
مع ان
بابا نفسة
كان قايل خليج العقبة و جزيرة تيران وصينافير مصرية pic.twitter.com/FZoHC9GK0f— ⭕️مدونة افتكاسات⭕️ (@hesham_m_2011) December 28, 2018
ولكن لماذا لم يعلم المثقفون بما حدث له؟.. ما قاله الأمن الوطني لأسرته هو السبب
السؤال هنا لماذا لم ينتشر خبر القبض على خالد لطفي؟ لماذا لم يتحدث عنه أحد أو يطالب بالإفراج عنه طيلة هذه المدة؟
يجيب الموظف بدار النشر عن هذا السؤال قائلاً: الأمن الوطني قال لمحمود (شقيق خالد لطفي) إنكم لو فتحتم بقكم أو اتكلمتم في الموضوع خالد مش خارج، وقد استجاب الأخ الأصغر لتلك التهديدات وطالب بل توسل لكل أصدقاء خالد سواء نشطاء وصحفيون بعدم النشر أو الكتابة عن شقيقه على أمل أن يفي الأمن الوطني بوعده، وهو ما لم يحدث للأسف لنفاجأ بالحكم عليه بالسجن خمس سنوات!
وليست هذه أول مرة تؤدي هذه النصائح إلى إدانة الموقوفين
سامح فتحي المحامي يعلق على تلك النقطة قائلاً: مؤخراً أصبحت هناك تعليمات على شكل نصائح من ضباط الأمن الوطني، وأحياناً من وكلاء النيابة أنفسهم، بعدم الحديث مع الصحافة، وإقناع أهالي المتهمين ترغيباً أو ترهيباً بعدم الحديث مطلقاً مع الإعلام أو عبر صفحات التواصل الاجتماعي.
وأضاف أنهم يقولون إنهم عليهم الالتزام بهذه النصائح هذا إذا كانوا يريدون أن يروا ابنهم حراً قريباً، وأن مخالفتهم لهذا الطلب (الأمر) سيتحمل تبعاته ابنهم.
وأردف قائلاً: "وللأسف يخضع الأهالي لهذا التهديد وغالباً لا يفي الأمن بوعده ويحبس ابنهم، تماماً كما حدث مع الناشر خالد لطفي الذي حكم عليه بالسجن خمس سنوات".