في أجواء الحروب والثورات تذهب الأنظار إلى الأسباب المباشرة للصراع، والتي عادة ما تكون سياسية أو اقتصادية أو حتى اجتماعية، لكن تظل هناك أسباب ودوافع قد تكون غير مرئية، من بين تلك الأسباب شكل وطبيعة العمران الذي يساهم بشكل كبير في تمزيق نسيج المجتمع الواحد في بعض الأحيان.
في كتابها الأول، The Battle for Home: The Memoir of a Syrian Architect، تشرح المهندسة المعمارية مروة الصابوني كيف أنَّ المباني تُثري المجتمعات التي تعيش فيها، وكيف تؤثر على ترابط هذه المجتمعات أو انهيارها.
تُبين الصابوني، من خلال تاريخ دولتها، كيف أنَّ العمارة السورية ساعدت تدريجياً في تقسيم الشعب متعدد الطوائف، لأنَّها فشلت في استيعاب احتياجات هويتها الفريدة.
في مقابلة لها مع موقع " ميدل ايست اي" تحدثت عن فتراتٍ مختلفة في تاريخ بلدها، بدءاً من القصور الأموية والمباني الخاصة بالحقبة العثمانية، وصولاً إلى تلك التي كانت تحت الانتداب الفرنسي وأطلال حمص، فإلى تفاصيل المقابلة..
ما هو دور العمارة؟
تقول مروة الصابوني: سواءٌ كانت أماكن خاصة أو عامة، تؤثر الهندسة المعمارية للأماكن على حياة الناس على عدة مستويات. يجب أن تكون العمارة جميلة وممتعة، مع السماح للجميع بالتواصل والعيش معاً.
كيف تعكس مدينة مثل حمص دور العمارة في المجتمع؟
تعتقد مروة الصابوني أن الجزء القديم من مدينة حمص القديمة كان متحفاً حياً للهندسة المعمارية القديمة، لكن صُرف النظر عن كنوزها.
وتضيف: أصبح جزئي المدينة أيقونتين بالنسبة لسكان المدينة لأنَّ لهما أهمية معنوية للمسيحيين والمسلمين، وهما: جامع خالد بن الوليد المبني على الطراز العثماني، وكنيسة السيدة العذراء أم الزنار. بالإضافة إلى أهميتهما لسكان حمص، تعرّض هذان المبنيان أيضاً إلى تدهورٍ كبير في النزاعات الأخيرة.
بُني النسيج الاجتماعي على أساس مبدأ الهندسة المعمارية نفسه: مزيجٌ من العادات والأصول والأديان. غالباً ما كانت أجراس الكنائس تعانق أذان المساجد في الشارع. هذه هي القيم التي كان يجب حمايتها، لأنَّنا نفتقدها اليوم على نحوٍ خطير.

ساعدت المدينة القديمة في منح السكان شعوراً بالانتماء للمجتمع. عاش كل فرد في مجتمع بفضل التصميم الدقيق للمنازل، والذي عزز التماسك: فقد كان يُنظر إلى نسبها، وأطوالها، وترتيبها، وأشكالها والمواد المستخدمة كجزء لا يتجزأ من المدينة.
واليوم، شكَّل الجزء الأكثر حداثة الواقع في ضواحي المدينة نفسه كتجمعٍ للأحياء على أساس الأصل الديموغرافي لسكانها أو دينهم.
هل فشلت الحكومة السورية في التخطيط لهندسة معمارية تسمح لسكانها بالعيش معاً في سلام؟
تجزم الصابوني بأن الحكومة فشلت على عدة مستويات من خلال إهمال الوظائف الأساسية للهندسة المعمارية، والمتمثلة في الجوانب الجمالية والاجتماعية والاقتصادية وحتى السياسية التي يجب أن تراعيها المباني.
وبدلاً من الحفاظ على الجزء القديم من المدينة، وتحسين الجزء الجديد، قرر مسؤولو المدينة "تحديث" تخطيط المدن والهندسة المعمارية. دُمرت الكثير من المباني القديمة، وحلت محلها أوهام من ضرب خيالهم.
ذات يوم، على سبيل المثال، قررت البلدية أنَّ مركز التسوق في قلب المدينة القديمة سوف يُزوَّد بموقف مفتوح للسيارات. وحلت المباني الخرسانية التي لا حياة فيها محل القصور والحمامات والمباني الأخرى ذات الأهمية التاريخية والجمالية.
هناك مشروع آخر ضخم، وهو مجمع ابن الوليد. لم يكتمل المشروع، ويبدو المجمع الآن مثل النتوء الخبيث. المشروع كان من تصميم وبناء مؤسسة تنفيذ الإنشاءات العسكرية، المقاول الرئيسي للمشروعات العامة في سوريا.
وفي المناسبات النادرة التي اختار فيها المسؤولون الحفاظ على المباني وترميمها، كانت النتائج كارثية، مثلما حدث مع قصر الزهراوي، على سبيل المثال، الذي أصبح ملكاً للحكومة السورية في عام 1976. لم يراعِ موظفو الترميم الحكوميون انسجام وتماسك هذا المبنى الرائع، وأعادوا طلاؤه بألوان مبهرجة.
كيف عجَّلت العمارة من الصراع في سوريا؟
ترى مروة الصابوني أن الصراع السوري هو نتيجة لسلسلة من الأحداث، التي تعد العمارة السورية جزءاً صغيراً منها. إذا كنت أتحدث بشكل رئيسي عن حمص في كتابي، فهذا لأنَّها تتبع نمطاً يمكنك أن تجده في مدن سورية أخرى.
بُنيت مدينة حمص القديمة، التي تعتبر قلب المدينة ومنطقتها التاريخية، داخل الجدران القديمة التي كانت تحمي المدينة من الغزاة. وفي الأربعينيات من القرن الماضي، امتدت المدينة إلى ما وراء المنطقة التي تحدها هذه الجدران. في هذا الوقت كانت محاطة ببساتين مزدهرة نمت بالقرب من نهر العاصي.

في خمسينيات القرن العشرين، سمح إصدار قانون حول نزع الملكية للحكومة بمصادرة الملكية الخاصة بغرض الاستخدام العام، مما مهَّد الطريق لعمليات بناء ضخمة خارج حدود المدينة.
في هذا القطاع الجديد، الذي أصبح وسط المدينة الجديد، وسَّع التخطيط الحضري المدينة القديمة بطريقة غير متجانسة، ومزَج عناصر العمارة الاستعمارية مع الإنشاءات التي تفتقر لأي هوية أو معنى حقيقيين.
يشمل القطاع الثالث المزيد من الأحياء السكنية التي بها منازل من الطبقة المتوسطة والعليا، والتي تتراوح عناصرها المعمارية بين "الطراز التجريبي الحديث" إلى عدم وجود أي هندسة معمارية من الأساس.
حتى قبل الحرب، ساعد تآكل الأحياء القديمة في حمص، والأكثر من ذلك استبدالها بأحياء أخرى جديدة مبنية على أساس الدين أو الأصول الديموغرافية للسكان، على فصل السكان عن المدينة وعن أنفسهم. في بداية النزاع، وجد الناس أنفسهم منعزلين في مناطق معينة من المدينة بسبب القرارات السيئة للسلطات من حيث التخطيط الحضري.
ماذا عن اندماجٍ بين العمارة العربية والعمارة الإسلامية؟
تعتقد الصابوني أن العمارة العربية غير موجودة. عندما هزم العرب العثمانيين، بدأ الحديث عن العروبة من أجل خلق الوحدة، وهكذا ظهر مفهوم العمارة العربية. فكرة العمارة العربية هي تفسير سياسي.
هناك، من ناحية أخرى، العمارة الإسلامية، التي يمكنك رؤيتها في الآثار والمباني في العديد من البلدان العربية. وما ظهر بعد ذلك كان عبارة فقط عن عمارة أوروبية مستوردة.
ما هي المشكلة الرئيسية في العمارة في الشرق الأوسط؟
تقول الصابوني إن المشكلة الرئيسية تكمن في أنَّها تعكس التراث الاستعماري الذي خلَّفته القوى القديمة، ولا تعكس فناً معمارياً وطنياً. في سوريا، الخطط الحضرية الجديدة صممها الفرنسيون، ونُفِّذت بعد الاستقلال.
يجب أن تُعزز العمارة شعور الناس بوطنهم من خلال إيجاد أشكال فريدة من التعبير والإنتاج لا تتعلق فقط باستيراد الخطط المعمارية من الخارج.
لقد كانت لدينا عقدة نقص منذ عقود، وهو مرض اجتماعي يجب التخلص منه من خلال محاولة فهم تاريخنا بصورة أفضل، من أجل بلورة ذوقنا الخاص.
ماذا عن إعادة إعمار سوريا؟
تقول الصابوني إذا كان الصراع السوري يبدو وكأنه يقترب من نهايته بشكل مؤلم، فإنَّ إعادة بناء بِنى تحتية جديدة قادرة على استيعاب شعب جريح ومشتت، ومنقسم أكثر من أي وقت مضى، تبدو أمراً ضرورياً.
هي مهمة يمكن أن تتحقق فقط بعد تفكر عميق في الهوية الوطنية وأخطاء الماضي، للتوصل إلى ثقافة مشتركة يمكن التعبير عنها في العمارة والبيئة.