بعد إتمامه عملية المصالحة، حصل حامد على بطاقة التسوية والتي تتيح له التنقل على الحواجز العسكرية قبل الاستجابة لنداء التجنيد الإلزامي ، فالشباب من سن الثامنة عشرة، وحتى الأربعين تعطيهم البطاقة فرصة لـ 6 أشهر ثم يتوجب عليهم الالتحاق بالجيش السوري.
اليوم بعد مضي خمسة أشهر على إتمام المصالحات في الجنوب أصبح الوقت يداهم حامد قبل أن يساق إلى الخدمة الإلزامية في الجيش السوري، ويترك أسرته دون معيل، لقد تبقى لديه ما يقارب 52 يوماً، كما قال.
اتصل حامد بأصدقائه اللاجئين في الأردن، طالباً منهم أن يقرضوه ألف دولار حتى الصيف القادم إلا أنه لم يحصل على المبلغ المطلوب حتى اللحظة.
قبل خمسة أشهر فقط كان حامد محمد، 25 عاماً، والذي طلب عدم الكشف عن اسمه الحقيقي، يعمل في منظمة إغاثية جنوب سوريا، ويتقاضى راتباً شهرياً بقيمة 150 دولاراً، وبالرغم أن الراتب لم يكن كبيراً، إلا أنه كان يسد جزءاً من احتياجات زوجته وأطفاله الثلاثة مع بعض التقشف في الطعام واللباس وحاجات "الرفاهية" كما يسميها.
في تموز الماضي أوقفت جميع المنظمات العاملة في مناطق المعارضة جنوب سوريا بما فيها المنظمة التي يعمل لديها حامد أنشطتها بعد سيطرة الحكومة السورية بدعم من القوات الروسية على كامل محافظتي درعا والقنيطرة.
المصالحة والتسوية.. الإجراء الغامض
ومع دخول القوات الحكومية إلى مدن وبلدات الجنوب، سارع حامد للبدء في عملية المصالحة و"التسوية" وهو إجراء غامض يقوم به الناس في المناطق التي كانت تحت سيطرة المعارضة سابقاً، ويعطيهم فرصة للعيش تحت سيطرة الحكومة.
وخلال هذه العملية يتوجب على الناس زيارة مراكز المصالحة حيث سيقابلهم هناك عناصر من الأجهزة الأمنية ليقوموا بالتحقيق معهم وتدوين المعلومات.
وبعد حصوله على "بطاقة التسوية" صار إلزاما عليه الالتحاق الخدمة الإلزامية في الجيش السوري، ويترك أسرته دون معيل، لقد تبقى لديه ما يقارب 52 يوماً، كما قال.
يتذكر حامد مقتل أخيه عام 2012 برصاص الجيش السوري أثناء مظاهرة سلمية في مدينته، والمجازر والقصف التي عاشها خلال السنوات الماضية، ويقول لـ"عربي بوست" "كيف بدي انضم لجيش قتل أخوي ورفقاتي، ويمكن اليوم يحطوني على جبهات حتى قاتل أخوتي ورفقاتي يلي تهجروا للشمال السوري".
أيهم لم يكن حاله أفضل من حامد، فقد تبقى لديه فقط 27 يوماً حتى تنتهي ورقة التسوية الخاصة به. "كلنا إلى خدمة العلم، مافي مهرب" هكذا رد أيهم عبر تطبيق واتساب على سؤال مراسل عربي بوست عما إذا كان ينوي الالتحاق بالجيش.
وهو اليوم يستعد من أجل تسليم نفسه لشعبة التجنيد قبل إنقضاء المهلة المتبقية معه، ففي حال تأخر عن الموعد سيترتّب عليه "غرامة مالية وسجن، وزيادة في الخدمة".
"سباق في التجنيد"
شمل اتفاق المصالحة الموقع بين المعارضة والحكومة السورية بضمانة روسية جنوب سوريا بنداً رئيسياً نص على تشكيل "الفيلق الخامس" بدعم روسي، وهو ميلشيا عسكرية تتألف من فصائل المعارضة سابقاً، ويحصل العناصر فيه على عقد عمل وراتب شهري بقيمة 200 دولار، ويقاتل الفيلق إلى جانب الجيش السوري والميليشيات الموالية له وتحتسب مدة العمل فيه من الخدمة الإلزامية.
وأكد أبو محمد عبد الرحمن، قيادي عسكري في فصائل المعارضة سابقاً ولعب دوراً في مفاوضات تموز مع الحكومة السورية وروسيا، لعربي بوست "بعد الاتفاق كان واضحاً جداً أنه يوجد سباق في لتجنيد الشباب واستقطابهم".
وأضاف أبو محمد "كل حاجز صار دولة السباق ليس فقط محصوراً على الحلفاء الثلاثة: الروس والإيرانيين والجيش السوري، اليوم أيضاً هناك سباق بين قيادات الجيش السوري والأجهزة الأمنية".
وتقود الفرقة الرابعة التي يقودها ماهر الأسد أكبر عمليات التجنيد، و"كأن الرابعة راح تكون مفتاح الحل السوري" وفقاً لما قال أبو محمد.
حيث تقوم الفرقة الرابعة منذ أشهر بتقديم عقود عمل جماعية تجدد بشكل شهري، "وتعطى إلى مجموعات وفصائل سابقة في المعارضة، وليس لأفراد فقط"، بالإضافة إلى بطاقة عسكرية تسهل تحرك عناصرها على الحواجز ونقاط التفتيش، وفقاً لما قاله اثنان من قادة المعارضة سابقاً جنوب سوريا.
وأضاف القيادي أبو محمد "يلي بحمل بطاقة الرابعة ما بتم تفتيشه على الحواجز أو توقيفه ولا حتى بيعرض هويته الشخصية، وفي أعداد كثيرة انضمت إلها".
وأكد هاشم خليل، قيادي عسكري في الفيلق الخامس بريف درعا، والذي طلب عدم الكشف عن اسمه الحقيقي لأسباب أمنية، بوجود سباق في التجنيد بين الأطراف الثلاثة (روسيا، إيران، والنظام السوري) في جنوب سوريا.
وأضاف خليل، أن "السباق" في الجنوب يختلف نتيجة اختلاف النفوذ، فـ"المناطق التي سيطر عليها النظام عن طريق القوة والمصالحة بشتغل إلي بدو إياه من تجنيد واعتقال، ويتحرك فيها الإيرانيون بسهولة، وتختلف تماماً عن المناطق يلي سيطر عليها النظام عن طريق مفاوضات، والتي تعتبر ذات نفوذ روسي".
الإيرانيون يدخلون على الخط
ونتيجة لاختلاف مناطق النفوذ بين الحلفاء والمرحلة الانتقالية التي يمر فيها الجنوب، تنامت عمليات التجنيد التي تقوم بها إيران بعد المصالحات في الجنوب، حيث سارعت روسيا للضغط على إيران بضرورة وقف عمليات التجنيد، إلا أن الضغوطات الروسية لم تكن كافية، وفقاً لما تؤكده ثلاثة من مصادر عربي بوست.
وأكد خليل واثنان من قادة المعارضة سابقاً جنوب سوريا أن "التحركات الإيرانية صارت بشكل سري وحذر أكثر" وأن "التنافس الروسي الإيراني أصبح غير معلن".
من جهته، يعتبر القيادي السابق في الجبهة الجنوبية، رائد الراضي، والذي غادر درعا إلى المملكة الأردنية بعد توقيع اتفاق المصالحات في تموز الماضي، أن الهدف للأطراف الثلاثة واحد "إنعاش النظام" وأن الخلاف الحاصل سببه "الرغبة في السيطرة على القرار السوري".
ويتفق القيادي أبو محمد عبدالرحمن مع "الراضي"، حيث يعتبر أن "عمليات التجنيد هي من أجل تشكيل قوة ضغط محلية لكل طرف من الأطراف الثلاثة تخدم مصالحه جنوب سوريا".
وقال الراضي "إيران والميلشيات الموالية لها كحزب الله تسيطر على الأرض، ومن يسيطر على الأرض هو صاحب القرار".
"ميزان الحلفاء"
تعهدت موسكو أمام المجتمع الدولي بإخراج إيران من سوريا من أجل إكمال خارطة الحل التي رسمتها عبر أستانة وسوتشي.
ويعتبر رائد الراضي، أن إقصاء إيران من محادثات سوتشي والحل في الشمال السوري، وغض النظر عن الضربات الإسرائيلية على المواقع الإيرانية، هو دليل على "الخلاف الحاصل، وتحجيم دور إيران في سوريا".
حيث وجدت الحكومة السورية نفسها في موقع مُرتكز الميزان مع ازدياد التنافس بين حليفي الحكومة السورية – روسيا وإيران – على العديد من الملفات والقضايا.
وأفرزت السنوات الماضية من الحرب وجود تبعيّات مختلفة لأجهزة النظام الأمنية والعسكرية، ما جعل من الصعب تحقيق توازن بين الحلفاء دون أن تجد حكومة الأسد نفسها وسط هذا التنافس.
وقال القيادي العسكري في الفيلق الخامس بريف درعا الشرقي، حمزة الأحمد، والذي رفض الكشف عن اسمه الحقيقي لأسباب أمنية، أن "الأجهزة الأمنية السورية في حالة انقسام، مثلاً الأمن العسكري يسيطر عليه الروس، ويتركز نفوذه بريف درعا الغربي، أما المخابرات الجوية في حالة انقسام هي الأخرى وتحاول إحداث توازن بين الروس والإيرانيين، لذا تجد قسماً منها يميل لروسيا والآخر لإيران، والفرقة الرابعة كذلك لا تختلف عن الجوية".
ويشرح الأحمد أن التنافس واضح وقوي، روسيا تحاول كسب الطائفة السنيّة بسوريا كونها الغالبية.
وباب الانتساب للفيلق الخامس مغلق حالياً نظراً لـ"بعض القضايا العالقة بريف درعا الغربي"، يضيف الأحمد إلا أنه مع بداية العام القادم ستقوم روسيا بتوسعة "الفيلق" في جنوب سوريا. مضيفاً أن "الدور سيكون أكبر لروسيا بداية العام القادم".
ويرى القيادي أبو محمد، أن "المشروع الروسي أفضل من الإيراني، وبالنهاية مهما طال راح يطلع، والأفضل حالياً نتفق مع الروس".
انقلاب على مرسوم العفو
وكانت إدارة التجنيد في حكومة دمشق أصدرت الشهر الماضي قوائم جديدة بأسماء مطلوبين للخدمة الاحتياطية، وذلك بعد أيام من إعلان دمشق شطب أسماء المطلوبين للخدمة الاحتياطية في سوريا.
حيث أصدر وزير الدفاع السوري تعميماً الشهر الماضي تضمن إلغاء كافة الأسماء المطلوبة للاحتياط استناداً إلى "مرسوم العفو" رقم 18، والقاضي بمنح عفو عام لـ"مرتكبي جرائم الفرار الداخلي والخارجي المنصوص عليها في قانون العقوبات العسكرية، والمرتكبة قبل تاريخ 9/10/2018″.
واعتبرت القوائم الجديدة انقلاباً على "مرسوم العفو"، الأمر الذي أثار جدلاً حول إمكانية الحكومة الاحتفاظ بالشباب لسنوات كما حدث سابقاً مع دورات عسكرية لم تسرح منذ قرابة الثماني سنوات.
ووفق مصادر محلية أسرت لعربي بوست أنه وصلت خلال الأسابيع الماضية عشرات القوائم التي تحمل أسماء الشباب المطلوبين للخدمة في محافظتي درعا والقنيطرة.
وقال أحمد، 32 عام من ريف درعا لعربي بوست، "نزل قرار العفو وإلغاء أسماء الاحتياط تفاءلنا به خيراً، لكن بعد أسبوع تفاجأنا بقوائم احتياط جديدة وصلت للمخفر عندنا بالمدينة".
وأضاف أحمد أنه خلال ثلاثة أيام وصل لمخفر مدينتي 500 اسم مطلوبين للاحتياط واسمي من بينهم، و"لسا في قوائم راح تجي مثل ما خبرنا رئيس المخفر".
ويؤكد الشاب أن الحواجز المنتشرة داخل المدينة ومخفر الشرطة لم يقوموا بسحب أي شاب إلى الخدمة حتى اللحظة، إلا أنه "مجرد الدخول إلى شعبة التجنيد من أجل إصدار أي ورقة رسمية سيقومون باعتقالك فوراً، ويترتب عليك غرامة وعقوبة".
كلما زاد عدد الملتحقين زاد عدد المسرحين
ويرى رائد الراضي، أن النظام يهدف من خلال قوائم الاحتياط إلى "فرض السيطرة على الجنوب من خلال أبنائه" لاسيما أن المناطق التي عادت إلى سيطرة النظام عن طريق مفاوضات عسكرية بوساطة روسية لا يستطيع حتى اللحظة بسط قبضته الأمنية فيها.
وعلى ما يبدو فإن دمشق تسعى من خلال الاحتياط إلى استبدال العناصر الحالية في الجيش بعناصر جدد، وقال القاضي العسكري المقدم نوار بشير إبراهيم، في لقاء تلفزيوني على الفضائية السورية، أنه "كلما زاد عدد الملتحقين بالقوات المسلحة زاد عدد المسرحين".
وقال القيادي أبو محمد عبد الرحمن، إن النظام يركز حالياً على الاحتياط أكثر من المتخلفين عن الخدمة الإلزامية" وأضاف "النظام يحتاج حالياً إلى دماء جديدة مدربة سابقة من أجل تخفيف الضغط وتسريح الدورات القديمة التي تخدم في الجيش منذ 8 سنوات".
ويختلف القيادي حمزة أحمد مع ما قاله عبد الرحمن، حيث يرى أن "عمليات سحب الاحتياط ومذكرات تبليغ المتخلفين تهدف لسحب البساط من تحت الروس والإيرانيين، لاسيما أن ورقة التسوية ومهلة الـ6 شهور لم تنتهِ بعد".
ومع تزايد القوائم وعمليات إبلاغ الشباب بضرورة الالتحاق بالخدمة العسكرية يرى رائد الراضي، أن الجنوب أصبح "قنبلة قابلة للانفجار بأي لحظة، لقد أصبح معظم الشباب مطلوبين للنظام إما للخدمة الإلزامية أو الاحتياط أو قضايا جنائية".
وفي يوم الثلاثاء الماضي رفض أهالي المطلوبين للخدمة الإلزامية والاحتياطية في بلدة معربة بريف درعا الشرقي استلام مذكرات بأسماء أبنائهم للالتحاق بالخدمة العسكرية بعد مداهمات قامت بها الشرطة العسكرية والفيلق الخامس لإبلاغ الشباب للالتحاق بالخدمة.
ووقعت مشادات كلامية بين الأهالي وعناصر الفيلق الخامس، وهي ليست المرة الأولى التي يظهر فيها غضب الأهالي على قرارات التجنيد والاعتقالات في الجنوب، حيث كُتبت العديد من العبارات المناهضة لحكومة الأسد خلال الأسابيع الماضية، كما قامت مجموعة من عناصر الفرقة الرابعة من أبناء بلدة اليادودة بقطع الطرق الرئيسي في البلدة احتجاجاً على قرار نقلهم لجبهات عسكرية شمال سوريا الشهر الماضي.
وليست الخدمة الاحتياطية أو الإلزامية وحدها من تؤرق الأهالي جنوب سوريا، فلايزال ملف المنشقين عن الجيش السوري والأجهزة الأمنية مبهماً حتى اللحظة.
وقال مجد عبد الحي، صف ضابط منشق عن الجيش السوري "حالياً صرنا نتمنى الموت، المصيبة أنه يجب أن تسلم نفسك، والذين سلموا أنفسهم اختفوا.. فعلاً نعيش حالة رعب حقيقي".
وختم الشاب قصته متحسراً "ضعنا يا خيي لا عارفين نفل ولا عارفين نبقى".