بعد إعلانه رسمياً منافسة الرئيس الجزائري المقعد عبد العزيز بوتفليقة في الانتخابات الرئاسية القادمة في أبريل/نيسان 2019، سلطت وسائل الإعلام الضوء على المرشح اليساري فتحي غراس الذي كان أحد أبناء الحركة الإسلامية قبل الحرب الأهلية القرن الماضي.
صحيفة L'Humanité الفرنسية، أجرت مقابلة مع غراس وقالت هذا الرجل الذي أصبح مرشح اليسار الجزائري في الانتخابات الرئاسية، والذي يبلغ الأربعينات من عمره، يجسد الجيل الذي تخطى كل العواصف السياسية التي شهدها التاريخ الحديث للبلاد.
لم ينته الأمر بعد، ففي نهاية الردهة التي أصبحت رواقاً للعروض، ووراء أحد الستائر، هنالك كومة من الحصى تفضح وجود أشغال لا تزال متواصلة. ورغم ذلك فإن قاعة العروض بشاشاتها الكبيرة وجدرانها العالية والمطلية باللون الأسود، بدأت فعلياً في احتضان عروض السينما، والمقاهي الثقافية والأمسيات الأدبية والشعرية.
ترك الصيدلة واتجه للعمل السياسي
وقد فتح المقهى الثقافي Le sous-marin أبوابه أمام العموم منذ سنتين، في فترة تتعرض فيها النوادي الثقافية في العاصمة الجزائرية للغلق الواحدة تلو الأخرى. ولكن بسبب هذه الأشغال، قرر حزب الحركة الديمقراطية الاشتراكية الجزائري فتح أبوب مقره الواقع في الطابق الأرضي من عمارة في حي تيليملي، ليوفر ملاذاً للفنانين الباحثين عن فضاءات للإبداع، والمواطنين الذين يعانون من الاختناق بسبب اختفاء الفضاءات العامة، والنشطاء اليساريين الباحثين عن مكان يجمعهم.
داخل هذا المبنى المظلم شاهدنا شخصاً لم نتعرف عليه في البداية. هذا الوجه كان يبدو مألوفاً بالنسبة لنا، وقد ابتسم أمامنا. إنه فتحي غراس، الذي جاء لحضور آخر فيلم للمخرج طارق تقية، بعنوان "ثورة الزنج". ويلعب فتحي غراس في هذا الفيلم دور الصحافي الذي ينطلق في رحلة لتقفي أثر الزنوج، هؤلاء العبيد السود الذين تمكنوا خلال ثورتهم في القرن التاسع ميلادي من هز أركان الخلافة العباسية. والمساعي التي يبذلها الصحافي في الفيلم، تقدم صورة جغرافية حول الآمال الثورية في منطقة البحر الأبيض المتوسط وحتى الشرق الأوسط، التي سعت القوى الإمبريالية للقضاء عليها.
وقبل هذا الفيلم، لم يسبق لفتحي غراس أن سافر خارج الجزائر، إلا أن أشغال التصوير قادته للتجول بين لبنان واليونان ومصر. ولكن رغم هذه المشاركة المتميزة، فإن فتحي غراس في الأصل ليس ممثلاً، إذ أن هذا الرجل الذي بلغ الأربعينات من عمره، صاحب الهيئة النحيفة والنظرة الواثقة، عمل لوقت طويل في صيدلية، بحسب الصحيفة الفرنسية.
إلا أنه قدم استقالته مؤخراً من عمله، من أجل التفرغ للعمل السياسي. حيث أنه يمثل أول مرشح رسمي يعلن عن خوضه الانتخابات الرئاسية، المزمع تنظيمها في أبريل/نيسان 2019. وقد وقع اختيار أعضاء حزب الحركة الديمقراطية الاجتماعية على هذا الرجل، بوصفه متحدثاً بارعاً، وقادراً على منافسة أي خصم سياسي.
رحلته من الإسلام السياسي إلى اليسار
وبحسب الصحيفة الفرنسية، هذا الناشط السياسي الجزائري اختار أن يحط الرحال في اليسار قبل أكثر من 20 عاماً، إلا أن مسيرته السياسية لم تبدأ من تلك النقطة. فهو ينتمي إلى جيل أكتوبر الذي ثار ضد الحزب الحاكم جبهة التحرير الوطني. وحول تلك المرحلة، يقول غراس: "كان عمري حينها 15 عاماً، في الخامس من أكتوبر/تشرين الأول 1988، كنت مصدوماً أمام وحشية القمع، حيث سقط أكثر من 500 قتيل. وقد انخرطت حينها داخل التيار الإسلامي، وبدأت حياتي السياسية داخل المساجد، المكان الوحيد حينها الذي كنا نستطيع فيه التعبير عن رأينا بحرية، والاحتجاج على المنظومة الاجتماعية والعائلية."
في تلك الفترة كان فتحي غراس من المتعاطفين مع الجبهة الإسلامية للإنقاذ، وقد قضى معظم أوقاته إلى جانب الملتحين من الإسلاميين، وحضر الخطب الشهيرة لعباسي مدني وعلي بلحاج.
ورغم ذلك، فإن غراس وفي 11 يناير/كانون الثاني 1992، عبر بكل صراحة عن تأييده لإجهاض المسار الانتخابي بين الدورتين الأولى والثانية للانتخابات التشريعية، عندما كان إسلاميو الجبهة الوطنية للإنقاذ يتجهون نحو تحقيق الانتصار.
واليوم يقول هذا الرجل إنه كان حينها يتوقع حصول مواجهة، فقد كان يستمع للخطابات المتشددة. وهو يبرر موقفه ذلك بأنه "لم يسامح الإسلاميين لأنهم كانوا يكرهون المرأة، وكانوا يعتبرونها أصل كل الشرور في البلاد، ويرفضون خروجها للعمل". في وقت كان فيه هو يشعر بأن عائلته لم تكن لتتمكن من العيش دون عمل الزوجين، حيث كانت والدته تعمل كمدرّسة.
مصالح البعض كانت أهم من مصير البلاد
اليوم يطوي فتحي غراس هذه الصفحة دون أي تأنيب للضمير، فهو يعتبر في النهاية أنه كان من الضروري مواجهة الإسلاميين دون رحمة. وقد كانت القطيعة بينه وبينهم سياسية وإنسانية أيضاً. وهو يقول أن بعض أصدقائه القدامى انضموا لصفوف الجيش الإسلامي للإنقاذ، وقد قتلوا في سن 17 و20 عاماً، أي في بداية حياتهم، بحسب الصحيفة الفرنسية.
ويضيف غراس: "ما حدث في الجزائر هو أول مواجهة مباشرة بين الجيش والإسلاميين. لقد لعبنا بالنار، ومصالح البعض كانت أهم من مصير البلاد."
وقد كان غراس يقضي وقته في مستغانم، حيث كان يتردد على الجامعة، ويستمتع بمسرح ولد عبد الرحمان كاكي، رائد المسرح الجزائري الحديث، واكتشف أيضاً الرسم مع محمد خدة، وبدأ تقاربه مع الشيوعيين، وانتهى به الأمر إلى الانتماء لحزب الحركة الديمقراطية الاجتماعية في 1998، فهل يعتبر هذا انقلاباً في مواقفه؟
يرى ياسين تقية، منتج وكاتب سيناريو فيلم "ثورة الزنج"، أن "ما فعله فتحي غراس ليس انقلاباً على مواقفه، بل هو خطوة تستحق التقدير في ظل التغيرات الإيديولوجية التي تمكن من تحقيقها، حيث أنه يعتبر شاهداً على قدرة هذا الجيل على تجاوز التناقضات التي كادت تؤدي إلى تدمير الجزائر."
ويقول فتحي غراس: "أنا أحلم بمجتمع العدالة والمساواة. في المسجد اكتشفت أخلاق العدالة، وأنا لم أنس هذا الأمر، ولكنني وجدته أيضاً في أماكن أخرى."
مولع بالموسيقى الشعبية
هذا الرجل المتزوج من امرأة من منطقة القبائل، والذي يتحدث العربية، مهتم كثيراً بتاريخ الموسيقى الشعبية، وهو يفتخر بكل خصوصيات الهوية الجزائرية، ومن ضمنها الجذور الأمازيغية. كما أنه يهاجم بكل قوة الفساد وانتهاك الحريات الفردية، والمضايقات القضائية التي يتعرض لها الصحافيون والنشطاء السياسيون، والتي تعرض لها هو أيضاً خلال هذا العام.
أما بالنسبة للشباب الأصغر سناً، فهو يحسن التحدث بلغتهم، ويجتذب الجيل الذي نشأ بعد العشرية السوداء، والذي سئم من تواصل حكم رجل طاعن في السن.
ويقول غراس: "إن الجزائر تشهد ثراء أقلية على حساب المصلحة الوطنية. لقد تحولت البلاد إلى مستعمرة للاستهلاك، تبيع النفط وتستورد كل شيء. يجب قطع هذه الحلقة الاقتصادية. أحلم بمجتمع العدالة والمساواة، وهذه الرسالة التي حملتها ثورة التحرير الجزائرية في 1 نوفمبر/تشرين الثاني 1954. والجزائر التي أريدها هي بلد العربي بن مهيدي وموريس أودان."
وبينما تشتد معركة التحالفات حول الرئيس المريض عبد العزيز بوتفليقة، ينظر فتحي غراس بواقعية للاستحقاق الانتخابي المقبل: "يجب جعل الانتخابات لحظة حشد للمواطنين. إن الجزائريين ينظرون إلى ليبيا وسوريا ولا يريدون أن يتكرر معهم ما حدث هناك. ولكنهم أيضاً يأملون في تحقيق التغيير، وفي هذه المعركة يجب المرور عبر صناديق الاقتراع. اليوم زمام الأمور بين يدي النظام الحاكم، ولكن يجب استرجاعها."
كان محدثنا يحمل في يده كتاب "العام الخامس للثورة الجزائرية"، للكاتب فرانز فانون الذي صدر في 1959، وكان يحمل آمالاً عريضة حول مستقبل الجزائر. ففي هذا الكتاب يقول فانون: "لقد وقفنا على أرجلنا وسوف نتقدم الآن. من يستطيع أن يعيدنا إلى العبودية؟"