تمكن نهج بشار الأسد "الخبيث" في الإهمال المتعمد لأبسط أشكال الرعاية الصحية من تحويل سوريا لساحة حرب بيولوجية مدمرة ذاتياً. انتشار المرض في سائر المدن وصل لمستويات لم تشهدها البشرية منذ حقبة نابليون بونابرت.
مجلة Foreign Policy الأميركية نشرت تقريراً عن أنواع الأمراض والفيروسات والأوبئة التي انتشرت خلال السنوات السبع الماضية.
وأرجعت السبب الرئيسي لنهج وصفته بـ"الخبيث" اعتمده الأسد في طريقة التعامل مع مسببات الأمراض.
إذ سمحت حكومة الأسد باستخدام مسببات الأمراض -التي عادة ما تتحكم فيها إجراءات الصحة العامة، مثل المياه النظيفة والصرف الصحي والتخلص من النفايات والتطعيم ومكافحة العدوى– كأسلحةٍ بيولوجية عبر تدمير هذه الإجراءات ومنعها.
فالحرب البيولوجية عموماً تُفهَم على أنها الاستخدام المتعمّد وقت الحرب لمسببات أمراض مميتة بنِيَّة القتل أو التشويه. لكنَّ سوريا تحت حكم الأسد تتبع نهجاً مختلفاً ذا سوابق تاريخية طويلة خطرة.
تحويل سوريا لساحة حرب بيولوجية باستهدف البنى التحتية للصحة ونشر الأمراض
وتشتمل معظم الفظائع الجماعية للأسد على هجمات عشوائية، وما يترتب عليها من تهجير قسري للمدنيين، وحصارات مُدمِّرة، ومهاجمة المستشفيات.
لكنَّ أحد الأبعاد غير المسبوقة لاستراتيجية الحرب الشاملة هذه تمثَّل في الهجمات على البنية التحتية للصحة العامة وبرامجها. أي تحويل سوريا لساحة حرب بيولوجية مدمرة ذاتياً.
الهدف هو التعجيل بالأمراض الوبائية التي تنتشر في الظروف المعيشية المزدحمة التي يخلقها التهجير الجماعي.
ثم منع توزيع الأدوية عقاباً لمعارضيه
وفي المقابل تُمنَع أدوات الصحة العامة والأدوية الأساسية.
ويهدف الأسد من هذه الاستراتيجية إلى إضعاف السكان في هذه المناطق، وزيادة العبء على المنشآت الطبية البدائية التي استطاعت النجاة سعياً لمعاقبة السكان المعارضين للأسد.
ومع أنَّ ثمة منطقاً حربياً وحشياً وراء هذه الهجمات على البنية التحتية للرعاية الصحية، فهي محظورة بموجب اتفاقيات جنيف.
وتهدف الاتفاقية إلى تجنيب المدنيين، والمؤسسات التي يعتمدون عليها، أخطار الحرب، بحسب الصحيفة.
إذاً، فالأسد متورط عن قصد في جرائم حرب.
أوقف التخلص من النفايات فانتشرت القوارض والحشرات
صحيحٌ أنَّ استراتيجيته معقدة، لكنَّ أثرها بسيطٌ على نحوٍ مدمر.
فعلى سبيل المثال، توقفت صيانة محطات معالجة المياه ومحطات الصرف الصحي، بعد أن ألقى نظام الأسد القبض على المهندسين وموظفي الصيانة وتوقف عن دفع رواتبهم.
وقصف الجيش السوري بوضوح محطات المياه والكهرباء.
وتوقف التخلص من النفايات، ما شجَّع ناقلات الأمراض المعدية مثل الفئران وذبابات الرمال على التكاثر.
ومع زيادة مياه الصرف غير المعالجة، منعت الحكومة الكلور الذي يعد عنصراً أساسياً لتنظيف المياه.
قصف المستشفيات والعيادات واعتقل الأطباء
وإلى جانب قصف المستشفيات وعيادات الصحة الأولية والمعامل وبنوك الدم، طاردت قوات الأسد الأطباء وجرَّمت أولئك الذين عالجوا المدنيين واعتقلتهم وعذبتهم.
وأعدمت أي عامل في مجال الرعاية الصحية تحدَّى سياسة الحكومة.
وبعد 8 أعوام، أسفرت هذه المحاولات عن قتل أكثر من 800 طبيب، ودفعت نحو 15 ألف طبيب إلى مغادرة البلاد.
مَنَع لقاحات شلل الأطفال والحصبة
ومنع الأسد أيضاً اللقاحات المضادة لشلل الأطفال والحصبة وجميع الأمراض الأخرى القابلة للوقاية باللقاحات عن التجمعات السكانية التي تعد غير متعاطفة سياسياً.
وفي عام 2012، استثنت وزارة الصحة محافظة دير الزور التي تقع شمال شرقي سوريا من حملةٍ وطنية ضد شلل الأطفال.
وعبر سيطرة الحكومة على القوافل الإنسانية، منعت جميع المواد الجراحية عن المناطق التي كانت تحاصرها، مدعية أنَّ أي شخص مصاب في الحرب لا بد أن يكون إرهابياً.
مع أنَّ الغارات الجوية العسكرية العشوائية على المناطق السكنية كانت تعني أنَّ معظم الضحايا كانوا من النساء والأطفال.
كان لهذا الحرمان المتعمَّد نيةٌ واضحة تتمثل في تأكيد السيطرة.
منع الأكياس البلاستيكية لنقل نفايات المستشفيات وحتى القفازات
ومُنِعَت أيضاً الأكياس البلاستيكية المخصصة لنفايات المستشفيات، فضلاً عن القفازات المعقمة والمضادات الحيوية المصممة لمنع العدوى في أثناء العمليات الجراحية وبعدها.
كان من شأن معدات الالتهاب الرئوي ومعدات الطوارئ والمضادات الحيوية الأخرى التي صادرتها الحكومة من قوافل منظمة الصحة العالمية واليونيسيف أن تكفي لعلاج 25 ألف طفل.
كانوا يعانون من الالتهاب الرئوي والإسهال والالتهاب الحلقي العقدي والتهاب الكليتين وعدوى الجروح.
حظر مشابك الحبل السري كي يموت حديثو الولادة
وحظرت الجبائر كذلك، ما أجبر ألفاً من مرضى العظام الذين يعانون كسوراً مفتوحة على عمل جبائر خشبية أو جبائر من الورق المقوى غير معقمة وقابلة للتلوث بسهولة.
وفي أحد الأمثلة الشريرة للغاية، صادرت الحكومة مشابك الحبل السري من قوافل اللجنة الدولية للصليب الأحمر.
وتُستخدم هذه المشابك المعقمة لشد الحبل وقت الميلاد، لذا تقلل خطر الموت بفعل الإنتان الوليدي إلى حدٍّ كبير.
ودون هذه المشابك، يجب على القابلات والأمهات ربط الحبل بشريط أو استخدام خيط جراحي سميك.
احتكر جميع اللقاحات والأدوية الأساسية من المنظمات العالمية
وعلى النقيض من هذا النشر المتعمد للأمراض في المناطق الواقعة تحت سيطرة المعارضة، فقد سعت الحكومة للحصول على جميع اللقاحات.
سعوا للحصول عليها من منظمة الصحة العالمية والتحالف العالمي للقاحات والتحصين في المناطق المؤيدة للأسد، وحصلوا عليها بالفعل.
وتتكون قائمة "الأدوية الأساسية" التي سمحت بها الحكومة في المناطق المحاصرة من ورقة واحدة فقط.
لكنَّ الأدوية الأساسية للمناطق الواقعة تحت سيطرة الحكومة تشمل 20 صفحة.
وتتضمن جميع فئات المضادات الحيوية والمطهرات ولوازم التطعيم.
فظهر شلل الأطفال الذي لا علاقة له بالحرب
ومن ثَمَّ، فليس من المستغرب أنَّ شلل الأطفال، الذي اختفى من سوريا عام 1995، عاد إلى الظهور عام 2013 في دير الزور.
أنكرت الحكومة ظهوره في البداية، ولكن بعد تأكيدٍ من مصدرٍ مستقل، اضطرت إلى الاعتراف به.
أرجعت سببه إلى الحرب، على الرغم من عدم وجود سابقة لتسبُّب الحرب في انتشار شلل الأطفال.
فالعراق ظلَّ خالياً من شلل الأطفال بين عامي 2003 و2011.
وقد ظهر هذا التطعيم الانتقائي الذي انتهجته الحكومة جلياً في تعرُّض عشرات الأطفال للإصابة بشلل الأطفال في دير الزور وغيرها من المناطق المعارضة للأسد.
ثم الفيروس السنجابي الناجم عن شلل الأطفال
وفي شهر مارس/آذار من عام 2017، بعد 3 سنوات من احتواء تفشي وباء شلل الأطفال، ظهر الفيروس السنجابي المشتق من اللقاح في دير الزور.
ويعد ظهور هذا الفيروس دليلاً بيولوجياً على حملات التطعيم الانتقائي وعدم كفاءة المراقبة الحكومية.
إذ لا يمكن تحوُّل لقاح شلل الأطفال الفموي (وهو لقاح حي يصنع من نمطٍ جرى إضعافه من فيروس شلل الأطفال) من عامل حماية إلى مسبب للشلل إلَّا في التجمعات السكانية ضعيفة المناعة.
وذلك لأنَّ الوصول إلى مقدار حدة الفيروس الذي يسبب الشلل يقتضي انتشار الفيروس بين السكان لما لا يقل عن 12 شهراً.
وفي حالة سوريا، انتشر المرض لعامين.
وكثرت الأوبئة في المناطق المعارضة للأسد حتى بين الحيوانات
وقد أعاقت الغارات الجوية الروسية فاعلية التطعيم باستهدافها غرفة التبريد الوحيدة للقاحات في المنطقة.
فدمرت 35 ألف جرعة من لقاح شلل الأطفال، وأكثر من 100 ألف جرعة من لقاح الحصبة.
وتعكس الأوبئة المنقولة عبر المياه –مثل الإسهال والزحار والتهاب الكبد الوبائي A، والتيفوئيد– في المناطق التي تعد معارضة للأسد؛ مثل حلب الشرقية ودير الزور وإدلب محدودية حصول هذه المناطق على مياه آمنة.
فضلاً عن أنَّ مرض البروسيلات الحيواني الذي ينتشر بين البشر عن طريق الماشية المصابة منتشر في تلك المناطق تحديداً.
وتسبب ذباب القمامة المهملة في انتشار مرض تآكل اللحم الطفيلي
ويؤدي داء الليشمانيات، وهو مرض طفيلي آكل للحم ينتقل عبر ذبابات الرمال، إلى ظهور ندوب حادة على الوجه والذراعين.
وتزدهر ذبابات الرمال هذه في أوقات الحرب، إذ تتكاثر في الحطام الناتج عن القصف وأكوام القمامة المتراكمة من توقف جمع النفايات.
وقد أسفر التدمير المتعمد من الأسد للمباني السكنية عن إيصال السكان إلى مستوى ذبابات الرمال.
وقد انتشرت هذه الذبابات، التي كانت في السابق محصورة في حلب، انتشاراً غير قابل للسيطرة عليه منذ عام 2011 وصولاً إلى جنوبي دمشق، مع ظهور الشكل المعوي المميت منها للمرة الأولى.
وتخوّف عالمي من ظهور بكتيريا مقاومة لكل الأدوية لشدة التلوث
وربما تشكل البكتريا الخارقة –وهي بكتيريا طورت مقاومة للمضادات الحيوية– ذروة الحرب الجرثومية.
ذلك أنَّ الإصابات المُخترِقة الناتجة عن الأسلحة التفجيرية في سياق بيئات حضرية شديدة التلوث، والمضادات الحيوية غير المنتظمة، والمياه غير الآمنة، وظروف إجراء العمليات الجراحية غير المعقمة في المستشفيات المنشأة تحت الأرض. كل ذلك يعزز من مقاومة البكتيريا للمضادات الحيوية.
وأخطرها جميعاً.. البكتيريا العراقية التي تستهدف الأحشاء
أمَّا أسوأ هذه الأنواع فهي الراكدة البومانية، المعروفة عالمياً باسم "البكتريا العراقية".
وهي بكتيريا خارقة تتكيف بطريقةٍ فريدة في الحرب، وتشتهر بالإصابات التي تسبب استئصال الأحشاء.
وقد استخدمت البراميل المتفجرة، التي تحتوي على شظايا ومسامير ومادة TNT، استخداماً شائعاً ضمن الترسانة السورية.
ويعيش 8.2 مليون شخص في مناطق ملوثة بالألغام الأرضية والمعدات الحربية المتفجرة.
وتنطوي الإصابات الناتجة على تلوثٍ هائل للجروح بفعل الشظايا والتربة.
ومع أنَّ المعدل الكارثي لتلوث الجروح واضح في سوريا، فإنَّ مدى مقاومة المضادات الحيوية غير معروف.
والسبب هو نقص المعامل والمتخصصين وضعف عمليات الرصد، نظراً إلى صعوبة وصول المرضى إلى المستشفيات.
ويبدو أن "استراتيجية الأسد الصحية" أعادت سوريا إلى القرن التاسع عشر
نجحت استراتيجيات الأسد في إعادة سوريا إلى مستوى القرن التاسع عشر من الأمراض الناتجة عن الصراعات.
ولكن يوجد فارق واحد مهم يتمثل في أنَّ معظم الضحايا الآن مدنيون لا جنود، وتدابير حمايتهم تتعرَّض لتدمير وحجب متعمدين.
وتُعَد البنية التحتية للصحة العامة هي أهم دفاعاتنا ضد التهديدات العالمية.
أما الأسد، فبتدمير وسائل احتواء الأمراض الفتاكة، حوَّلها إلى أسلحة.