في حين ينشغل العالم بجريمة قتل جمال خاشقجي، فإن الدكتور عبد الخالق فاروق أصبح ضحية جديدة للحرب ضد الحقيقة في الشرق الأوسط؛ إذ يبدو أن الأنظمة العربية تحارب الحقيقة بصرف النظر عن قائلها.
شعور الرعب والغضب الذي ساد العالم بسبب قتل جمال خاشقجي، قابله صمت نسبي إزاء اعتقال نظام الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، الاقتصاديَّ المصريَّ عبد الخالق فاروق يوم الأحد 21 أكتوبر/تشرين الأول 2018، حسبما ورد في مقال لـ"سام حمد" الناشط والكاتب المصري-الأسكتلندي نُشر في موقع Lobe Log الأميركي.
يقول سام: "كانت جريمة فاروق الوحيدة أنه ألَّف كتاباً انتقد فيه، لا الدولة الحالية ببساطة، وإنما طبيعة الاقتصاد المصري نفسها في حقبة ما بعد عبد الناصر".
وبالنظر إلى أنَّ الاقتصاديين المنتقدين مثل فاروق لا تصل أعمالهم إلا إلى عددٍ قليلٍ نسبياً خارج الدوائر الأكاديمية والفكرية، فقد كان النظام المصري عادةً ما يتسامح معهم.
لكن، لا تسامح في مصر السيسي، حسبما يرى كاتب المقال.
لماذا غضِب النظام من كتاب عبد الخالق فاروق إلى هذا الحد؟
يتحدى فاروق، في كتابه المعنون بـ"هل مصر بلد فقير حقاً؟"، التصور السائد داخلياً بأنَّ مصر بلد فقير ببساطة، وأنه محكوم عليه بالفقر بسبب زيادة السكان والافتقار إلى الموارد الطبيعية.
إذ يشير إلى أنَّ مصر بلدٌ غني نسبياً في الموارد، ويشتمل على إمكانية مالية لمعايير حياة أعلى بكثير من المعايير الحالية، لكنَّ المشكلة تكمن في الفساد المستوطن وسوء الإدارة.
ويشير عبد الخالق فاروق إلى أنَّ طبيعة الوضع الاقتصادي الراهن بمصر، والذي يُجسِّده صندوق النقد الدولي "النيوليبرالي" و"إصلاحات" البنك الدولي والفساد الداخلي، هي السبب الرئيسي وراء فقر مصر.
إنَّ هذا الانتقاد، بأي حال من الأحوال، انتقادٌ وديع -وإن كان شديد الذكاء بشكل كبير- لحُكم الكليبتوقراطية (حُكم اللصوص) في مصر وداعميه العالميين، حسب وصف كاتب المقال.
لكن بسبب هذا، اختطف ضباط شرطة متشحون بالسواد عبد الخالق فاروق من بيته، بعد ظهر يوم الأحد، أمام زوجته المكروبة.
ولا أحد يعرف التهم الموجهة إليه، ولكنه ليس وحده
ومع أنَّ الشرطة لم تكشف عن طبيعة التهم الموجهة إلى فاروق ولنشطاء حقوق الإنسان أو لزوجته.
ولكن فإنه من شبه المؤكد أنه سوف يقع تحت طائلة قانون "نشر معلومات كاذبة"، وهو مصطلح قديم،حسب وصف الكاتب.
وبطبيعة الحال، فإنَّ هذا القانون يُستخدم فحسب ضد من يتكلمون بالحقيقة عن النظام، حسبما يقول سام حمد.
وبالكاد مضى شهرٌ منذ أن أُلقِيَ القبض على الناشطة أمل فتحي، وحُكِمَ عليها بالسجن سنةً بموجب هذا القانون؛ لنشرها فيديو تحكي فيها تعرُّضها للتحرُّش الجنسي في مصر.
والتحرش الذي اعتُقلت أمل بسبب شكواها منه أطلق شرارته بلطجية النظام
ومع أنَّ التحرُّش الجنسي متفشٍّ الآن في مصر، فمن المحتمل أن تكون هذه الظاهرة قد ساءت، إن لم تكن قد ولَّدَتها الدولة عندما استأجر نظام مبارك عصابات البلطجية لاستخدام الوحشية الجنسية ضد المتظاهرات والمتظاهرين والمحتجزين، لتكون وسيلة ردع.
ففي مصر لا شيء يملكه المصريون، ولا حتى أجسامهم، فالسلطة تهيمن على كل شيء.
وشدة التحرش الجنسي وصلت إلى مستوى اضطر فيه السيسي إلى أن يتظاهر بالاهتمام باستخدام نظامه إياه ضد المعارضين، حسبما يقول الكاتب.
أما سجن أمل، فقد وقع ضمن خلفيةٍ أوسع من قمع النظام لـ"النسوية" و"المنظمات النسوية"، وهي مجموعات المجتمع المدني التي توثق وتساعد النساء الناجيات من التحرش الجنسي، أو المجموعات التي تنادي بإصلاحٍ مجتمعي وقضائي لحقوق المرأة الأساسية.
فقمع كل هذه الفئات المتنوعة التوجهات هدفه جعل الانتقاد أمراً محالاً
ويُشكِّل هذا جزءاً من قمعٍ وحشي أوسع ضد أي شخص "يُشوِّه سمعة مصر"، حسب التعبير السائد.
تلك هي طبيعة مصر في عهد السيسي، حسبما يقول الكاتب المصري-الأسكتلندي.
ويضيف قائلاً: "إنه على الرغم من تنوُّع الضحايا، بدءاً مِمّن يسمون (الإسلاميين) إلى النسويين إلى الاقتصاديين، فهي غطاءٌ واسع من القمع يجري بغرضٍ واحد: تهيئة المجتمع وإعادة تشكليه، ليكون الانتقاد نفسه مُحالاً".
ولتحقيق ذلك، تتم عسكرة الجامعات لأنها كانت دوماً مهد الانتفاضات
ولأنه تقليدياً كانت الجامعات في مصر مهد الانتفاضات، فإن النظام يوليها اهتماماً خاصاً.
فبالرجوع إلى الماضي نجد أنه منذ الانتفاضات ضد الإمبراطورية البريطانية التي كانت تحتل مصر، كانت الجامعات دائماً مواقع اعتراض وراديكالية في مصر.
واليوم جرت عسكرة الجامعات من قِبل نظام السيسي، بعد دورها في تقديم معارضة لما يصفه الكاتب بالانقلاب ضد حكومة الرئيس المنتخب ديمقراطياً، محمد مرسي.
وهذه العسكرة جرى توثيقها بالتفصيل مثلما فعلت صحيفة The Christian Science Monitor الأميركية.
ومن هنا تأتي أهمية اعتقال كاتب مثل عبد الخالق فاروق.. منع المعارضة العقلية
يرى سام حمد أن السيطرة على الجامعات ليست مجرد ظاهرة "جسدية".
إذ بإمكان أنصار السيسي تحصين الجامعات وجعلها محظورة بما يكفي لإيقاف المعارضة الجسدية.
لكن، كيف يمكنك منع المعارضة العقلية؟
الحل أن تعتقل الاقتصاديين الذين يقدمون بذور هذه المعارضة، وأن تقوم بحظر كتبهم.
ويجب أن تتأكد من أن الناس الذين لديهم الموارد لإجراء البحث الضروري أصبحوا يخافون من البحث في أي شيء "يُشوِّه سمعة مصر"، وهو مصطلح أورويلي، (مصطلح مشتق من اسم الروائي الإنكليزي George Orwel، ويشير إلى العداء لحرية التعبير والمجتمع المفتوح).
ويضيف الكاتب قائلاً: "بل إن مصطلح (سِيساويّ) يتم توجيهه لأي انتقاد للنظام".
لهذا السبب تم اعتقال الدكتور #عبدالخالق_فاروق مؤلف كتاب #هل_مصر_بلد_فقير_حقا pic.twitter.com/uZw7uAB5ny
— مغرد الثوره (@cOa16GhJOKOmomX) October 22, 2018
فأي شيء لا يتسم بالخنوع تشتبه فيه السلطات.. والنتيجة مجتمع مكبوت
والمفارقة أنَّ هذه كانت إحدى النقاط التي أشار إليها فاروق، بصفتها أحد العوامل المُحدِّدة للحالة البائسة للاقتصاد المصري.
فلقد نبه الرحل إلى حقيقة أنَّ المؤسسات التعليمية يزداد تحولها إلى مجرد أجهزة للدولة.
والآن فإنَّ أيَّ بحثٍ في أي شيء يُعتَبَر خارجاً عن مظاهر الخنوع، تنظر إليه السلطات بعين الاشتباه.
وقد نتج عن هذا مجتمعٌ مكبوت، يجد نوعية خطابه تزداد انحطاطاً وغباءً إلى حدِّ السخف، حسب وصف الكاتب المصري الأسكتلندي.
والطبيعي أنه ينبغي أن يكون التعلُّم والتعليم بلا خوف.
لكنَّ النظام يحرص، ببطء لكن بثقة، على أن يسود الخوف جميع المجالات.
حتى إن الأساتذة يخافون أن يبلِّغ عنهم الطلبة
بحسب أحد المحاضرين المصريين الذين تكلم معهم الكاتب بشرط عدم الكشف عن هويته، فإنَّ "الطلاب والمحاضرين، جميعهم، صاروا يخشون المواد التي يدرسونها… فالأستاذ الجامعي في الأدب قد يقلق من الإبلاغ عن توصيته أحد طلابه بقراءة كتاب ما، قد يكون مسيئاً إلى النظام".
وأضاف: "ثم ماذا؟ فجأة تخاطر بفقدان وظيفتك والزج بك في السجن. فينتهي بك المطاف بأن تفعل ما يقولون ولا تخاطر أبداً".
ثم يختتم المحاضر كلامه قائلاً: "ينتهي بنا المطاف بأن نفعل ما نؤمر به، وينبغي لنا تمرير ذلك لطلابنا".
أما المعلومات التي يعتبرها النظام صحيحة فهي أمور سخيفة مثل توصل الجيش المصري لعلاج الإيدز
إن المعلومات الوحيدة التي يعتبرها نظام السيسي صحيحة إما أنها تلائم احتياجاته، وإما أنها تكون سخيفة بالكامل، حسب تعبير كاتب المقال.
إذ يتساءل: "من يستطيع نسيان زعم الجيش المصري اختراع علاج لفيروس نقص المناعة المكتسب (الإيدز)؟ (المشروع الذي يسخر منه المصريون بتسميته كفتة عبد العاطي) أو التيار الدائم من الدعاية السخيفة ضد الإخوان المسلمين، التي برَّرَت كل شيء؛ بدءاً من الاعتقال الواسع النطاق إلى القتل الجماعي؟".
يعني لم نسمع أحدا قام بالقبض على عبد العاطي كفتة ، أو أجرى تحقيقا مع الهيئة الهندسية للقوات المسلحة التي تبنت مشروع العلاج الخرافي وكذبت عل أكثر من مائة مليون مصري، وجعلوا العالم كله يضحك علينا وعلى الطب في بلدنا، ولم يحقق أحدا مع أصحاب الابتكارات المزعومة ، ولا الإعلام الكذاب 🤔
— saeed mostafa kamel (@saeedmostafa) October 23, 2018
فالأنظمة العربية تحارب الحقيقة أينما كانت.. والمعركة أصبحت عابرة للحدود
تتميَّز الديمقراطيات الصحية بشعوبها المُطَّلِعة، لكنَّ أنظمة الطغيان خدَّرَت الجماهير، التي بات يحكمها اليوم "سادة السوء"، حسبما يقول يقول سام حمد.
ويضيف قائلاً: "كتبت سابقاً أنَّ مقتل خاشقجي ينبغي النظر إليه بصفته حرباً أوسع ضد الحقيقة.
ومع أنَّ اغتيال جمال واعتقال فاروق لا يمكن مقارنتهما، من حيث الشدة أو التداعيات الجيوسياسية والدبلوماسية، فإنَّ كليهما ضحية للنظام ذاته ومتهم بالجريمة ذاتها.
فالطغيان في الشرق الأوسط مشروعٌ عابرٌ للقوميات".
والحل قد يكون موجودا في آخر مقال كتبه خاشقجي
ويشير الكاتب إلى أن المقالة الأخيرة التي كتبها خاشقجي في The Washingtonian لم تكن عن قمع المعلومات في الأنظمة العربية فحسب، وإنما عن تبعات هذا القمع.
إذ كتب خاشقجي: "العرب… إما أنهمغير مُطَّلِعين وإما أنهم مُطَّلِعون على معلوماتٍ خاطئة. ومن ثم فهم ليسوا قادرين على التعامل المناسب مع المسائل المؤثرة على المنطقة وحيواتهم اليومية، فضلاً عن مناقشتها في العلن. تهيمن السردية التي تديرها الدولة على النفسية العامة… وتقع أغلبيةٌ كبيرةٌ من السكان ضحيةً لهذه السردية الزائفة".
ويعلق سام حمد قائلا "يتصوَّر السيسي وحليفه محمد بن سلمان، إلى جانب طغاة إقليميين آخرين، عصرَ ظلامٍ إقليمي لأغلبية الناس، تكون فيه الجيوب والمنتجعات و"الحضارة" لأثرى الأثرياء، في حين يكون الانحطاط والفقر والجهل للجماهير الخاضعة".
"إنْ أعدنا صياغة ما قاله غوته، فلن يكون أيُّ عصرِ ظلامٍ ممكناً إلا بالمزيد من الضوء"، حسب الكاتب.
ويشير حمد إلى أن خاشقجي يلاحظ، في كلماته الأخيرة، أنَّ الحلَّ الوحيد الممكن للطغيان العابر للقوميات، الذي يستغل الدعاية بفاعلية، يكمن في منصة عابرة للقوميات للمعارضين العرب. ويعترف أيضاً بأنه ليس ثمة الكثير من الأمل في التغيير، لكنَّ ذلك قد يكون أملنا الوحيد.
ويختتم سام حمد مقاله متسائلاً: "لو أنَّ أشخاصاً مثل جمال خاشقجي وعبد الخالق فاروق يخاطرون ويضحّون بحياتهم وحريتهم لمحاولة إحداث تغيير، فما عذرنا في عدم فعل أي شيء؟".