اعتبر الكاتب الأميركي الشهير توماس فريدمان أن عملية الإصلاح التي يقودها الأمير محمد بن سلمان انتهت بمقتل الإعلامي السعودي البارز جمال خاشقجي بمقر قنصلية بلاده في إسطنبول؛ لأنه لا يمكن الوثوق بولي العهد ووعوده مرة أخرى.
وقال فريدمان في مقال بصحيفة The New York Times الأميركية الأربعاء 17 أكتوبر/تشرين الأول 2018، إن السعودية تحتاج لاستمرار عملية الإصلاح السياسي والديني والاجتماعي ولكن لا بد من توبيخ ولي العهد السعودي على ما حدث في القنصلية السعودية، في الوقت نفسه اعتبر أن رد فعل الإدارة الأميركية على مقتل خاشقجي مثير للاستغراب.
قضية خاشقجي والأفكار الـ3
وأضاف الكاتب الأميركي: أحمل 3 أفكار بشأن قضية جمال خاشقجي الملحمية.
الأولى أنني غير قادرٍ على أن أصرف عن ذهني صورة هذا الرجل المحبوب -الذي لم يرغب في شيء إلا أن يرى إصلاحاً في حكومة بلاده بطريقةٍ أكثر شموليةٍ وشفافيةٍ- وهو يُقتل عند زاويةٍ مظلمةٍ داخل مبنى القنصلية السعودية في إسطنبول على يد فريق اغتيالٍ سعوديٍّ يتشكل من 15 رجلاً، يقال إنهم كانوا مسلحين بمنشار عظام. ولا يمكن وصف الفساد والجبن المتمثلين في هذا الحادث إلا بأنهما شيءٌ مقزز.
والثانية أنني لا أعتقد -ولو لثانيةٍ واحدةٍ- أنها كانت عملية نفذها مارقون وأن الحاكم الفعلي للمملكة ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، وهو شخص يدير كل شيء بنفسه، لم يكن لديه معرفة سابقة بما حدث، إن لم يكن تورطه متجاوزاً في الأساس مجرد المعرفة بهذه العملية. ومن ثَمَّ، فإنني أشعر بالسقم -ليس لأنني صحافيٌ وحسب؛ بل لأنني أميركيٌ- من أن أرى رئيس بلادي ووزير خارجيته يتشاركان مع المسؤولين السعوديين من أجل اختلاق رواية للتغطية على الحادث؛ إذ إن تداعيات ذلك على كل صحافي آخر -أو كل ناقد سياسي منفي في أي مكان- تبدو مرعبة. وبالمناسبة، لا أعتقد أنهم سوف يفلتون بفعلتهم.
وهذا يقود إلى فكرتي الثالثة: كيف ينبغي للولايات المتحدة أن تفكر في إيجاد توازن بين مبادئنا ومصالحنا، عندما تمضي قدماً في هذه القضية؟ تكمن أفضل طريقة بالنسبة إلي للتوصل إلى جواب عن هذا التساؤل، في العودة إلى الأساسيات. دائماً ما كنت أعرف أن خطة محمد بن سلمان الإصلاحية لا يمكن ضمان نجاحها بسهولة، ولكني كنت أؤيد نجاحها -في حين استحث إدارة ترمب على صياغة خطوط حمراء حول جانبه المظلم- وذلك من أجل سبب محدد للغاية. لا يتعلق الأمر بمحمد بن سلمان شخصياً. فعلى المستوى الشخصي، لا أكترث إذا كان من سيحكم السعودية هو محمد بن سلمان أو غيره"، بحسب الكاتب الأميركي.
المصلحة الأميركية مع السعودية
وبحسب فرديمان، فإن الأمر يتعلق بكيفية تعريفي للمصلحة القومية الأهم لبلادنا في السعودية منذ أحداث 9/11. لا تتعلق هذه المصلحة بالنفط، ولا بمبيعات السلاح، ولا بالوقوف في مواجهة إيران؛ بل إصلاح الدين الإسلامي، وهو ما يمكن أن يأتي من السعودية فقط، بلد الحرمين الشريفين؛ مكة والمدينة.
كانت المصادفة أن المرة الأولى التي أعمل فيها مراسلاً أجنبياً كانت في العاصمة اللبنانية بيروت عام 1979. وكان أول تقريرين أنقلهما عن الثورة الإيرانية واحتلال الحرم المكي عن طريق داعية سعودي سلفي متطرف زعم أن أبناء آل سعود فاسدون فاسقون متغربون.
أخاف حادث احتلال الحرم حكام السعودية من آل سعود. لذا فمن أجل تأكيد التزامها الديني وحماية نفسها، اتخذت منعطفاً دينياً حاداً في عام 1979، لتسمح لرجال الدين بأن يفرضوا ضوابط دينية أكثر صرامة على المجتمع والتوسع في تصدير المنهج الإسلامي السلفي المتزمت إلى الخارج؛ وذلك عبر بناء المساجد، والمدارس من لندن إلى إندونيسيا، ومن المغرب إلى كابول، ممولةً بإيرادات النفط وأسعاره المرتفعة.
كان لهذا تأثير سلبي للغاية في التعليم وحقوق النساء والحرية السياسية بجميع أنحاء العالم الإسلامي العربي. فضلاً عن أن النسخة الأكثر تطرفاً من هذه الجهادية السلفية الأصولية ألهمت أيضاً منفذي عملية الحادي عشر من سبتمبر/أيلول، وأدت إلى ميلاد تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش).
أعتقد أن أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول كانت أسوأ شيء أشاهده يحدث لأميركا طيلة حياتي.
يمكننا الجدال حول ماهية الرد الصحيح على هذه الهجمات: سواء الحملة العسكرية في أفغانستان، أو الحرب على العراق، أو الحرب العالمية على الإرهاب، أو تأسيس وزارة الأمن الداخلي، أو وضع أجهزة للكشف عن المعادن في كل مكان. لكننا لا نستطيع الجدال حول تكلفة ما حدث.
لقد كلَّفنا إبطال مفعول تهديدات المتطرفين -ابتداءً من القاعدة ووصولاً إلى داعش- حياة آلاف الأشخاص وما يقرب من تريليوني دولار، وهي أموال كان من الممكن أن تُنفَق في العديد من الأشياء الأخرى التي يحتاج إليها مجتمعنا.
جذور 11 سبتمبر
وتابع الكاتب الأميركي: أعتقد أن جذور أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول جاءت من صفقتين مروعتين: الأولى هي الصفقة بين آل سعود والمؤسسة الدينية في المملكة، التي بارك بموجبها كل طرفٍ منهما الطرفَ الآخر. أما الصفقة الثانية، فهي الصفقة الأميركية الهزلية مع السعوديين، والتي سارت بهذه الطريقة: "أيها الرفاق، أبقوا فقط صنابير النفط مفتوحة، وحافظوا على انخفاض أسعارها، ولا تزعجوا الإسرائيليين كثيراً، ويمكنكم في المقابل أن تفعلوا أي شيء تريدونه بعيداً عن ذلك: انشروا أي أفكار كراهية تريدونها في مساجدكم، واطبعوا ما تريدون على أوراق صحفكم حول أي من نظريات المؤامرة، وعاملوا النساء بأي طريقة تريدونها".
في أحداث 9/11، صُدِمنا بخلاصة جوهر كل شيء كان يدور "بعيداً عن ذلك"؛ وهو السبب في أن هذا العمود الذي تقرأون مقالاته صار ينتقد القادة السعوديين بشدة، منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول؛ لعدم إصلاح نسختهم من الإسلام، وهو شيء يتطلب تحديثاً اقتصادياً واجتماعياً أيضاً. صحيحٌ أنَّ القادة السعوديين ألقوا القبض على متطرفين دينياً، لكنَّهم لم يشركوهم قط تقريباً في حربٍ فكرية علنية.
لذا؛ فإن ما لفت نظري في محمد بن سلمان، وجعلني متفائلاً، استعداده المبدئي للانخراط في حربٍ فكرية مع المتشددين دينياً، وصرح علناً: "لا تكتبوا أننا (نعيد تفسير) الإسلام؛ بل إننا (نُعيد) الإسلام إلى أصوله". وقال علناً إنَّ الإسلام في أصوله كان متسامحاً مع العقائد الأخرى، وحريصاً على تمكين المرأة، ومُرَحِّبَاً بالأفكار الجديدة، بحسب المقال؟
إذ بدا أنه يستهدف تغيير المصدر الرئيسي لشرعية نظامه من الإسلام الأصولي السعودي ودعاته إلى قوميةٍ سعودية أكثر علمانية، أو بالأحرى: قومية ذات اتجاه مناهض بقوة لإيران ومناهض لقطر.
التعتيم لكسب ثقة الغرب
واستكمل فرديمان: حسناً، لعل ذلك كان زيفاً وحسب، للتعمية على انتزاع السلطة وكسب الدعم الغربي. لكن كثيراً من السعوديين الشباب الذين تحدثت إليهم اعتقدوا أنه حقيقي وأرادوا مزيداً منه، كان محمد بن سلمان يقول أشياء ويفعل أشياء تحمل وعوداً حقيقية.
ومثلما أشار دينيس روس، المفاوض الأميركي المخضرم بقضايا الشرق الأوسط، في مقال له نُشر بصحيفة The Washington Post الأميركية، فإن "تعيين محمد بن سلمان، محمد العيسى في منصب الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي بعث برسالةٍ قويةٍ جديدةٍ حول التسامح ورفض الأفكار المتشددة. فضلاً عن أن زيارته لمتحف ذكرى الهولوكوست الأميركي، والتزامه بالحوار بين الأديان، ومطالباته بالسلام، تُشكِّل ابتعاداً كبيراً عن (نهج) سابقيه".
لكنَّ أيدي حكومة محمد بن سلمان صارت الآن ملطخةً بدماء جمال. فهل ينبغي لنا جميعاً أن نغض الطرف عن ذلك مثلما يفعل الرئيس ترمب؟ لا يجب علينا ذلك، وفي الواقع لا نستطيع ذلك.
وعود محمد بن سلمان انتهت!
بادئ ذي بدء، أعتقد أن وعود محمد بن سلمان صارت منتهية الآن، مهما كان اعتقادكم بأنَّه كان سيجلب إصلاحات اقتصادية واجتماعية ودينية أو أنه لم يكن سيفعل ذلك. فقد جعل نفسه مصدر إشعاعٍ ضار لمن حوله، وذلك في ظل غياب تبرئةٍ مستقلة ذات مصداقية من اختفاء جمال واغتياله المزعوم. قد يستطيع محمد بن سلمان الاستمرار في السلطة بالسعودية، لكنَّ برنامجه الإصلاحي كله يتطلب استثمارات أجنبية، والأموال صارت تتدفق إلى خارج السعودية منذ شهور، وليس إلى داخلها. والآن، سوف تسوء الأمور.
صحيحٌ أنني نَقَلْت مجزرة مظاهرات ساحة تيانانمن في الصين. وأعتقد أن المال له ذاكرةٌ قصيرة. لكنَّ السعودية ليست الصين. فقد رأى المستثمرون هناك جنوناً أكثر من اللازم من حكومة محمد بن سلمان، لدرجةٍ جعلتهم لا يرغبون في أن يضعوا رهانات طويلة الأجل هناك في الوقت الحالي، وهو أمر سيئ للغاية؛ لأنَّه سيضعف أي آمال للإصلاح في المستقبل.
ماذا لو أٌبعد ولي العهد؟
وهنا تكمن أحد التداعيات. فحتى لو أُبعِد محمد بن سلمان، وإذا اعتقدتم أن هناك 100 من أبناء العائلة المالكة السعودية بنفس الصلابة والمكر والقسوة التي لديه من أجل رفع الحظر على قيادة المرأة، وتجريد الشرطة الدينية من صلاحياتها، وإعادة فتح دور السينما، فإنكم مخطئون. فلا يوجد هؤلاء. لقد كان هناك معارضون محافظون لهذه الإصلاحات. لسنا أمام الدنمارك؛ لذا فمن دون إصلاحات اجتماعية واقتصادية ودينية شاملة، يمكن أن تصبح السعودية دولة كبيرة فاشلة. ولنتذكر أن السعودية كانت واحدةً من أكبر منابع تجنيد الشباب في صفوف داعش.
وبالمناسبة، إذا كنتم تعتقدون أن محمد بن سلمان لديه جانب مظلم، فينبغي لكم أن تنظروا إلى السعودية من كثب. ستجدون أشخاصاً هناك لديهم لحى طويلة ولا يتحدثون الإنكليزية ويصدقون جميع الأشياء المجنونة حول الشيعة واليهود والمسيحيين والهندوس وأميركا والغرب. وهُم في الوقت الحالي يصفقون للاغتيال المزعوم لجمال. ثِقُوا بما أقوله لكم.
لذا، سأطرح السؤال مرة أخرى: ماذا علينا أن نفعل؟ ليس لدي إجابة بسيطة؛ فالموقف فوضوي. وكل ما أعرفه هو أنه يجب علينا أن نجد طريقة ما لتوبيخ محمد بن سلمان على ما فعله، من دون أن نبدو كما لو أننا نهاجم السعوديين كلهم ونزعزع استقرار البلاد. وعلينا أن نضمن أن تمضي عملية الإصلاحات الدينية الاجتماعية بالسعودية في طريقها، بغض النظر عن المسؤول عنها. فذلك يُعَد من المصالح الضرورية للولايات المتحدة.
لكنكم غير قادرين على معالجة الغباء. وعندما يفعل حليفٌ لكم شيئاً مقززاً وغبياً مثلما فعل السعوديون -على ما يبدو- في إسطنبول، فليس ثمة طريقة سهلة لإصلاح الأمر. لكنَّ ترمب قد يبدأ بتعيين سفير لدى السعودية. فلم يعين ترمب أي شخص لهذا المنصب حتى الآن، وقد اتضح ذلك جلياً.