في المسار الطبيعي للأحداث، لن يكون مقتل جمال خاشقجي الصحافي السعودي محلاً لاهتمام الحكومة البريطانية على الإطلاق. فالسعودية في المقام الأول لديها سجل طويل من تنفيذ عمليات اختطاف وإخفاء لمعارضيها في الداخل، وفي نفس الوقت بريطانيا لديها بنفس القدر سجل طويل من غضِّ الطرْف، لكن يبدو أن الوضع سيختلف هذه المرة بالنسبة إلى ولي العهد محمد بن سلمان .
لكن وحسب تقرير نشره موقع The Middle East Eye البريطاني، الإثنين 15 أكتوبر/تشرين الأول 2018، فإنه ينبغي الاعتراف بأنَّ مقتل جمال خاشقجي وتمزيق جثته هي جريمة فظيعة بشكلٍ لا لبس فيه.
إلا أنَّها ليست بعيدة عن مستوى الفظائع الكثيرة التي يرتكبها التحالف السعودي في اليمن، حيث تقتل القذائف الأطفال الأبرياء وتُحطِّم المستشفيات والأسواق والمدارس. قتل التحالف الذي تقوده السعودية الآلاف من الأبرياء بمساعدة البريطانيين وتحريضهم.
لماذا لا تغضّ بريطانيا طرْفها عن مقتل جمال خاشقجي كذلك؟
لا عجب أنَّ بريطانيا لعبت دوراً هاماً في حماية ولي العهد محمد بن سلمان من الإدانة الدولية.
ستود الحكومة البريطانية أن تقوم بذلك تماماً، إلا أنَّه مع هذا الحدث هناك عاملان جديدان يجعلان من الصعب للغاية قيامها بذلك.
أولاً، تبدو الظروف المحيطة بحادث مقتل جمال خاشقجي مماثلة في نواحٍ كثيرة منها لمحاولة قتل ضابط الاستخبارات العسكرية الروسية السابق سيرغي سكريبال وابنته يوليا في بلدة سالسبيري البريطانية، في مارس/آذار الماضي. ويُزعَم أنَّ موسكو أرسلت قتلة محترفين لقتل سكريبال وابنته، تماماً مثلما أرسلت الرياض قتلة محترفين لقتل خاشقجي.
وقائع قتل غير مُعلن .. القصة الكاملة والغامضة لغياب الصحفي السعودي جمال خاشقجي
في حالة عائلة سكريبال، كان هناك سخط. أمرت رئيسة الوزراء البريطانية، تيريزا ماي، على الفور بإجراء تحقيق ضخم من الشرطة لمطاردة الجناة، عقبها طرد 23 دبلوماسياً روسياً من بريطانيا على وجه السرعة. وقالت ماي صراحةً إنَّه كان من المستحيل أن تتسامح مع بلد أجنبي يُنفِّذ عملية قتل في الشوارع البريطانية.
هل ينتابها الغضب من التصرف السعودي في إسطنبول؟
فيما يبدو، لا. التزمت رئيسة الوزراء البريطانية الصمت في قضية مقتل جمال خاشقجي بنفس القدر الذي سخطت فيه علناً في قضية سكريبال. بريطانيا سعيدة بتنفيذ تركيا والسعودية لتحقيقهما المشترك.
ومع ذلك، عندما عرضت روسيا التعاون في قضية سكريبال، ردَّت الحكومة البريطانية بالرفض والغضب. بدأت ماي في الظهور بمظهر المراوغة والرياء في الوقت الذي تكافح فيه من أجل الحفاظ على منصبها، في ظل أزمة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي (البريكست).
تخيلوا فقط كيف كانت بريطانيا والولايات المتحدة سترد على ذلك الحادث لو زُعمَ أنَّ إيران هي التي قتلت خاشقجي وليست السعودية. ستكون الضجة الدولية هائلة، ولَصَمَّت الإدانة الآذان. كانت ستُدشَّن عمليات انتقامية بالفعل، وقد لا نكون بعيدين عن الحرب الآن.
فأغلب الردود حول مقتل جمال خاشقجي كانت فعلا رمزية
والحقيقة هي أنَّ السعودية يمكن أن تفلت بفعلتها بقدر قلق بريطانيا والولايات المتحدة من القضية. وهذا هو الحال منذ فترة طويلة، ولسببٍ وجيه، وهو اعتماد عشرات الآلاف من وظائف التصنيع ذات المهارات العالية، والكثير منها في الدوائر الانتخابية الهامشية، على مبيعات الأسلحة للسعوديين. نستورد النفط السعودي، وبريطانيا والولايات المتحدة يُقدِّران علاقاتهما بالسعودية.
هذا ما يسمى بالواقعية في السياسة الخارجية، أي الاعتقاد بأنَّ الدول يجب أن تتصرف وفقاً لمصالحها الخاصة، بغضِّ النظر عن الاعتبارات الأخلاقية. انسوا التصريحات: هذه الواقعية كانت دائماً تقود السياسة البريطانية وربما ستكون كذلك دائماً.
ولهذا السبب، أتوقع أن يكون الرد النهائي لحكومة ماي على مقتل خاشقجي المروع رمزياً وليس حقيقياً، قد تنسحب من مؤتمر أو اثنين، وسيجد وزير الخارجية جيرمي هانت، صيغة أقوى للكلمات، لكن مبيعات الأسلحة سوف تستمر.
لكن ما الذي يمكن أن يتغير في علاقة الغرب مع ولي العهد محمد بن سلمان ؟
مع ذلك، من المرجح أن يتغير عنصر هام جداً في العلاقة السعودية، وهو ما يقودنا إلى النقطة الثانية.
استثمرت بريطانيا وحكومات غربية أخرى الكثير في محمد بن سلمان. كان يُنظَر إليه في واشنطن ولندن وباريس على أنَّه المصلح العظيم وصديق عظيم للغرب. تفاخر الرئيس الأميركي دونالد ترمب مؤخراً، بحماقة، بوضع محمد بن سلمان كزبون للولايات المتحدة.
في أروقة وزارات الخارجية البريطانية والأميركية والفرنسية، يسأل سماسرة السلطة أنفسَهم اليوم عما إذا كانوا قد ارتكبوا خطأً فادحاً، بعد مقتل جمال خاشقحي ، لكن لا بأس، ما فعلوه يمكن التراجع عنه. إذا استطاعت القوى الغربية إبقاء ولي العهد محمد بن سلمان في السلطة، فباستطاعتها إقصاؤه أيضاً.
ولهذا فمن الوارد أن تسحب البساط من تحت أقدامه
عندما يتعلق الأمر بمحمد بن سلمان، فتورطه المزعوم في مقتل جمال خاشقجي لم يكن مجرد جريمة فحسب، بل كان خطأً أيضاً، ولن يكون أول أخطائه. قد تسحب واشنطن ولندن البساط قريباً من تحت أقدام ربيبهم.
إلا أنَّ هذا الأمر خطير في حد ذاته، فزعيم السعودية القادم قد لا يكون على نفس القدر من الصداقة والإيجابية مع الغرب، كما كان يتمتع محمد بن سلمان.
الأمر الذي يقف على المحك الآن ليس مصير خاشقجي، ولا حتى مصير ولي العهد. قد تكون السعودية نفسها على وشك التعرُّض لتغيير هائل لتدور خارج فلك سيطرة الغرب.