تبدو ردود فعل الولايات المتحدة على التقارير بشأن اختفاء جمال خاشقجي باهتة وغير واضحة، ولكن تحت هذا الغطاء الدبلوماسي الأميركي، فإن هناك استياء يتصاعد من السياسات السعودية، خاصة بعد الأنباء التي تتردد عن مقتل خاشقجي .
ومقتل خاشقجي المحتملُ، في أثناء مراجعته القنصلية السعودية في مدينة إسطنبول التركية، يعد أحدث تحدٍّ للعلاقات الأميركية-السعودية، التي تعمل كلتا الحكومتين بجدٍّ على توطيدها، حسب تقرير لصحيفة The Washington Post الأميركية.
صحيحٌ أنَّ إدارة الرئيس الأميركي، دونالد ترمب، لم تُعلِن شيئاً سوى التعبير عن قلقها العام إزاء مصير خاشقجي، في حين نفت السعودية بشدِّةٍ معرفتها بمكان وجوده.
لكن وراء الكواليس، يشعر بعض المسؤولين، ومن بينهم وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو، بالإحباط بسبب عدم وجود ردٍّ موضوعي على الاستفسارات المباشرة رفيعة المستوى بين الجانبين السعودي والأميركي، وفقاً لما نقلته الصحيفة عن مسؤولين بالإدارة الأميركية.
ولكن المشكلة الأكبر التي يواجهونها بسبب اختفاء جمال خاشقجي قد تأتي من الكونغرس
ومن المُرجَّح أن يُثير تأكيد مقتل خاشقجي –كما زعم مسؤولون أتراك بارزون– أو حتى اختفائه بأيدٍ سعودية جولةً جديدة من ضغوط الكونغرس لإعادة تقييم العلاقات مع الرياض.
وقد أثار مقتل خاشقجي المحتمل عدداً من ردود الفعل على الشبكات الاجتماعية؛ إذ كتب ماركو روبيو، السيناتور الجمهوري عن ولاية فلوريدا، على حسابه بموقع تويتر، تغريدةً قال فيها: "إذا تأكَّد هذا الخبر المُزعج للغاية، فإنه يجب على الولايات المتحدة والعالم المتحضر الردّ بقوة. ومن جانبي، سأراجع جميع الخيارات المتاحة في مجلس الشيوخ".
وحذر السناتور الأميركي ليندسي غراهام، المعروف بقربه من دونالد ترمب، السعودية الإثنين من أنه إذا ما تأكدت المعلومات التي تفيد باغتيال الصحافي السعودي جمال خاشقجي، فإن العواقب ستكون "مدمرة" على العلاقات بين الرياض وواشنطن.
واعتبر ليندسي غراهام، بعد معلومات كشف عنها مسؤولون أتراك وتفيد أن خاشقجي قد اغتيل في القنصلية السعودية في إسطنبول التي توجه إليها الثلاثاء لإجراء معاملات إدارية، أن على السعودية تقديم "إجابات صادقة".
وقال غراهام، وفق ما نقلته وكالة الأنباء الفرنسية، "نحن متفقون على أنه إذا ما تأكدت الاتهامات ضد الحكومة السعودية، فإن ذلك سيكون مدمراً للعلاقات بين السعودية والولايات المتحدة، وسيكون ثمة ثمن كبير يتعين دفعه وليس اقتصادياً فحسب".
وأكد غراهام أن رئيس لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الشيوخ بوب كروكر يشاطره الرأي. ولم تتخذ إدارة ترمب التي عملت على ترسيخ التحالف الأميركي-السعودي، موقفاً بعد من مسألة خاشقجي.
الذي هو أصلاً غاضب من السياسة السعودية في اليمن وعلاقتها التاريخية مع الإرهاب
يُذكَر أنَّ بعض المُشرِّعين المنتمين إلى الحزبين الديمقراطي والجمهوري، المتشككين منذ أمدٍ بعيد في التطرف الديني السعودي وعلاقة السعودية التاريخية بالإرهاب، قد انتقدوا مؤخراً التصرُّفات السعودية في اليمن والمملكة نفسها.
وفي الشهر الماضي (سبتمبر/أيلول 2018)، حاولت الإدارة إقناعهم بالعدول عن محاولات وقف بيع الأسلحة والمساعدات الأميركية للمملكة السعودية، التي تُعَد أكبر مشترٍ في العالم للمعدات العسكرية الأميركية، وشريكاً أساسياً في خطط البيت الأبيض الرامية إلى إخضاع إيران، وتشكيل تحالفٍ عربي-إسرائيلي.
وجاءت شهادة بومبيو بأنَّ السعوديين "يتخذون إجراءاتٍ يمكن إثباتها"، لخفض عدد الضحايا المدنيين الذين يسقطون في اليمن بسبب الغارات الجوية التي تُشَنُّ بأسلحةٍ أميركية الصنع، وذلك عقب محاولةٍ سابقة من مجلس الشيوخ لوقف مبيعات الأسلحة؛ بسبب نزاع المملكة مع قطر، التي تُعد حليفة أخرى للولايات المتحدة في المنطقة.
إذ إن مقتل خاشقجي المحتمل جاء بعد أن كتب مقالات في الولايات المتحدة أغضبت الأمير محمد
وكان خاشقجي يعيش في منفاه الاختياري منذ العام الماضي (2017)، بعدما غادر السعودية خوفاً من الاعتقال، على حد قوله.
وأثارت مقالاته، التي كانت تُنشَر في صحيفة The Washington Post الأميركية وغيرها، غضب النظام الملكي السعودي، لا سيما بسبب انتقاده ولي العهد محمد بن سلمان، الابن القوي للملك سلمان.
وفي إحدى مقالات خاشقجي التي نُشِرَت بصحيفة The Washington Post في الخريف الماضي، كتب أنَّ الأمير محمد "وَعَد بتبنِّي إصلاحٍ اجتماعي… لكن كل ما أراه الآن هو موجة الاعتقالات الأخيرة"، التي شملت مُفكِّرين ورجال دين بارزين تجرَّأوا على انتقاد ولي العهد.
ولكن تجارة السلاح تُغيِّر المعادلة.. إنها أساس العلاقة بين ترمب والسعودية
ولفتت الصحيفة الأميركية إلى أنَّ السعوديين رحَّبوا بمحاولات ترمب التودُّد إليهم، والتي بدأت بجِدٍّ في زيارته الخارجية الأولى، للرياض في مايو/أيار 2017.
إذ أشاد ترمب بسلمان، واصفاً إياه بأنَّه ملكٌ حكيم ومفيدٌ لشعبه، وأعلنه عملياً زعيم العالم الإسلامي وأقرب حليف لأميركا.
ومثَّلت الزيارة كذلك بداية حدوث تغيُّرٍ في السياسة الخارجية؛ إذ بدأت الإدارة الأميركية بوضوحٍ في جعل شراء الأسلحة الأميركية مرادفاً لتحقيق مصالح السياسة الأميركية. ومنذ ذلك الحين، نادراً ما يلتقي ترمب زعيماً أجنبياً -لا سيما من الشرق الأوسط- دون أن يثير معه علناً موضوع المبيعات الأميركية، متحدثاً عن "الكثير من المعدات العسكرية الجميلة"، على حد وصفه.
ولكن حتى الآن، فإن أياً من الصفقات الكبرى التي جرى الحديث عنها لم تُنفَّذ بعد
بيد أنَّ ذروة نجاح هذا الهدف ما زالت تتمثَّل حتى الآن في 110 مليارات دولار، أعلن ترمب أنَّ السعودية تعهَّدت بدفعها لشراء أسلحة أميركية، في أثناء زيارة العام الماضي (2017).
مع ذلك، لم تتحقق أي من هذه الصفقات بعد. فرغم تخفيض سعر منظومة "ثاد-THAAD" المضادة للصواريخ الباليستية بنسبة 20%، مرَّ الموعد النهائي المسموح به لإنهاء الصفقة المُقدَّرة بـ15 مليار دولار، والذي كان مقرراً في 30 سبتمبر/أيلول، دون أن يوقِّع السعوديون على عقود الصفقة. وأعرب بعض مسؤولي الإدارة الأميركية -الذين تحدثوا عن العلاقات الأميركية السعودية بشرط عدم الإفصاح عن هويتهم- عن قلقهم من أنَّ سعر الصواريخ التي صنعتها شركة لوكهيد مارتن سيرتفع الآن على الأرجح، وفي الوقت نفسه سيتراجع استعداد الولايات المتحدة لقبول الشروط السعودية المتعلقة بالإنتاج المشترك.
وقال مسؤولٌ سعودي حين سُئِل عن الصفقة، إنَّ المملكة ما زالت "مهتمةً للغاية" بمنظومة "ثاد"، لكنَّه أكَّد أنَّ الصفقة "مثل أي عملية شراء عسكرية، تشهد مفاوضاتٍ جارية، نأمل أن تنتهي في أقرب وقتٍ ممكن".
في الوقت نفسه، رفض السعوديون مناشدات الولايات المتحدة التخلي عن أي اهتمامٍ بشراء نظام الدفاع الجوي الروسي "S-400″، واستمروا في المحادثات مع موسكو.
كما أن الحلف المقترح ضد إيران لم يخرج بعدُ إلى النور
يُمثِّل شراء أنظمة الدفاع الأميركية، إلى جانب اتخاذ موقف مُنسَّق ضد إيران والتقارب مع إسرائيل، إحدى ركائز آمال إدارة ترمب، التي تتمثل في اجتذاب الأعضاء الستة في مجلس التعاون الخليجي ومصر والأردن إلى ما تسميه الإدارة "تحالف الشرق الأوسط الإستراتيجي" الجديد.
وهو التحالف الذي سُمي إعلامياً "الناتو العربي"
يُذكَر أنَّ القمة المزمع عقدها لترسيخ التحالف، والمقرر إجراؤها في يناير/كانون الثاني 2019 في كامب ديفيد بولاية ميريلاند الأميركية، قد تأجلت مراراً على مدار العام الماضي (2017)، في ظل تشكيك أعضائها المفترضين في غرضها، وتنازعوا فيما بينهم.
فكل الأعضاء لديهم مخاوفهم من هذا الناتو العربي المبهم
وقال أنتوني زيني، الجنرال المتقاعد الذي كلَّفته الإدارة الأميركية إدارة ملف "تحالف الشرق الأوسط الاستراتيجي الجديد": "يمكنني القول إنَّ الفكرة تلقى قبولاً عاماً من حيث المبدأ".
وعندما أجرى زيني جولةً في المنطقة، الشهر الماضي (سبتمبر/أيلول 2018)، لتبادل الأفكار. قال: "البعض مستعدٌ للانضمام فوراً إلى التحالف، في حين من الواضح أنَّ البعض الآخر لديه الكثير من الأسئلة، لكنَّ أحداً لم يرفض الفكرة تماماً".
وتودُّ بعض الدول أن ترى معاهدة دفاع مشتركة تشبه المادة الخامسة في اتفاقية حلف شمال الأطلسي (الناتو)، إلى جانب اتفاقية تجارة حرة واسعة، في حين لا تهتم الإدارة الأميركية بتحقيق أيٍّ من الأمرين.
وتودُّ دول أخرى، وضمن ذلك الإدارة الأميركية، أن يكون التحالف وسيلةً لحل النزاع مع قطر، لكنَّ السعوديين والإماراتيين يعارضون ذلك بشدة.
وبعض دول المنطقة تخشى من استغلاله للاحتشاد ضد الفلسطينيين، وأخرى لا تريد مواجهة مع إيران
وتشعر قطر وعُمان بالقلق من عدوانية السعودية والإمارات والإدارة الأميركية ضد إيران، في حين تشعر كل الدول العربية الأعضاء بالقلق من أنَّ الإدارة الأميركية تخطط لاستغلالها من أجل ترسيخ اتفاقية سلام مع إسرائيل ضد الفلسطينيين.
وقال زيني عن المشاورات التي أجراها مؤخراً: "بعض الدول ليست متيقّنة من أنَّ ذلك (التحالف) سيمنحها أكثر ممَّا لديها (بالفعل) في علاقاتها الثنائية" مع الولايات المتحدة، وأضاف: "وبعض الدول الأخرى تخشى أن يُميِّز التحالفُ السعوديين أكثر من اللازم. كان هدفنا أن يُطرَح كل شيء على الطاولة، فنحن لا نحاول إخفاء أي شيء".
والآن، هذا الحلف قد يواجه تعقيداً إضافياً إذا قرر الكونغرس معاقبة السعودية
ولا شكَّ في أنَّ تأكيد المسؤولية السعودية عن اختفاء أو مقتل خاشقجي قد يُعقِّد الجهود المبذولة لإنشاء التحالف في حال قرر الكونغرس معاقبة الرياض، وطالب الرأي العام في الولايات المتحدة بردٍّ على الواقعة.
وعلى الرغم من الاختلافات المتكررة بين البيت الأبيض والسعوديين، فإنَّ الطرفين يبذلان كل ما في وسعهما لتشكيل جبهة متحدة، فبعدما أهان ترمب الملك سلمان في تجمُّعٍ انتخابي الأسبوع الماضي، قائلاً إنَّ الأخير "قد لا يبقى أسبوعين في السلطة" لولا حماية الولايات المتحدة، وطالب الرياض بـ"الدفع مقابل الحماية"، رفض محمد بن سلمان برويّةٍ، تلك التصريحات.
إذ قال في حوارٍ صحافي مع وكالة Bloomberg الأميركية، نُشِر يوم الجمعة 5 أكتوبر/تشرين الأول 2018: "الأصدقاء يقولون أشياء جيدة وأخرى سيئة. وستُسيئون فهْم بعض التصريحات؛ لذا سنعتبر ذلك مجرَّد سوء فهم". وأضاف أنَّ ترمب كان يُدلي بتصريحٍ سياسي لـ"شعبه" ليس إلا.
وأردف: "إذا نظرتم إلى الصورة من منظورٍ عام، فستجدون 99% من الأشياء جيدةً، وقضيةً واحدة سيئة، أي 1% فقط. إنَّني أحب العمل معه".
لكنَّه أصرَّ في الوقت نفسه، على نفي أنَّ الولايات المتحدة "تحمي" السعودية، وأنَّ المملكة "تشتري كل شيء بالمال".