وسط بيروت وعلى مساحةٍ قدرها كيلومتر مربع واحد، يعيش بعض اللاجئين السوريين في مخيم شاتيلا الذي يؤوي 14 ألف لاجئ. مع أن الرقم الحقيقي قد يكون أكثر من ضعف هذا الرقم. لا تنشر السلطات اللبنانية عناصر جهاز الشرطة في المخيم، ومعظم القاطنين يعانون قلة المأوى والتوظيف والكهرباء والماء.
تأسس هذا المخيم عام 1949 لإيواء اللاجئين الفلسطينيين، أما الآن فقد بات أكثر من نصف سكانه من السوريين.
في شاتيلا ، لاجئون سوريون يطلبون خدمات العلاج النفسي من منظمة أطباء بلا حدود MSF، فهم يعانون صدمة حادة نتيجة الحرب، لكن معاناتهم الأصعب هي التحولات والتغيرات التي طرأت على ديناميات وعلاقات عائلاتهم بسبب التشرد والنزوح.
وتستقبل منظمة أطباء بلا حدود عدداً متزايداً من النساء السوريات، اللاتي يتعرضن للعنف المنزلي والجنسي.
وبدعم من فريق الإرشاد والاستشاريين، تحدث بعضهن عما مرت به من مآسٍ أصابت حتى الاستشاريين باكتئاب.
في هذا التقرير الذي نشرته صحيفة The Guardian، نتطرق إلى بعض القصص التي سمعتها رسامة الكاريكاتير إيلا بارون عندما سافرت إلى مخيم شاتيلا، لمقابلة النساء في عيادة منظمة أطباء بلا حدود الصحية
تشير فيما يلي إلى تجربة قابلة توليد أولاً، ثم بعض النساء -لم تُذكر أسماؤهن- وفريق الاستشارة.
"أريد أن أبدو كسيدة!"
"صبي أم بنت؟" هو السؤال الأول الذي يطرح على القابلة القانونية في كل جلسة تصوير بالأمواج فوق الصوتية.
إن كانت السيدة تنتظر مولودة أنثى فقد يتسبب لها ذلك في بعض المتاعب مع عائلتها؛ ولهذا تفضل ادعاء أنها لا تعلم جنس المولود بعد.
تخبر السيدة الحامل بأن الأولوية هي صحة الجنين، فتريها جسمه وتشير إلى قدميه ويديه ووجهه؛ بل وحتى تسمعها صوت نبضات قلبه.
تغمرها الفرحة كلما أشرفت على توليد طفل، ولكن قد ينطوي الأمر على مشقات. في إحدى المرات شاهدت لاجئة سورية بعمر 12 سنة حبلى بمولودها الثاني. من العادي بالنسبة لهن أن يختبرن الأمومة في عمر صغير جداً.
فالمراهقة (د) بعمر 16 سنة، تزوجت في سوريا بعمر 14 وها قد أنجبت طفلتها الأولى.
تقول القابلة لرسامة الكاريكاتير عند نهاية اللقاء: "رجاء لا ترسمني بهذا البنطال الفضفاض. أريد أن أبدو كسيدة!".
"الباعة يعرضون علينا الطعام مقابل الجنس"
ذكرى جميلة في سوريا؟ تجيب هذه اللاجئة قائلةً: "كانت ليلة انتهينا من امتحاناتنا الجامعية. ذهبنا كلنا إلى الحديقة العامة لتناول المشاوي. لدي هنا صور أستطيع أن أريك إياها".
أما هنا في لبنان، فأفضل الأوقات هي أيضاً في الحديقة برأيها، عندما تصطحب هي وزوجها أطفالهما هناك للعب. ولكن ذلك نادر الحدوث، فلا يمكنها الذهاب دون مرافقة، كما أن على زوجها البحث عن عمل.
في معظم الأيام تبقى الغرفة مع الأطفال. مضت 5 أسابيع تقريباً على آخر مرة خرجت فيها للتنزه. "عندما لا نملك المال الكافي للطعام، أذهب إلى السوق مساء كي أجمع الخضر من الحاويات"، كما تقول.
وتضيف: "كثيراً ما يعرض الباعة طعاماً طازجاً مقابل الجنس، ولكني لن أفعل ذلك. قد لا أملك شيئاً هنا، ولكني في وطني كنت محترمة. كانت لدي وظيفة ومنزل جيد وجيران وأصدقاء. يصعب قبول حقيقة أن تلك الحياة ولّت إلى غير رجعة".
يقول الاستشاري الذي يتعامل مع حالتها: "أذكّرها بقدرتها على التحمل، فأقول لها إن الأمر أشبه بالقفز إلى الماء، فبرودة هذه البيئة العدائية الجديدة تلسع في البداية ثم ما تلبثين تدريجياً تعتادينها حتى تألفيها ويصبح تحمّلها أسهل".
الذكريات الجميلة تمدنا بالقوة في أوقات الشدة. ويوصيها المستشار بتخصيص وقت معين كل يوم لتذكر الأماكن والناس الذين خسرتهم، كأن تفكر فيهم وتنظر إلى صورهم. لكن بغية الاستفادة قدر المستطاع من الحاضر، من المهم تقبّل واقع أن الماضي لا يعود.
"كانت تراودها ذكريات مفزعة من الماضي"
يضيف استشاري آخر: "قد لا تفي التشبيهات بالغرض وتعجز عن توضيح المعنى، لكني أرى فعلاً أنها تعيننا على معالجة الأمور بالنظر إلى المسائل بطريقة أخرى. أحياناً أقول إن التأٌقلم والتصالح مع الصدمات أشبه بفتح خزانة مليئة بالثياب، فعندما تفتح الباب تبدأ أكوام الثياب غير المرتبة والمتشابكة بعضها ببعض بالسقوط عليك كسيل متدفق، وعليك الإمساك بكل قطعة، وفرزها وفصلها قبل طيها بعناية ووضعها جانباً في مكانها".
(م)، التي سُجنت شهراً كاملاً في معسكر لتنظيم داعش، أخبرته الكثير عن الرعب الذي شاهدته هناك، كذبح الناس واغتصاب النساء.
كانت حاملاً، وبعد 3 أيام من إهمالهم آلام مخاضها، أخذوها إلى مستشفى. وهناك ضربوها ليجبروها على الولادة أسرع. ثم كذبوا عليها وقالوا إن طفلها الذي لم يُولد بعد هو جنين ميت أصلاً.
خسرت (م) جنينها، لكنها عندما جاءت إلى منظمة أطباء بلا حدود كانت حاملاً مرة أخرى، وكانت الذكريات المفزعة تراودها من المخاض السابق، وكانت مقتنعة بأن هذا الحمل سيكون كسابقه.
كان على الاستشاري مساعدتها، كما يقول، كي ترى أن مخاوفها باتت وراء ظهرها في الماضي البعيد. ساعدتها على شهادة الكثير من الولادات كي تتقبل أن الوضع ليس كما في مستشفى داعش، وأن الأطباء أناس جيدون.
في النهاية، وضعت (م) مولوداً بصحة جيدة وولادة طبيعية.
"شاهدت عائلتي تموت ولم يسعني فعل شيء"
يقول: "عندما سقطت القنبلة على بيتنا، علقت ساقيّ، ولم يسعني فعل شيء. شاهدت عائلتي تموت أمام ناظري: أمي، أختي، طفلاي، جميعهم ماتوا ولم أقدر على فعل شيء. حتى قبل الأزمة لم نكن مرتاحين مادياً، فلم يحصلوا على ما كانوا يحتاجونه، ولم أقدر على إعطائهم ما كانوا يستحقون".
يحاول الاستشاري مساعدة (ت) كي تتخلص من إحساسها بالذنب، لتؤمن بأن عائلتها كانت ستتفهم أنها قدمت أقصى ما تستطيع. ما زال يحاول التوصل معها إلى تمييز الفرق بين النسيان والمضي قدماً إلى الأمام. لدى السيدة ابن آخر، وقالت له إن الله عوضها عن بعض ما خسرته.
"مديري اغتصبني كل يوم طيلة 5 أشهر"
تقول هذه اللاجئة: "عائلتي مكونة من 11 فرداً؛ لذا أرسلوني للعمل بعمر 13. عملت في مستودع خارج شاتيلا لفرز الملابس. كان رب العمل رجلاً في الـ45 من العمر. وفي إحدى الليالي وبينما أنا أعمل وحيدة اغتصبني، وصارت هذه عادة".
تضيف: "اغتصبني كل يوم على مدار 5 أشهر، ولم يسعني قول شيء؛ لأني لم أرِد لعائلتي أن تعاني الفضيحة، ولكن في النهاية لاحظت أختي الكدمات وبحت لها بكل شيء، فأحضرتني إلى أطباء بلا حدود".
عن هذه اللاجئة يقول أحد الاستشاريين إنه عندما جاءت (ن) إلى منظمة أطباء بلا حدود طالبة المساعدة، اكتشف أنها حامل، وبمساعدة أختها قررت إجراء إجهاض متأخر، وهو عمل فيه مخاطرة جسيمة.
هذه القصة مألوفة جداً، فضحايا الاغتصاب يفضلن البقاء صامتات بسبب العار الاجتماعي المحيط بهذه الأمور، فإن نتج عن الاغتصاب حمل، قد يحاولن إنهاءه سراً بأنفسهن إما عن طريق العقاقير وإما بالسقوط سقوطاً قوياً.
ويوضح الاستشاري: "لو جاءت النساء إلينا نستطيع تقديم الاستشارة لهن، وإن كن حوامل نستطيع مساعدتهن في مغادرة المخيم والبقاء بمأوى حتى الولادة دون إدانة مجتمعهن. أما الرجال المسؤولون عن الاغتصاب فيفلتون من العقاب ولا يتلقون ما يستحقون".
"أخذوا ابنتي لأن زوجي مسجون ولم أحضرها من المدرسة"
رواية هذه اللاجئة مختلفة بعض الشيء؛ إذ تقول: "كانت ابنتي، البالغة 6 سنوات من العمر، في طريق عودتها إلى البيت من روضة أطفال المخيم. زوجي مسجون بسبب تراكم الديون؛ لذا علي أنا تربية الأولاد وإعالتهم وحدي، لكن ليس لدي وقت لأصحبهم مشياً عائدين من المدرسة.
اقترب منها ولدان بعمر 18 و 16، وقالا لها إنها إن أتت معهما فسيعطيانها بعض المال والحلوى. أخذاها إلى مبنى مهجور، وهناك خلعا ثيابها وأرياها أفلاماً جنسية إباحية. لن تعود ابنتي كما كانت أبداً، وهي تصاب بالقلق كلما رأت أولاداً صغاراً، فترمي ألعابها وتركض إلى سريرها وتغطي وجهها وتقول لي أنها تريد النوم".
عن هذه الحوادث، يقول استشاري في المنظمة: "كثيراً ما تصادفنا أمور كهذه في المخيم، وسمعت أنها تحدث ليس للبنات الصغيرات فقط وإنما للصبيان أيضاً. اليوم جاءتنا طفلة أخرى بعمر 6 سنوات اغتصبها رجل خمسيني، وأخبرها بأنها إن عادت في اليوم التالي فسيعطيها بعض الحلوى، وأمام كل ما نراه هناك الكثير والكثير من الحالات التي لا تصلنا، فأسوأ الأشياء تحدث وراء الأبواب المغلقة".
"إنْ رأى رجال داعش امرأة جميلة فإنهم يغتصبونها"
عندما بدأت الحرب أرادت هذه السيدة اللاجئة اللحاق بزوجها في لبنان، لكنها علقت في مخيم للاجئين بسوريا.
تصول :"لو رأى رجال داعش امرأة جميلة هناك لأخذوها واغتصبوها؛ لذا كنت خائفة جداً وقضيت شهراً مختبئة بالخيمة طوال الليل والنهار. عندما وصلت أخيراً إلى شاتيلا فقد زوجي ثقته بي، فقد علم أن الكثيرات اغتصبن فصار يطرح علي الأسئلة عن كيف تمكنت من المجيء هنا بأمان، وعندما أدرك أني صنت عرضه عادت المياه إلى مجاريها في عائلتنا، لكنه ما زال يغضب بسرعة بيد أنه يقول إنها ليست غلطتي، وإن السبب هو أنه ضاق ذرعاً بالوضع هنا".
تضيف: "لدي الآن 3 أطفال، وهذا الطفل لا يبلغ سوى 20 يوماً من العمر. أنا راضية بأن أكون فقط مع عائلتي وأن أشعر بالأمان، لكني أريد لأطفالي أن يحظوا بفرصة لنيل المزيد".
آلام اللاجئين تصيب الاستشاريين بأمراض نفسية
يعقّب أحد استشاريي المنظمة على قصة هذه السيدة، قائلاً: "من الصعب معالجة مرض نفسي عندما لا يمكنك تغيير الظروف المسببة له، فحتى مجرد العمل هنا أمر صعب".
يضيف: "عندما أحتاج لاستراحة من كل هذا أصعد إلى التراس فوق سطح مبنى عيادتنا. انظر هناك، أترى ذاك الذي يبدو كجريان دموع تسيل أسفل المبنى؟ ذاك من صهاريج مياههم؛ لأن آبار المياه الوحيدة هنا مالحة، وهل ترى كم من اليمام والعصافير المجتمعة هناك؟ الناس يطعمونها! أمر مستغرب ممن ليس لديه سوى القليل، ولكن لعلهم يجدون في هذا نوعاً من الحرية".