ربطت صحيفة The Independent البريطانية السبت 6 أكتوبر/تشرين الأول 2018، بين حدثين هامين يخصان المملكة العربية السعودية وهما التصريحات المثيرة للرئيس الأميركي دونالد ترمب واختفاء الإعلامي البارز جمال خاشقجي، وكيف أظهر ذلك بحسب الصحيفة نقاط الضعف لدى الرياض.
وقالت الصحيفة البريطانية، نادراً ما ظهرت مواطن ضعف المملكة على هذا النحو الصارخ مثلما تجلَّت الثلاثاء الماضي 2 أكتوبر/تشرين الأول، جرّاء تصادف حدثين مختلفين تماماً. أحدهما كان تصريح ترمب بقسوة ودون تحفظ قبل تجمُّعٍ انتخابي في ولاية ميسيسيبي بأنَّ المملكة السعودية تعتمد على دعم الولايات المتحدة، وأنَّها يجب أن تدفع مقابل هذا الدعم.
وقال ترمب للجماهير المهللة: "نحن نحمي السعودية. يمكننا القول إنَّهم أثرياء. وأنا أحب الملك، الملك سلمان. لكنَّني قلت له: نحن نحميكم. قد لا تبقى هناك أسبوعين بدوننا. يجب أن تدفع تكاليف جيشك".
وغالباً ما تكون انفعالات ترمب مدروسةً أكثر مما قد يبدو عليها، وهو لا يهين حلفاء واشنطن بهذه الطريقة إلا إذا كان يعرف أنَّه سيُفلت بفعلته.
وبحسب الصحيفة البريطانية، اكتسب تعليق ترمب "المهين" حول عدم استقرار السعودية دلالةً أكبر جراء حدثٍ مأساوي آخر وقع قبلها بساعات على بعد نحو 9656 كم في مدينة إسطنبول التركية. إذ لم يعاود الصحفي السعودي البارز والمعارض جمال خاشقجي الظهور بعد دخوله القنصلية السعودية لإتمام بعض الأوراق المتعلقة بطلاقه وزواجه المرتقب.
أين اختفى خاشقجي؟
ولم يُرَ خاشقجي منذ ذلك الحين. وذكرت السلطات التركية أنَّ خاشقجي لا يزال داخل القنصلية،. بينما يزعم مسؤولون سعوديون أنَّه غادر المبنى، لكنَّ كاميرات المراقبة تُثبت أنَّه لم يغادره على قدميه، وبالتالي فإذا كان قد غادر بالفعل فمن المحتمل أن يكون قد حدث ذلك في سيارة أحد الدبلوماسيين، وربما يكون أيضاً قد وُضِع في صندوق السيارة. وتُرِكت خطيبة خاشقجي مفطورة القلب تنتظر خارج أبواب القنصلية.
أفضل ما يمكن أن نأمله هو أن تؤدي موجة الانتقادات الدولية حول الحادث إلى عودة ظهور خاشقجي، وربما ينفي حينها أنَّه تعرض للاعتقال. ويشبه هذا الموقف الحادثة الغريبة ذاتها التي مر بها رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري في شهر نوفمبر/تشرين الثاني من العام الماضي حين اختفى خلال زيارةٍ للرياض، وتقدم باستقالته على الهواء قبل أن يعاود الظهور مرةً أخرى بفضل ضغطٍ من الحكومة الفرنسية، بحسب الصحيفة البريطانية.
ويحمل مصير خاشقجي رسالة مهمة بشأن الوضع الحالي للسعودية، أياً كانت نتيجة موجة الاستنكارات الحالية ضد اختفائه، فإن كان محتجز قسراً على حد تصريحات الحكومة التركية، فهذا تصرُّف أحمق سيضر بالمملكة. إذ أنَّ هذا يرقيه من مجرد مصدر إزعاج بسيط إلى قضية رأي عام، واستمرار الغموض حول مكان تواجده يؤكد أنَّ القصة لن تصبح طي النسيان.
خاشقجي يثير الدعاية السلبية للمملكة
لا يزال الوقت باكراً، لكنَّ اختفاء خاشقجي أطلق سيلاً من الدعاية السلبية حول المملكة السعودية وولي العهد الأمير محمد بن سلمان. كان هذا متوقعاً تماماً. ومن الحقائق العجيبة حول الدعاية أنَّ الأحداث المريعة مثل الحرب التي تقودها السعودية في اليمن، والتي خلَّفت 5 ملايين طفل يعانون من المجاعة، قد فشلت في تصدر أجندة الأحداث الدولية. إذ أنَّ المذابح التي تُرتَكب هناك رهيبة، والمكان بعيد جداً، ولا يحظى بالتغطية الإخبارية الكافية ليدرك الناس الفظائع التي تحدث هناك ويتفاعلون معها.
أما وقوع حادثة على نطاق أصغر، مثل اختفاء أحد منتقدي الحكومة السعودية بينما خطيبته تنتظره في الشارع، هو أمر يسهل بكثير استيعابه والاستجابة له. وعادةً يكون الهدف من حوادث اختفاء الصحفيين الشائعة جداً هو ببساطة إسكاتهم وترهيب الآخرين. النقطة المراد توضيحها بفجاجة هنا هي "دعهم يكرهوننا ما داموا يخشوننا"، بحسب الصحيفة البريطانية.
لكنَّ ولي العهد السعودي كان يطمح إلى صورةٍ أكثر إيجابية في الإعلام الدولي، ونادراً ما خابت توقعاته. انظر مثلاً إلى المقال الذي كتبه الصحفي توماس فريدمان في صحيفة The New York Times في نوفمبر/تشرين الثاني 2017 حول الساعات الأربع التي قضاها مع ولي العهد. إذ كتب فريدمان: "التقينا ليلاً في قصر عائلته المزخرف ذي الحوائط اللبنية في العوجا، شمال الرياض". ويصف المملكة بأنَّها تمر بالنسخة الخاصة بها من الربيع العربي الذي "لن يغير فقط شخصية السعودية، بل سيغير كذلك صورة ومعنى الإسلام حول العالم. وحده الأحمق قد يتنبأ بنجاحه، وبالتأكيد سيحظى بتشجيع الجميع إلا الحمقى".
كان خاشقجي أحد هؤلاء الذين يوازنون بين النقد المنطقي والانشقاق الصريح. ووفقاً لرواية فريدمان حول الرأي العام السعودي، كان خاشقجي صوتاً وحيداً، إذ "لم يعرب سعودي واحد ممن تحدثتُ معهم هنا على مدار ثلاثة أيام عن أي شيء سوى دعمه الجارف للحملة ضد الفساد". لكن هل يمكن أن يكون هذا العرض المبهر من الإجماع يتعلق بحقيقة أنَّ أي شخص يلمح بشيءٍ من الانتقاد، مثل الاقتصادي عصام الزامل، قد يجد نفسه مُكبَّلاً في السجن بتهمة الإرهاب والخيانة؟
قد يكون من الصعب مستقبلاً نشر أي تقارير صحفية داعمة للملكية السعودية في أعقاب فضيحة خاشقجي. وتراجعَ بالفعل بعض الداعمين للبلاد منذ فترةٍ طويلة عن موقفهم؛ إذ نُقل عن الدبلوماسي إليوت أبرامز قوله إنَّ "الحكومة السعودية إما تحتفظ به [خاشقجي] في مبنى القنصلية أو خطفته وأخذته إلى السعودية". وحذَّر من أنَّ سمعة الحكومة السعودية الحالية قد "تتضرر على نحوٍ لا يمكن إصلاحه".
تشكيك في الإصلاحات
بدت الإصلاحات الاقتصادية المقترحة في السعودية دائماً وكأنها تنُم عن عقليةٍ حكيمة، إلا أنَّ التشكيك العميق هو النهج الصحيح للنظر لأي تغييرٍ جذري تدعمه الحكومة في أي بلد يعتمد على عائدات النفط والموارد الطبيعية الأخرى. تقوم حملات مكافحة الفساد ببساطة بإعادة توزيع الغنائم على عصابة جديدة من الفاسدين المتوحشين المتصلين ببعضهم البعض على نحوٍ وثيق. وقد اعتاد الكثير من مواطني هذه الدول على الحصول على وظائف رعاية جيدة الأجر مقابل القليل من العمل أو بدونه. ولا يمكن للصناعة المحلية والزراعة أن تُنافس اقتصادياً وتزدهر ما لم تحصل على إعاناتٍ مالية كبيرة. ولذلك، فهذا النظام مريح للغاية بالنسبة للكثيرين بشكلٍ يصعب التنازل عنه، فضلاً عن أنَّ معارضة الفساد والمحسوبية تلقى قبولاً وتأييداً ما دامت لا تنطوي على تضحية شخصية من أي نوع.
المشاكل الاقتصادية في السعودية خطيرة، لكنَّها ليست كارثية بالضرورة. والأكثر زعزعة لاستقرار المملكة هو المدى الذي تعمل فيه السعودية الآن بشكلٍ واضح خارج سعة قوتها الحقيقية في المنطقة، حيثُ تأتي سياستها الخارجية الأكثر ميلاً للمغامرة على مدى السنوات الثلاث الماضية بنتائج عكسية، بحسب الصحيفة البريطانية.
قائمة الإخفاقات السعودية مُحرجة، وتشمل القصف الذي تقوده السعودية في اليمن منذ عام 2015، والذي لم يهزم الحوثيين بل نتجت عنه أكبر مجاعة تسبب فيها الإنسان على الأرض، ودعمها المتزايد للمعارضة السورية المسلحة، الذي شَجَّع في نفس العام التدخل العسكري الروسي وأدى إلى قرب انتصار الرئيس بشار الأسد، وخلافها مع قطر الذي أضعف كل ممالك الخليج، ومواجهتها مع إيران في صراعٍ لا يمكنها الفوز به أبداً.
كما اكتشف ميخائيل غورباتشوف بعد الأيام العنيفة الأولى من محاولة تغيير الاتحاد السوفيتي، فإنَّ الإصلاحات من الممكن أن تُسقط أنظمة الحكم القائمة رأساً على عقب بدلاً من أن تُعزز وجودها.