في الحديقة المقابلة لمحطة الحافلات بقلب مدينة تيزي وزو الأمازيغية شرق الجزائر العاصمة توجد مدرسة اللاجئين التي حولت حياة المهاجرين الأفارقة، من عالم التسول والتشرد في الأزقة والطرقات، إلى فرصة للتعلم والعمل والبحث عن مصادر رزق.
زهية وعماد ويزيد وغيرهم من شباب مدينة تيزي وزو، يواصلون تطوعهم لإنجاح البرنامج الذي بدأوه منذ سنة من الآن، والذي يهدف إلى تعليم اللاجئين وعائلاتهم خاصة الأطفال، أبجديات اللغات وفن التعامل والحياة.
مقاعد الدراسة على الهواء
يجلس آمنو محمدا القادم رفقة عائلته من دولة مالي، على فرش بسيطة على الأرض، لتلقي الدروس، وفي حجره ابنته فطيمة، وعيناه على السبورة التي اقتناها الشباب المتطوع من مالهم الخاص، فدرس اليوم مهم جداً وسيمكنه من تشكيل جمل مفيدة بالعربية والأمازيغية.
أما ابنته فطيمة فهي فتنتظر دورها في تعلم الحروف والحساب، فمعلمها المتطوع يزيد لم يأت بعد بسبب ارتباطه بالدراسة هو الآخر بجامعة مولود معمري بتيزي وزو.
ويرى آمنو محمدا في تصريح لـ" عربي بوست "بأن جو التدريس ممتاز، رغم ظروفه الصعبة نوعاً ما في ظل افتقارنا لصالات وطاولات تجعلنا نتعلم في أحسن الظروف، لكن ذلك لم يكن متاحاً حتى في دولتنا بسبب الفقر والحرب والمطاردات".
كما يعتبر اجتهاد المعلمين المتطوعين في المبادرة، للتدريس في هذه الظروف "هو حافز كبير لنواصل البرنامج ونتعلم أموراً تفيدنا وأولادنا في الحياة اليومية، خاصة وأننا في دولة تختلف عن مالي ثقافياً، اجتماعياً ولغوياً".
سفيان زناتي أحد المبادرين، يعتبر التدريس على الهواء، جاء وليد الظروف، باعتبار أن المبادرة شبانية ولا ترعاها السلطات أو منظمة إنسانية.
فالجزائر كما يقول سفيان لـ" عربي بوست "لها شروط معقدة لفتح مدرسة خاصة، كما أنها تمنع انتشار المهاجرين خارج الأماكن والمخيمات المخصصة لهم، حيث تتوفر أماكن للعلاج والتعليم والترفيه.
يديرها متطوعون
زهية طالبة لغات أجنبية بجامعة مولود معمري بتيزي وزو، تنظم وقتها بحرص كبير من أجل المواظبة على الحضور في الساعات المخصصة لها، فراحتها الكبيرة كما قالت لـ" عربي بوست "تجدها وهي تعلم الآباء والأطفال الأفارقة".
تعمل زهية مجتهدة في تعليم هؤلاء اللغات، فالكبار كما تقول لا يملكون إشكالاً كبيراً في اللغة الفرنسية، فالأفارقة المتواجدون بالجزائر، أغلبهم من مالي والنيجر ونيجيريا والسنغال، وهي دول تتحدث الفرنسية.
لكن المشكل في الأطفال الصغار، الذين لم تمكنهم ظروف بلدانهم من التعلم وأخذ الدروس، فحياتهم بالكامل هي عبارة عن تجوال وقطع للصحارى، لذا "نريد أن نستدرك تأخرهم هذا بكل ما أوتينا".
كما لا تبخل زهية في مساعدة هؤلاء في تعلم أبجديات اللغة الإنكليزية، ومصطلحات باللغة الأمازيغية المحلية.
طارق بلحجاج هو الآخر متطوع في مدرسة اللاجئين كما يحلو للبعض تسميتها، وهو أحد طلبة المدرسة القرآنية بآزفون، يقطع عشرات الكيلومترات من أجل تعليم العائلات الإفريقية وأبنائها اللغة العربية وسوراً من القرآن.
ويثني طارق كثيراً في حديثه لـ"عربي بوست" على المجهود المقدم من قبل زملائه، وكذا حرص الوافدين على التعليم، وتركيزهم على ما يقدم من دروس، واعتبر ذلك من "الصدقات الجارية التي تفيد المتطوع في دنياه وآخرته".
ويؤكد سفيان زناتي أحد المبادرين لإنشاء هذه المدرسة "بأن جل المسيرين والمعلمين المتطوعين هم من الطلبة الجامعيين، وطلبة بعض المدارس القرآنية، وأساتذة التعليم، وفق برنامج هم من يتفقون حوله".
يتعلمون اللغات والآداب.. والتشبث بالأمل
يركز المعلمون المتطوعون في تدريس اللاجئين بهذه المدرسة الإنسانية بمدينة تيزي وزو الجزائرية، على تعليم الأطفال الأفارقة وأوليائهم اللغات خاصة تلك التي لا يثقفونها وعلى رأسها العربية، الأمازيغية والإنكليزية.
ويرى سفيان زناتي بأن التركيز على تعليم اللغات، هو لتسهيل اندماج هؤلاء في المجتمع، خاصة وأنهم يعيشون في الجزائر التي تعد العربية والأمازيغية لغتيها الرسميتين.
حتى المتعلمون من الأفارقة يركزون ويهتمون بصفة كبيرة على تعلم اللغتين الوطنيتين، إضافة إلى بعض اللغات الأجنبية كالفرنسية والإنكليزية.
وهذا لا يعني أن المدرسة تهمل العلوم الأخرى، بل بالعكس، فهناك أساتذة مهتمون بتلقين الأطفال أبجديات الحساب والرياضيات، كما يوجد أساتذة في الرسم والفنون الجميلة والأشغال اليدوية.
وتهتم مدرسة اللاجئين أيضاً بالجانب النفسي للأطفال والعائلات، من خلال زرع الأمل، ومسح اليأس وصور الفقر والحرب الراسخة في أذهانهم لسنوات، من خلال إشراف متخصصة نفسانية على حصص موجهة لذلك".
وينظمون رحلات ترفيهية أيضاً
مدرسة اللاجئين بتيزي وزو، لا تهتم فقط بالجانب التربوي والتعليمي فحسب، وإنما تعطي أولوية للجانب الترفيهي والاستجمام، من خلال تنظيم رحلات سياحية لعدد من جهات البلاد.
آخر هذه الرحلات كانت في 22 سبتمبر/أيلول 2018، حينما بادر أحد المحسنين بتخصيص حافلات، ونفقات رحلة سياحية إلى مدينة بجاية الساحلية، بحيث استمتع الأطفال وعائلاتهم بيوم جميل بعيداً عن فرش الدراسة.
وتأتي هذه الرحلات حسب المتطوع سفيان بمبادرات لمحسني الولاية، والذين اعتبروا المدرسة نموذجاً في حماية الأطفال الأفارقة وعائلاتهم من خطر التشرد والتسول.
ونظمت مدرسة اللاجئين لحد الآن أكثر من ست رحلات إلى مناطق مختلفة، خاصة إلى مدينة بجاية، وجبال تيكجدة بالبويرة، إضافة إلى مناطق مختلفة داخل ولاية تيزي وزو.
يعمل في الفندق ويدرس في الحديقة
آمنو محمدا من دولة مالي، دخل الجزائر منذ سنتين "ديسمبر/كانون الأول 2016)، قضى قرابة السنة متنقلاً بين ولايات الجزائر، هارباً من مطاردات الأمن وباحثاً عن رزق أولاده بين جيوب الجزائريين عبر الطرقات والشوارع.
في سبتمبر/أيلول 2017، استقر محمدا وعائلته بمدينة تيزي وزو، وبالضبط بالحديقة المحاذية لمحطة الحافلات، وهناك تعرف على جو آخر من المعاملات والدعم من خلال تعلم اللغات التي مكنته من الظفر بفرصة عمل.
ويقول محمدا لـ" عربي بوست " أنه منذ ولج المدرسة، تغيرت حياته كثيراً، وتمكن من تعلم الحديث بالعربية والأمازيغية المحلية، وهو ما ساعده لدخول عالم الشغل كمسير لموقف سيارات تابع لأحد الفنادق الخاصة.
وأصبح يتواصل مع زبائن الفندق بطريقة جيدة بالعربية والأمازيغية، وكل الفضل يعود إلى الشباب المتطوعين في مدرسة الحديقة.
محمدا والد فطيمة وعيسى ما زال مواظباً على حضور بعض الدروس، رغم عمله، ويختار ساعات بعد الدوام من أجل تلقي بعض المعارف وتحسين مستواه في اللغات أكثر.
المشكل أن كل المبادرة غير قانونية
ما تقوم به مدرسة اللاجئين في الهواء الطلق بمدينة تيزي وزو، يعد كله غير قانوني، لأنه لم يحصل على ترخيص من الدولة الجزائرية.
ويقول سفيان زنادي بأن الشباب المتطوع قام بهذه المبادرة الإنسانية، بشكل عفوي، بعيداً عن تعقيدات التنظيم الإداري والقانوني، وحتى مصالح أمن الولاية في أكثر من مرة يضيف "تقوم بحملات مداهمة، وتوجه للشباب استفسارات عن سر تواجدهم بالحديقة مع اللاجئين، وتنذرهم بأن ما يقومون به منافٍ للقانون".
وكانت رئيسة الهلال الأحمر الجزائري، قد أشارت سابقاً إلى أن الدولة الجزائرية قد وفرت ظروف التعليم والصحة للاجئين لكن بشرط الاستقرار في الأماكن المخصصة لذلك.
وذلك بحسب بن حبيلس يدخل في الإطار التنظيمي للدولة، وحماية اللاجئين خاصة الأطفال من الشبكات الإجرامية، والتكفل بمستقبلهم التعليمي إلى حين عودتهم إلى أوطانهم.
وأشارت رئيس الهلال الأحمر الجزائري إلى وجود شبكة إجرامية من نيجيريا تقوم باستغلال الأطفال، وتحويلهم من بلدانهم إلى الجزائر بغرض التسول والعمالة.
ويؤكد سفيان زنادي بأن ما يقوم به المتطوعون ليس تحدياً للقوانين، وإنما مساعدة للاجئين، ومواساتهم في الأوضاع الصعبة التي يعيشونها بعيداً عن أوطانهم الأصلية.
الناشط والحقوقي الجزائري فهيم لصلج يعتبر ما قام به شباب تيزي وزو مثالاً للإنسانية التي تميز الشخصية الجزائرية، وهو ما يجب أن يكون في جميع دول العالم، لاحتواء المهاجرين وتعليمهم، وحمايتهم من أخطار الشارع.
ويقول فيهم في تصريح لـ"عربي بوست" إنه أمام الحرب التي تشنها تقارير المنظمات الدولية حول سوء معاملة الجزائريين، شعباً وحكومة للاجئين الأفارقة، تشرق هذه المبادرة التي تعطي الصورة المثلى للجزائر.
وطالب فهيم من الدولة الجزائرية دعم هذه المبادرات، والتنسيق مع الشباب للتكفل الإيجابي للاجئين، كان يتم التواصل مع المدرسة لإقناع العائلات بالتوجه إلى مراكز اللاجئين، بدل فتح المجال للإعلام والمنظمات الغربية لقصف الجزائر".
وأغلبهم يرحلون ويتركون مدرسة اللاجئين
من الأمور التي جعلت مدرسة اللاجئين غير مستقرة، كون الجزائر مازالت تواصل حملات ترحيلهم إلى بلدانهم، خاصة أولئك القادمين من النيجر ونيجيريا.
والعشرات ممن تعلموا على أيدي المتطوعين بتيزي وزو، ذهبوا من دون رجعة، بعدما قامت السلطات بترحيلهم، وهناك من رحل ولم يحقق حلمه في تحسين أوضاعه التعليمية.
ويؤكد محمدا في حديثه لـ"عربي بوست" بأنه يعرف شاباً في 15 من عمره من النيجر، كان يحلم بتحسين اللغات الأجنبية، والسفر إلى الضفة الأخرى من المتوسط، قبل أن تداهم الشرطة الحديقة قبل ستة أشهر ورحلته رفقة 40 آخرين إلى الصحراء الجزائرية ومن بعدها إلى النيجر.
وما زال الشاب على تواصل معه هاتفياً، ويحلم بالعودة إلى تيزي وزو الجزائرية وتحقيق أمنيته مستقبلاً في تعلم اللغات، خاصة وأن ذلك يتم بشكل مجاني وتطوعي.