"أذكُر آخر مرة ودَّعَناه فيها، جَثا على رُكبتيه مُقبِّلاً رأس والدتنا وأوصاها برَضيعته التي كانت تبلغ من العمر 8 أشهر، قبل أن أشاهد الدموع مُنسابة على خدِّه"، تقول خديجة لـ"عربي بوست"، متابعة: "لو عاد بي الزمان لتوسَّلت أخي الأكبر أو أغلقت عليه باب المنزل ومنعتُه من ركوب أمواج البحر أملاً في الوصول إلى أوروبا".
خلال النصف الأول من العام الجاري (2018)، فقَد أزيد من 1400 شخص حياتهم داخل البحر الأبيض المتوسط وهم يُحاولون الوصول للضفة الأخرى، وفق ما أعلنته المنظمة الدولية للهجرة في تقرير رسمي لها، شقيق خديجة كان واحداً منهم، حيث لقي حتفه بعد غرق القارب المطاطي "زودْياكَ" الذي كان على متنه رفقة شباب آخرين ينحدرون من القرية نفسها بنواحي مدينة العرائش، شمال المغرب.
مُتوجِّهاً صوب الشواطئ الإسبانية انطلاقاً من مدينة طنجة، تاركاً وراءه زوجة وطفلة رضيعة بالإضافة إلى والدته المُقعدة وشقيقته خديجة، كانت إحدى ليالي شهر أبريل/نيسان 2018 آخر عهد الأسرة الصغيرة بابنها البكر محمد علي، تكررت الاتصالات بينهم كل يومين. بعد نحو أسبوع هاتفهم لآخر مرة، مُعلناً أن الليلة الموعودة قد حانت، وأنه سينطلق رفقة بعض رفاق القرية بعد ساعات.
هروب نحو المجهول
14 كيلومتراً هي كل ما يفصِل المغرب عن أقرب شواطئ إسبانيا، ما جعل البحر الأبيض المتوسط مرْتَعاً لمُهرِّبي المهاجرين السريين ممن يَسهرون على تنظيم عشرات الرحلات في اتجاه مدن طريفة ومالطا وجزر صقلية ولامبيدوزا، خاصة خلال شهور فصل الصيف، استغلالاً لهدوء أمواج المتوسطي وصفاء الجو ليلاً.
لم يكن من السَّهل على "عربي بوست" أن يُقنعَ مهاجرين سِريين وغير شرعيين مستقرين في إسبانيا وإيطاليا بالحديث عن تجاربهم، توجُّس كبير وخوف من أن يجُرَّ عليهم الحديث إلى الصحافة مشاكل مع سلطات البلدان المُستقرين بها حديثاً، تنتهي بترحيلهم صوب المغرب.
مثل آلاف الشباب المغاربة ممن ركبوا أمواج البحر الأبيض المتوسط، تمكن هشام (اسم مستعار)، من الوصول لأرض الفردوس الموعودة، قبل سنة ونصف سنة فقط كان يتابع دراسته بجامعة عبد المالك السعدي في مدينة طنجة، قبل أن يلتقي أحد الوسطاء الكثيرين ممن سمَّاهم الشاب "السماسرية"؛ أي السَّماسرة.
يقول هشام متحدثاً بنبرة هادئة لا تشي بأي ندم على المخاطرة التي عرّض نفسه لها في سن الـ22: "كان بودي إكمال دراستي الجامعية، غياب الإمكانيات المادية اللازمة حال دون ذلك، كان يحُزُّ في نفسي أن والدتي ما زالت تمُدُّني بمصروفي وتعمل ليلاً ونهاراً بعد أن توفي الوالد ونحن أطفال، كان من الواجب عليّ أن أعيلها وأعمل على توفير مصاريف دراسة أخي وأختي الأصغر سناً".
المتوسطي.. مقبرة الشباب
لا شك في أن مشاعر الخوف والتَّوجس والقلق على سلامة ابنيهما، لازمت أسرتي الشابَّين، في انتظار رنَّة هاتف تُطمئِن القلوب المضطربة، اتصال لم يرِد قطّ على عائلة محمد علي، فقد مرت أيام وليال طويلة وموجِعة دون معرفة مصير الابن المجهول.
لم تتمالك خديجة نفسها، لتدخل في نوبة بكاء حارق، "ليست ابنتُه فقط اليتيمة، أنا أيضاً شعرت باليتم، فهو من يعيلنا وكان بمثابة الوالد الذي هجرنا منذ 17 سنة، لا يمكنني أن أنسى يوم سمعنا نواح وصراخ جارتنا، خرجت أجري من البيت فإذا بي أجد رجال الدرك الملكي أمام باب بيتنا، أخبرني أحدهم دون مقدمات: (ماذا يقربُ إليك محمد علي.ل، عظم الله أجركم فيه)، لم يكن أخي الوحيد الغارق، ثلاثة من أصدقائه وجيراننا لقوا حتفهم كذلك!".
المغاربة يهربون!
لا يتم العثور على أغلبية جُثث الغرقى من المهاجرين السريين، بعضها فقط من تلفظُه أمواج البحر على جانبي المتوسطي الشمالي والجنوبي بعد ساعات أو أيام من الوفاة غرقاً، تتكرر الصور الواردة من السواحل كلما غرِق مركب أو انقلَب، جثث مُتراصَّة داخل أكياس سميكة بيضاء أو سوداء، قد تضم جثثاً منتفخة كاملة الأطراف أو منقوصة تناولتها الأسماك ومثَّلت بها.
الصور المؤلمة نفسها وأشرطة فيديو انتشرت على شبكات التواصل الاجتماعي مؤخراً، تُظهر إقدام مئات المغاربة على الهجرة نحو أوروبا خلال الأسابيع الأخيرة، حيث عادت الهجرة السرية بقوة إلى الواجهة بواسطة زوارق مطاطية، أو قوارب خشبية مُتهالِكة لا قدرة لها على حمل عشرات الرجال والنساء والمراهقين المُكدَّسين بعضهم على بعض.
لم يجد مهاجرون سريون أية غضاضة في توثيق رحلتهم وسط البحر وإظهار ملامح وجوههم، في حين لاقت صور جثث متحللة غضباً واستهجاناً من طرف نشطاء على شبكات التواصل الاجتماعي ممن أبدوا أسفهم على ما وصل إليه حال المغرب وأبنائه حتى بات الموت في البحر أفضل لديهم من البقاء في بلدهم يعانون الفقر والبطالة، وفق تعبيرهم.
"عليك أن تدرك أنه لا أحد يضع أطفاله في قارب، إلا إذا كان البحر أكثر أماناً من الوطن " 😢😢😢
Gepostet von TanJaWà (+18) am Freitag, 14. September 2018
لم يقتصر الأمر على هذا الحد؛ بل تعداه إلى نشر صفحات على شبكات التواصل الاجتماعي إعلانات عن تنظيم عمليات للهجرة السرية انطلاقاً من بعض الشواطئ بشمال المملكة ودعوة الراغبين في ذلك للتفاعل.
مصدر مسؤول بوزارة الداخلية نبَّه إلى ما سماه "الأهداف الملتبسة والدنيئة للجهات الواقفة وراءها"، مؤكداً فتح تحقيق من طرف السلطات المُختصة لتحديد هويات مروجي هذه النداءات التي تقوم بالتحريض على ارتكاب أفعال تقع تحت طائلة القانون، ومتابعة كل من ثبت تورطه في الموضوع.
حكومة العثماني ردَّت عبر ناطقها الرسمي، مصطفى الخلفي، بالقول إن هناك التقاء بين شبكات تجارة المخدرات وشبكات الاتجار في البشر والهجرة السرية، ما أكده المهاجر غير الشرعي هشام (اسم مستعار) لـ"عربي بوست"، بالقول: "الوسطاء متعددون ومتشعبون، كما أن طرق الوصول لإسبانيا متاحة عبر مهربي المهاجرين السريين أو تجار المخدرات؛ إذ يكفي أن توفر مبلغ 12 ألف درهم (1280 دولاراً أميركياً) ليقبَلوا بتهريبك عبر زورق بطول 9 أمتار يحمل 80 شخصاً!".
انتحار مغلف بالمغامرة
تعدَّدت أسباب إقبال الشباب المغاربة على الهجرة السرية، وإن كانت ليست بالجديدة، وفق الدكتور محسن بنزاكور أستاذ التعليم العالي المختص في علم النَّفس الاجتماعي، موضحاً أنها تبقى أسباباً تقليدية، وعلى رأسها البعد الاقتصادي وأزمة الشغل والبطالة التي تمس أهم مرحلة عمرية وهي الشباب، لافتاً إلى أن المعطلين عن العمل من حاملي جميع أنواع الدبلومات، ومن ضمنهم الأطباء والمهندسون.
الوطن يشيع أبناءه تباعا بالجملة والتقسيط؛ وبلا مراسيم أوطقوس إلى القبر الأبيض المتوسط#خواطر75
Gepostet von Aziz Idir am Freitag, 14. September 2018
ويرى الباحث في علم الاجتماع أن الشباب توَّاقٌ إلى التغيير، وعلى الرغم من معرفتهم أن الأمر أقرب إلى الانتحار، فإنهم يقْدمون على هذه المغامرة الخطيرة التي تودي بحياة العديد منهم، يقول المتحدث لـ"عربي بوست".
أما عن إقدام الشباب على تصوير أنفسهم عبر خاصية البث المباشر على "فيسبوك"، فاعتبر الأستاذ الجامعي أن الهجرة السرية كانت بداية مَعرَّة، إلا أنها اليوم باتت مفخرة، لافتاً إلى أن مفاهيم القيم اهتزَّت حتى بات يُفتخر بأمور لا تَستحقُّ الافتخار.
وأشار المتحدث إلى أن شريحة المهاجرين السريين كانت مقتصرة على مواطني الهامش في القرى والمدن الصغيرة والفقيرة، بالإضافة إلى من لا يمتلك مستوى علمياً أو معرفياً، أما اليوم فالأمر سيان وأصبحت النساء تهاجرن كما الرجال، وتضم مجموعات المهاجرين المتعلمين ومن سواهم.
Gepostet von شباب الهجرة السرية am Sonntag, 27. August 2017
المختص في علم النَّفس الاجتماعي لم يُحمِّل هؤلاء المهاجرين مسؤولية هروبهم وعدم صمودهم، موضحاً أنهم نتاج سياسات اقتصادية واجتماعية معينة، وضحايا مجتمع لم يحتضنهم ولم يوفر لهم الأسباب المواتية للإنتاج على الرغم من مجهوداتهم في التعلم وتطوير مهاراتهم، موجهاً كلامه للمسؤولين بكون ما يحدث ناقوس خطر للتنبيه على أن شيئاً ما يَعتمِل داخل المجتمع إن لم يتحرَّكوا.
5 أشهر مرت على غرق محمد علي، ما زالت أسرته تبكيه، في حين تتوجه خديجة كل يوم جمعة لتقرأ على قبره سورة الفاتحة، في وقت يرقد آلاف الشباب الحالمين بغد أفضل في قعر البحر الأبيض المتوسط، الذي أصبح مقبرة دون شواهد ولا أسماء.