استبعدت صحيفة The Wall Street Journal الأميركية أن تنفذ السعودية أحكام الإعدام التي طالبت بها النيابة بحق رجال دين سعوديين، على رأسهم الدكتور سلمان العودة، وقالت إنها رسائل تود السعودية إرسالها أكثر منها أفعالاً ستنفَّذ.
وكان ولي العهد الأمير محمد بن سلمان ووالده الملك سلمان قد اعتقلا ناشطين ورجال أعمال ومسؤولين حكوميين ضمن جهودهما الرامية لإعادة تشكيل المجتمع والاقتصاد السعودي. بيد أنَّ رجال الدين السعوديين لطالما كانوا سلطةً مستقلة بذاتها، في ظل الشهرة والتأثير اللذين يحظون بهما أكثر من الآخرين الذين اعتقلوا أيضاً ضمن حملات الاعتقال الأخيرة.
لرجال الدين المعتقلين مكانة كبرى في المجتمع السعودي
ويحتل رجال الدين المعتقلون مكانةً كبرى بين أشهر الشخصيات الدينية الإسلامية السّنّية، وهم: سلمان العودة، الذي يتابعه أكثر من 14 مليوناً على موقع تويتر، وعوض القرني، صاحب المؤلفات العديدة في الشريعة الإسلامية، وعلي العمري، وهو رجل دين يقدم برامج دعوية تلفزيونية.
يُذكَر أنَّهم اعتقلوا في العام الماضي 2017 ضمن حملة اعتقالات ضد الأئمة الذين لهم أتباع كثيرون؛ لعدم إعلان دعمهم حملة الضغط التي تشنها الحكومة ضد قطر، حسبما ذكرت صحيفة The Wall Street Journal الأميركية نقلاً عن ناشطين حقوقيين.
ويحاكم هؤلاء الدعاة الآن في محكمة تتولى النظر في قضايا الأمن الوطني، بتهمٍ تتضمن التآمر ضد ولاة الأمر، ودعم الإرهاب، وتطالب النيابة بتطبيق عقوبة الموت تعزيراً عليهم، حسبما قال أقرباؤهم والناشطون والمسؤول الحكومي.
وقال مسؤول سعودي بارز، إن رجال الدين "يخضعون للتحقيق بتهمة تشكيل خطرٍ على المجتمع؛ لأنهم ينتمون إلى منظمات إرهابية"، مضيفاً أنَّ النيابة السعودية والقضاة السعوديين مستقلون، وأنَّ ولي العهد لم يُسهم بأي دورٍ في الحكم أو العقوبة، في حال حُكم عليهم من الأساس.
وأضاف: "لا يُحاكم أي شخص في السعودية بسبب آرائه السياسية؛ إذ إن الاعتقالات التي طالت هؤلاء الأفراد وآخرين تأتي تماشياً مع حرص المملكة والمجتمع الدولي على بذل الجهود لمجابهة التطرف الذي يعانيه العالم، ومجابهة الإرهاب في جميع أشكاله".
ونفى المسؤول الحكومي أن يكون هؤلاء الرجال اعتُقلوا في الأساس بسبب آرائهم بشأن قطر. وقال إن لديهم الحق في توكيل محامين، والطعن على أي حكم.
أخطر تحركات بن سلمان
تبدو هذه المحاكمات أخطر التحركات ضمن الجهود التي يضطلع بها الأمير محمد بن سلمان، البالغ من العمر 33 عاماً، لتعزيز سلطاته منذ يونيو/حزيران 2017، عندما عزل أحد أفراد العائلة الملكية كي يصبح ولياً للعهد بدلاً منه.
ظل آل سعود الأسرة الحاكمة للبلاد على مرِّ أكثر من 8 عقود عبر تحالف مع أئمة ملتزمين بالوهابية. ووفَّرت هذه الشراكة استقراراً كبيراً في القيادة، ونتج عنها واحدٌ من أكثر المجتمعات الدينية مُحافظةً في العالم؛ حيث يحظى رجال الدين بقدرة كبيرة على التأثير في الرأي العام.
وقال علي الشهابي، مؤسِّس المؤسسة العربية البحثية التي غالباً ما تدعم الحكومة السعودية ويقع مقرها في العاصمة الأميركية واشنطن، إنَّ الأمير محمد يُخطِر رجال الدين عبر هذه المحاكمات بأنَّ "القواعد قد تغيرت الآن".
وشكَّك الشهابي في احتمالية استمرار الحكومة في إجراءات المحاكمة وإعدام رجال الدين، قائلاً: "إنَّها رسالةٌ أكثر من كونها إعداماً سيُنفَّذ بالفعل".
التهم التي وُجهت للعودة هي "عبثية" كما وصفها نجله
ويواجه العودة 37 تهمةٍ بجرائمٍ مزعومةٍ تتضمن نشر الفتنة والتحريض ضد ولاة الأمر، ونشاطه مع جماعة الإخوان المسلمين، حسبما قال ابنه. بينما استشهد المسؤول السعودي بوظيفة العودة في الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، الذي قال إنَّه مرتبطٌ بتنظيم القاعدة وجماعة الإخوان المسلمين.
ووصف ابنه عبدالله العودة، وهو زميل بارز في جامعة جورجتاون، الاتهامات بـ "العبثية"، وقال: "لا تحكمهم أي قواعد، لقد كسروا جميع أعراف السلطة والدين والسياسة والثقافة وكل شيء في البلاد؛ لذا لا نعرف حقاً ما الذي سيحدث بعد ذلك".
لم يؤيد رجال الدين الأمير محمد على الدوام في سعيه لإجراء سلسلة من التغيرات التي تسمح للنساء بالقيادة، واستحداث سياسة خارجية أكثر ميلاً إلى العنف، والسعي لتنويع مصادر الاقتصاد المعتمد على النفط بجعل السعودية أكثر جذباً للاستثمارات الأجنبية والسياحة.
وقد سعى أيضاً لتحويل السعودية -التي تضم أقدس مدينتين إسلاميتين: مكة والمدينة- إلى مركزٍ لإسلامٍ أكثر وسطية.
أحد أهداف المحاكمات هو إعادة تشكيل المملكة
وترى الصحيفة الأميركية أن جزءاً من مساعي السلطات السعودية يهدف إلى إعادة تشكيل البلاد عبر المحاكمات؛ إذ تطلب النيابة تطبيق عقوبة الإعدام على عديد من النشطاء الذين قادوا حملة للدفاع عن حقوق الأقلية الشيعية المسلمة. واعتقُلِت حقوقيات قُدن حملة للدفاع عن حق المرأة في القيادة والحريات الأخرى. في الوقت الذي ما زال فيه عشرات من رجال الأعمال والمسؤولين الحكوميين محتجزين بتهم غير معلنة بعد 10 أشهر من بدء حملة الاعتقالات الرامية إلى مكافحة الفساد في المملكة.
قال جيم كرين، وهو زميل في قسم الشرق الأوسط بمعهد بيكر التابع لجامعة رايس: "نظراً إلى أن محمد بن سلمان يمكن أن يحكم البلاد لـ50 عاماً، ثمة أسباب قوية لتنفيذ التغيرات الأكثر إثارة للجدل الآن، قبل أن يُنصَّب على العرش ويتوجب عليه حينئذٍ تحمُّل كامل اللوم".
كان العودة، البالغ من العمر 61 عاماً، إسلامياً متشدداً قاد حركة "الصحوة الإسلامية" المناهضة للنظام الملكي في التسعينيات من القرن الماضي، التي انتقدت قرار السعودية بالسماح بدخول الجيش الأميركي إلى البلاد لحمايتها من غزو عراقي محتمل. وسُجِن العودة لمدة 5 سنوات آنذاك، ثم تبنَّى رؤى أكثر اعتدالاً بعد إطلاق سراحه ليصبح مدافعاً عن الإصلاحات الاجتماعية والسياسية.
الاتهامات التي وُجهت للدعاة كانت بأثر رجعي
وقال بعض الناشطين وأقرباء رجال الدين إنَّهم اتُّهِموا بأثر رجعي لانتمائهم إلى منظمات لم تكن ممنوعة وقت اعتقالهم.
وقال عبدالله العودة إنَّ أباه اتُّهم بالانتماء إلى الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، الذي لم تعتبره السلطات السعودية منظمة إرهابية حتى نوفمبر/تشرين الثاني، أي بعد اعتقاله بشهرين.
وقال ناشطون حقوقيون إنَّ العمري يواجه 30 تهمةً تتعلق بالإرهاب، من بينها تشكيل منظمة شبابية إرهابية. ولم تتمكن صحيفة The Wall Street Journal من التواصل مع عائلة العمري أو محاميه من أجل التعليق على الأمر.
وقال ناشطون إنَّ عوض القرني متهم بدعم الإخوان المسلمين وجماعات أخرى في السعودية مصنفة ضمن التنظيمات الإرهابية. وهو متهمٌ كذلك بإثارة الفتن بين الناس، والتآمر ضد ولاة الأمر في المملكة، والتعاطف مع معتقلين في قضايا أمنية.
احتجاجات على طريقة التعامل مع الأئمة
واحتجَّت جماعات حقوقية على طريقة التعامل مع الأئمة؛ إذ قال آدم كوغل، وهو باحث في شؤون الشرق الأوسط بمنظمة هيومن رايتس ووتش: "جميع الإجراءات السعودية المزعومة لمواجهة التطرف تُتَّخذ من أجل الاستعراض فقط ما دامت تلك الإجراءات تقتصر على اعتقال الأشخاص بسبب آرائهم السياسية".
جديرٌ بالذكر أنَّ ما لا يقل عن 15 شخصاً سعودياً آخر اعتُقِلوا في نفس حملة الاعتقالات التي طالت الأئمة الثلاثة، يُحاكمون في قضايا من اختصاص المحكمة الجزائية المتخصصة، التي تنظر قضايا الأمن القومي والإرهاب.
ويقول الناشطون الحقوقيون والمسؤول السعودي إنَّ النيابة العامة تطالب بتطبيق عقوبات تصل إلى السجن لـ20 عاماً، ودفع غرامات تتجاوز 100 مليون دولار.