مع إعلان الرئيس السوداني عمر البشير إجراءاتِ تقشُّفٍ شديدة، والتغيير الوزاري الكبير الثاني في حكومته على مدار أربعة شهور، فإنَّ الأوضاع في السودان تتجه للأصعب.
وتشمل "الاستراتيجية الاقتصادية الجديدة" التي أعلنها البشير يوم الإثنين 10 سبتمبر/أيلول، تخفيض الإنفاق الفيدرالي والإنفاق الحكومي على مستوى الولايات بنسبة 34٪، وتخفيض عدد الوزارات الحكومية من 31 إلى 21، وتخفيض حجم المجلس الرئاسي وإعادة هيكلة الحكومة على مستوى الولايات. حسبما نقل موقع Middle East Eye البريطاني
البشير تعهَّدَ أيضاً بالتعامل مع الفساد وإصلاح الاقتصاد الوطني، ووَعَدَ بالمزيد من الدعم للطبقات الأفقر، وزيادة الإنتاجية والعائدات، وتمويل المخططات الزراعية.
اعترف في خطابٍ متلفز أنَّ الظروف الاقتصادية العسيرة للبلاد قد أجبرته على اتخاذ إجراءات.
قال: "أود أن أشكر جميع شعبنا لتفهمهم العميق للموقف الاقتصادي الصعب الذي نواجهه، الذي حمانا من الاضطرابات الاجتماعية أو الفوضى". وأضاف: "اليوم نطلق هذه المبادرة الوطنية الجديدة لتحقيق الاستقرار وإصلاح اقتصادنا من خلال تخفيض النفقات ومحاربة الفساد، وزيادة الإنتاجية، ودعم المشروعات التنموية وخلق بيئة مُحفِّزة للاستثمارات المحلية والأجنبية".
لكن هذه السياسات يراها المواطنين ستدفع بالبلاد إلى ظروف أشد صعوبة
عبد الوهاب أحمد واحدٌ من مئات العمال في مصنعٍ للطوب في حي الجريف بالخرطوم. الأزمة الاقتصادية العصيبة جعلته ومعه أصحاب الوظائف الثابتة يكافحون من أجل البقاء، وقال عبد الوهاب: "بعض الناس لا يستطيعون إرسال أطفالهم إلى المدرسة. والبعض يأكل وجبةً واحدة في اليوم".
عبد الوهاب أضاف: "هذه التغييرات السياسية ليس لها أيُّ علاقةٍ بنا. منذ بداية العام والأمور تسوء والحياة أصبحت مستحيلة فعلاً لأنَّ أسعار كلِّ شيء ارتفعت بشكلٍ صارخ في الأسواق المحلية".
ويعد مجلس الوزراء الجديد هذا رابع تغيير وزاري للبشير منذ الانتخابات العامة الماضية عام 2015. تضمَّن جزءٌ من هذه الوزارة ترقية وزير الكهرباء والمياه السابق معتز موسى عبد الله إلى منصب رئيس وزراء، ليحل محل بكري حسن صالح، الذي احتفظ بمنصب النائب الأول للرئيس.
وكانت الحكومة السابقة قد عُينت في شهر مايو/أيار فحسب، بعد أن أقال البشير وزير الخارجية إبراهيم غندور، بعد اعتراف الأخير أمام البرلمان بأن وزارته قد نفدت أموالها.
وشملت التغييرات الأخرى، التي أُعلِنَت يوم الخميس 13 سبتمبر/أيلول، تعيين أحمد بلال عثمان وزيراً للداخلية، وعبد الله حمدوك وزيراً للمالية.
وممن ترقوا أيضاً محمد عثمان كبير، محافظ ولاية شمال دارفور، الذي حل محل حسبو عبد الرحمن في منصب نائب الرئيس.
بالإضافة إلى تخطيط معارضين للتظاهر ضد التغيير الحكومي الجديد في السودان
"نداء السودان"، وهو تحالف المعارضة الرئيسي في البلاد، قد رفض هذه التغييرات باعتبارها بلا معنى، وقال إنَّ البشير ببساطة يدير المناصب على حزب المؤتمر الوطني الحاكم.
وتعهَّد نداء السودان، في بيانٍ له يوم الثلاثاء 11 سبتمبر/أيلول، بالخروج في مظاهراتٍ معارضة لحكم البشير الذي استمر قرابة 30 عاماً.
وأضاف البيان: "إنَّ هذا التناوب للمناصب الحكومية بين قادة حزب المؤتمر الوطني أمرٌ بائس، ونحن نخطط لمظاهراتٍ واسعة لإسقاط النظام وإيقاف جوع شعبنا".
وكانت السودان قد تحمَّلَت ظروفاً اقتصادية بائسة خلال الأشهر الأخيرة على الرغم من آمال العام الماضي بأنَّ رفع العقوبات الأميركية المفروضة منذ عام 1997 سوف يُعزِّز من حظوظ البلاد.
وقد أصبحت الطوابير الطويلة للحصول على الخبز والوقود وغاز الطهي وأجهزة الصراف الآلي (ATM) مشهداً مألوفاً في الخرطوم وولايات أخرى من بداية العام الحالي، بينما شهدت البلاد أيضاً مظاهراتٍ متفرقة احتجاجاً على ارتفاع تكاليف المعيشة.
أحد العوامل في ذلك رفع الدعم عن الكثير من السلع الأساسية بما في ذلك الوقود والخبز انصياعاً لتوصيات صندوق النقد الدولي لإحياء الاقتصاد المُترنِّح منذ انفصال جنوب السودان عام 2011 وخسارة السودان معظم حقولها النفطية.
وخفضت السودان قيمة عملتها مرتين خلال العام الجاري، مع وصول التضخم إلى 64٪ في شهر يوليو/تموز، مقارنةً بـ25٪ في شهر ديسمبر/كانون الأول 2017.
البعض يرى أن التغيير الجديد ما هو إلا إضاعة للوقت من جانب البشير
ومع تلقي البشير الدعم من حزبه لخوض الانتخابات لفترة رئاسية ثالثة، والمقرر عقدها عام 2020، على الرغم من الحد الدستوري بفترتين رئاسيتين فحسب، فإنَّ البعض يقولون إنَّ صبر الحزب على الرجل الذي قاد البلاد منذ استيلائه على السلطة في انقلاب عسكري عام 1989، على وشك النفاد.
وقال مصطفى عبد العظيم، حارس أمن في الخرطوم، لموقع Middle East Eye: "يريد الرئيس البشير شراء وقت فحسب، ليصل إلى الانتخابات المقبلة بأمانٍ دون أيِّ سخطٍ أو توتُّرٍ اجتماعي بسبب معاناة الشعب".
لكنَّ آخرين رحَّبوا بهذه التخفيضات في حجم الحكومة، وحذَّروا معارضي البشير من التحرُّك الذي من شأنه زعزعة استقرار البلاد.
إذ قال علاء الدين علي، سائق تاكسي، لموقع Middle East Eye: "لو نظرت إلى البلدان الأخرى في المنطقة، فنحن أفضل حالاً ونحن على الأقل بلد مستقر".
وقال علاء الدين: "نحن بحاجةٍ إلى الصبر لنرى نتائج التدابير الحالية. لقد طالبنا منذ وقتٍ طويلٍ بخفض الإنفاق الحكومي بالاقتران مع خفض الدعم، والآن استجابت الحكومة بشكلٍ إيجابي لنا بصفتنا مواطنين".
وينقسم المُحلِّلون الاقتصاديون هم أيضاً حول حزمة إصلاح البشير.
إذ قال محمد الناير، وهو اقتصادي يشغل مناصب في عددٍ من الجامعات السودانية، لموقع Middle East Eye: "هذه خطوةٌ في الاتجاه الصحيح، تثبت أنَّ الحكومة جادةٌ هذه المرة في التغلُّب على الأزمة الاقتصادية".
لكنه أضاف: "هذه الإجراءات لا تزال بحاجةٍ لخطواتٍ تكميلية أخرى مثل تخفيض عدد أعضاء البرلمان، وإيقاف الحرب (في ولايات دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق، حيث تنخرط القوات الحكومية السودانية في صراعاتٍ مستمرة مع جماعات مُتمرِّدة) وتقليل الإنفاق الدفاعي والأمني، من بين إجراءاتٍ أخرى".
ولحل الأزمة الحالية، يطالب الخبراء بضرورة إجراء إصلاحات جذرية في البلاد
حامد التيجاني، اقتصادي بالجامعة الأميركية بالقاهرة، طالَبَ بإصلاحٍ أكثر جذرية وشمولاً للاقتصاد السوداني يركز على زيادة الإنتاجية.
ودعا الحكومة لإحياء مشاريع التنمية واسعة النطاق المتوقفة منذ مخطط الجزيرة، وهو مشروع يقترب عمره من قرن دعمه البنك الدولي في السابق، ويقضي باستخدام مياه النيل الأزرق لري الأراضي الزراعية في ولاية الجزيرة، فضلاً عن الاستثمار في قطاع المواصلات.
وقال التيجاني أيضاً إنَّ الحكومة بحاجة إلى بذل المزيد لإقناع المجتمع الدولي بإسقاط حوالي 50 مليار دولار من الديون الخارجية للسودان، وقال إنَّ الفوائد المتوقعة من رفع العقوبات الأميركية لم تتحقق بعد.
لكنَّ التيجاني قال لموقع Middle East Eye إنَّ جذور المشكلات الاقتصادية للسودان سياسيةٌ بشكلٍ كبير، وإنَّ حكم البشير المستمر هو العقبة الأساسية أمام حلِّ هذه المشكلات.
وقد جاءت إعادة ترشيح الحزب الحاكم للبشير، الشهر الماضي أغسطس/آب، على الرغم من حد الفترتين الرئاسيتين الذي يفرضه الدستور السوداني الحالي. وكان البشير قد فاز بأغلبيات ساحقة في انتخابات 2010 و2015 لكنَّ كلا التصويتين شابهما انخفاض نسبة الإقبال على التصويت، ومقاطعة أحزاب المعارضة وانتقادات المراقبين الدوليين.
بالإضافة إلى ضرورة التعامل بجدية مع ملف الفساد داخل الحكومة
ومع ذلك، فقد أظهرت حكومة البشير بعض الجدية في متابعة حملة محاربة الفساد التي بدأتها منذ عدة شهور قليلة تحت شعار "محاربة القطط السمان".
إذ حكمت محكمة أمن الدولة، يوم الأربعاء 12 سبتمبر/أيلول، على عبد الغفار الشريف، الرئيس السابق لقسم الأمن السياسي بجهاز الأمن والمخابرات الوطني بـ7 سنوات في السجن بتهم الفساد وغسيل الأموال وسوء استغلال السلطة.
وأعلن المركز السوداني للخدمات الصحفية، المُقرَّب من جهاز المخابرات السودانية، إلقاء القبض على 7 أشخاص منهم مصرفيون ورجال أعمال بجرائم غسيل أموال مزعومة.
لكنَّ الناير دعا الحكومة لتكوين لجنة لمكافحة الفساد لتنفيذ الحملة بشكلٍ أكثر شفافية ولضمان اتباع الإجراءات القانونية الواجبة.
وقلَّلَ التيجاني من أهمية هذه الاعتقالات قائلاً: "إنها جزءٌ من الصراع الداخلي في الحزب الحاكم حول ترشح البشير".
كان رئيس الوزراء السوداني الجديد معتز موسى صرح، الأربعاء الماضي، إن أعلى سلم أولويات حكومته هو برنامج الإصلاح الاقتصادي، لمعالجة اختلال الاقتصاد الكلي بما فيه التضخم وسعر الصرف.
وأوضح أن "برنامج الإصلاح الاقتصادي في الفترة القادمة يهدف إلى الوصول لمعدلات نمو عالية ومستدامة في ظل استقرار اقتصادي شامل".
وبسبب الأوضاع الاقتصادية في البلاد قالت وكالة السودان للأنباء اليوم السبت إن عبد الله حمدوك الأمين التنفيذي السابق للجنة الاقتصادية لإفريقيا التابعة للأمم المتحدة أعلن اعتذاره عن عدم قبول تكليفه بمنصب وزير المالية.
وكان الرئيس السوداني عمر البشير عين رئيساً جديداً للوزراء الأسبوع الماضي وقال إنه سيخفض عدد الوزراء في الحكومة الجديدة بواقع الثلث لخفض الإنفاق الحكومي في الوقت الذي يصارع فيه الاقتصاد ارتفاع التضخم ونقصاً حاداً في العملة الصعبة.
وشهد السودان، في الأشهر الأخيرة، أزمات متفاوتة في الخبز والطحين والوقود وغاز الطهي، إضافة إلى عدم توفر السيولة النقدية وارتفاع سعر الدولار مقابل الجنيه في الأسواق الموازية (غير الرسمية) إلى أرقام قياسية تجاوزت أحياناً 47 جنيهاً مقابل الدولار الواحد.
ويعاني السودان من مصاعب اقتصادية، منذ انفصال جنوب السودان عنه، في يوليو/تموز 2011؛ بسبب فقدان الخرطوم 75 بالمائة من مواردها النفطية، ما أدى إلى انخفاض الإيرادات العامة، في ظل محدودية الصادرات غير النفطية.