تناول ستيفن كوك، الزميل البارز في مجلس العلاقات الخارجية الأميركية والمتخصصٌ بشؤون الشرق الأوسط وإفريقيا، الدور الاقتصادي للصين في منطقة الشرق الأوسط وقال في مقالة له إن السماح للشباب الصيني بإتقان اللغة العربية، في الفترات الأخيرة، يرسخ لاستثمار الصين طويل الأجل في بناء دورها الإقليمي.
إذ فهم قادة الصين آنذاك أنَّهم سيحتاجون في وقتٍ ما إلى تأثيرٍ أكبر بالمنطقة، في أواخر التسعينيات حيث بدت تلك الفكرة معقولة، لكنَّها كانت بعيدة المنال، حسبما قال ستيفن كوك في مقالته التي نشرتها مجلة Foreign Policy الأميركية.
واسترجع الكاتب الأميركي واقعة مرَّ بها في القاهرة، ذات دلالة على الاهتمام الصيني بالمنطقة، حين كان في زيارة أكاديمية، وقال: "منذ نحو عقدين، ذهبت لتناول العشاء في مطعمٍ يدعى بكين بحي الزمالك في العاصمة المصرية القاهرة، للاحتفال برأس السنة الصينية. وفي أثناء حفل العشاء، الذي أظنه كان صاخباً حسبما أتذكر، طُلِب من الحشد في المطعم الصمت؛ بسبب وصول ضيف خاص. وكان الضيف هو سفير الصين لدى مصر، الذي بدأ إلقاء كلمته بصحبة شابة صينية كانت تترجم حديثه دون عناء من لغة الماندرين إلى لغة عربية فصحى مُتقَنة. وكان رفاقي في العشاء مجموعةً من طلاب الدراسات العليا الأميركيين والمصريين وذوي الأصول الأميركية-المصرية، وكانوا مبهورين بمهارات المترجمة؛ إذ لا يستطيع سوى قلة من الأميركيين إتقان هذه المهارة. ثم استأنفنا الاحتفال بعام الأرنب".
الصين ليست بديلاً عن أميركا حتى الآن
ستيفن كوك كتب أنهم، حين كانت الصين تُذكَر في أي محادثةٍ مع المسؤولين المصريين، كانوا غالباً ما يقولون: "الصين ليست بديلاً عن الولايات المتحدة"، ثم يصمتون برهةً قبل أن يضيفوا بابتسامةٍ متكلفة: "حتى الآن".
فهل وصلنا حالياً إلى تلك اللحظة؟ في 10 يوليو/تموز 2018، افتتح الرئيس الصيني، شي جين بينغ، الاجتماع الوزاري الثامن لمنتدى التعاون الصيني-العربي بخطابٍ طويلٍ مثير حول التكاتف والتعاون والحلول "المُربحة لجميع الأطراف" بين بكين والعالم العربي.
وبعد ذلك ببضعة أسابيع، سافر شي جين بينغ إلى أبوظبي، في زيارةٍ -استمرت 3 أيام- لدولة الإمارات العربية المتحدة، وهي أول زيارةٍ يُجريها قادةٌ صينيون إلى الإمارات منذ نحو 3 عقود، وأبرم مجموعةً من الاتفاقيات، معظمها اقتصادية.
ويأتي اجتماع المنتدى وزيارة "شي"، في وقتٍ يحظى فيه الشرق الأوسط وعدة مناطق أخرى بكثيرٍ من الاهتمام في مبادرة الحزام والطريق التي أطلقها الرئيس الصيني، وتُمثِّل خطةً غير متبلورة تهدف إلى وضع الصين في مركز الحوكمة العالمية، والعمل عكس مسار السلع والخدمات والأفكار التي جعلت الغرب القوة الأساسية على مرِّ القرون القليلة الماضية.
لكنها بالاقتصاد،تعتبر الصين طرف مؤثر في منطقة الشرق الأوسط
إذا كنتم تؤمنون بمذهب الحتمية الاقتصادية، فالصين أصبحت بالفعل طرفاً مؤثراً في الشرق الأوسط، لكنَّ توسيع نطاق التحليل والخطط الصينية الكبرى اقتصر على الساحة العربية الجميلة.
لا شكَّ في أنَّ الصين لديها كفاءة في إدارة الشؤون الاقتصادية، وهي قادرةٌ على أن تكون ذات أهمية كبيرة للشرق الأوسط.
ففي الخطاب الذي ألقاه الرئيس الصيني بالعاصمة الصينية بكين في يوليو/تموز 2018، أمام نحو 300 حاضر، من بينهم أحد رؤساء الدول العربية ومجموعةٌ من وزراء خارجية دول الشرق الأوسط، تعهَّد بتقديم قروضٍ بقيمة 20 مليار دولار للمنطقة، بالإضافة إلى مساعدات بقيمة نحو 90 مليون دولار لسوريا واليمن والأردن ولبنان من أجل الإعمار ورعاية النازحين، ومليار دولار أخرى للعالم العربي لبناء "الاستقرار الاجتماعي".
ويأتي ذلك على رأس استثمارات صينية كبرى في مصر والمملكة السعودية العربية والإمارات العربية المتحدة، حيث يُعاد تصدير نحو 60% من صادرات الصين إلى إفريقيا والشرق الأوسط وأوروبا.
واستهدفت الصين كذلك تركيا والسعودية؛ باعتبارهما منطقتين رئيسيتين في مسار مبادرة الحزام والطريق، الذي سيمر عبر البحر الأبيض المتوسط والخليج على التوالي.
لذلك اعتبر البعض التغول الصيني استعماراً جديداً
قُوبلت محاولات التوسُّع الصيني في جنوب شرقي آسيا وإفريقيا بردِّ فعل حادٍّ، ووُصِفَت بأنها "استعمارٌ جديد"، لكنَّ ردود الفعل الحادة كانت أقل في العالم العربي، ولم يُبدِ المسؤولون هناك أي رد فعل حاد بالتأكيد.
ففي أوائل العقد الأول من القرن الحالي وأوسطه، كان بعض المسؤولين الدبلوماسيين المصريين يتحدَّثون بنبرةٍ حالمة عن الصين، ولم يكن ذلك مفاجئاً.
إذ نجح الحزب الشيوعي الصيني آنذاك في حل لغزٍ فشل فيه الحزب الوطني الديمقراطي بمصر؛ ألا وهو كيفية تحقيق نمو اقتصادي على المدى الطويل دون تعكير صفو التماسك الاجتماعي، والحفاظ على قوة الحزب.
وفي الآونة الأخيرة، أشار مسؤولٌ بارز في إحدى الدول الخليجية إلى أنَّ الاستقطاب السياسي الذي تنتهجه أميركا جعلها شريكاً غير جدير بالثقة؛ بل ومحفوفاً بالمخاطر، في سعي العالم العربي للتنمية الاقتصادية، وقال: "لو كنتم مكاننا، لبنيتم مستقبلكم الاقتصادي على الشراكة مع الصين".
يمكن للصينيين جلب الكثير من الموارد لتحقيق ما يسمونه التعاون "المربح لجميع الأطراف" في الشرق الأوسط.
فالموانئ والمطارات و"المراكز" اللوجيستية والمناطق الاقتصادية الجديدة التي ما زالت قيد التخطيط أو الإنشاء ستعود بالفائدة على هذه الدول (ما لم تكن مُثقلةً بديون هائلة، مثل عددٍ من الدول المرتبطة ببكين في إفريقيا)، في حين تحظى الصين بفوائد البنية التحتية الجديدة وموارد الطاقة الغزيرة في المنطقة، التي من شأنها تسهيل التنمية الصينية المستمرة.
ومع ذلك، ومثلما تستنتج عدة تقارير وتحليلات، فإن استنتاج أنَّ استثمار الصين المالي في الشرق الأوسط يعني أنَّ بكين ستصبح لاعباً جيواستراتيجياً في المنطقة، قد يكون استنتاجاً استشرافياً حتى بالنسبة للصينيين أنفسهم.
وبالطبع، هناك سابقة تاريخية لهذا التطور: فأحد أهداف الاحتلال البريطاني لمصر كان جمع الديون التي كان الخديوي إسماعيل يدين بها للبنوك الأوروبية.
ومع ذلك لا يعبأون بالبحث عن موطئ قدم سياسياً
ومع ذلك، يبدو أنَّ الصينيين أكثر اهتماماً بالنهج التجاري الانتهازي من أن يصبحوا حلاً للمشاكل السياسية وموفِّراً للأمن الإقليمي.
فإلقاء نظرة فاحصة على خطاب الرئيس الصيني في يوليو/تموز 2018، أو بيان سياسة الصين بشأن الشرق الأوسط الذي صدر في عام 2016- يكشف عن مناقشة مُفصَّلة بشأن طريقة الدولة في إدارة شؤون الاقتصاد، ولكنَّهما شبه خاليَين من أي بندٍ يخص السياسة والدبلوماسية والأمن بالمنطقة.
وفي ضوء هذين البيانين الرسميَّين، كانت الجهود الصينية بهذه المجالات فاترة، حتى في أحسن حالاتها؛ إذ أعلنت الصين دعمها حل الدولتين للنزاع الفلسطيني-الإسرائيلي، وقاومت الجهود الأميركية لوقف صادرات النفط الإيرانية، وهو أمرٌ متوقع في ضوء كمية الطاقة التي تستوردها بكين من طهران، وأعلنت معارضتها التطرف والإرهاب.
وثمة فرضية منطقية معينة تقول إنَّ الصين ستضطر إلى التدخُّل في الأمن والسياسة بالشرق الأوسط في ظل اعتمادها على النفط والغاز بالمنطقة.
ولكن، ما الذي فعله الصينيون بالفعل؟ استضافوا وفوداً منخفضة المستوى من الفلسطينيين والإسرائيليين ببكين في العام الماضي (2017)، مكررين دعمهم حل الدولتين على أساس حدود عام 1967، وجعل القدس الشرقية عاصمةً لدولة فلسطينية، وهي نقطة بداية محكوم عليها بالفشل.
وللصين استثمارات بإفريقيا، وقاعدة بَحرية في جيبوتي تتميز بموقعٍ استراتيجي؛ إذ تقع في مضيق باب المندب حيث يلتقي البحر الأحمر مع خليج عدن، واستخدمت سفنها الحربية موانئ في بعض مناطق الشرق الأوسط.
ربما تسفر هذه الأنشطة عن دورٍ أنشط بالمستقبل، ولكن في الوقت الراهن، ليس من الواضح حتى، أنَّ الصينيين يملكون الموارد العسكرية اللازمة لوجودٍ مستدامٍ في المنطقة.
ويبدو أن استجابة بكين فيما يخص محاربة التطرف تتلخَّص في جمع الإيغور الأصليين بمعسكرات إعادة التأهيل، وهي قضيةٌ ظلَّت حكومات الشرق الأوسط صامتة بشأنها.
لا يتوقَّع أحدٌ في الشرق الأوسط أن يضطلع الصينيون بدور توفير الأمن، فهذا ما تقوم به الولايات المتحدة، والصينيون سعداء للغاية بالاستفادة من ذلك.
وفي حين أظهرت واشنطن استعداداً محدوداً للانخراط عسكرياً بالمنطقة، تُوجِّه بلدان الشرق الأوسط أنظارها إلى موسكو، أو تأخذ على عاتقها مهمة تأمين مصالحها في سوريا واليمن.