حددت الجزائر مصدر وباء الكوليرا الذي اجتاح البلاد منذ مطلع شهر أغسطس/آب الماضي، وتسبب في هلاك شخصين والاشتباه في حالة 200 مريض، فيما تم التأكد من 139 حالة في 6 ولايات في أسوأ موجة لوباء "العصور الوسطى" تعرفها البلاد منذ نحو 25 سنة.
وقالت وزارة الصحة الجزائرية، في بيان نُشر يوم 5/9/2018، إن وباء الكوليرا حدد مصدره بوادي بني عزة بولاية البليدة (50 كلم جنوبي العاصمة) التي سجل فيها انتشار الوباء بكثرة، وشهدت مستشفياتها حالة من الطوارئ القصوى.
وقد انتشر فيروس الكوليرا، بحسب البيان، على مجاري الوادي في عدة نقاط من الولاية، بالإضافة إلى مجرى الوادي المحاذي لملعب (تشاكر) الذي يحتضن عادة مباريات المنتخب الأول لكرة القدم، لافتة إلى أن مجرى الوادي يصب في وادي مزفران بغرب الجزائر العاصمة ويستغل للشرب والسقي الزراعي.
هذا وقد أعلن مستشفى بوفاريك بولاية (محافظة) البليدة عن مغادرة آخر المصابين بالكوليرا يوم الجمعة 7/09/2018، ومن ثم التطويق النهائي للوباء، بعدما تم اكتشاف مصدره.
ارتباك حكومي
غير أن هذه التأكيدات لوزارة الصحة لم تطمئن الجزائريين خصوصاً مع توالي أنباء عن الاشتباه في حالات جديدة آخرها يوم الإثنين 10/09/2018 بالجزائر العاصمة، وفي ظل تخبط الوزارة وارتباك مختلف أجهزة الدولة في تحديد مصدر "المتهم المجهول" الذي اجتاح بسرعة البرق ست ولايات بعضها كبيرة كالجزائر العاصمة والبليدة، ما أدخل البلاد في دوامة وحالة من الترقب قدمت فيها الشائعات نفسها مصدراً رئيساً للمعلومة.
ما يؤكد هذا الطرح أن الوزارة المعنية كانت قد أعلنت، قبل فترة، اكتشاف فرق التحقيق لجرثومة الكوليرا" في نبع مياه سيدي لكبير بمنطقة أحمر العين بولاية تيبازة (70 كلم غرب العاصمة)، واعتبرته المصدر الرئيس لانتشار الوباء بهذه الولاية التي تم تسجيل 12 حالة بها.
وأضافت أنه "تم إثبات تلوث" النبع و"مُنع استهلاك" مياهه. لكن مواطني المنطقة رفضوا الرواية الرسمية التي لم تقنع صغيرهم فضلاً عن كبيرهم، مؤكدين سلامة النبع بدليل أنهم ظلوا، كما يقولون، يستهلكون مياهه منذ عقود دون أن تصيبهم الكوليرا. وحتى مدير الصحة بالولاية نفى أن يكون النبع سبب انتشار الوباء وفقاً للتحاليل ذاتها. فمن أين جاء الوباء إذا؟
من المسؤول عن انتشار الوباء؟
في تفسيره للانتشار السريع للوباء، أكد الدكتور توفيق نكاع المختص في علم الأوبئة، في تصريح لموقع "عربي بوست" أن "المتسبب الرئيس في انتشار الكوليرا يتمثل أساساً في غياب الوزارات المكلفة بنظافة المحيط والبيئة والمياه"، كما أن "التراخي في مراقبة المياه وسقي الخضر بالمياه القذرة وعدم تنظيف المحيط المباشر للمواطن تعد أحد الأسباب الرئيسية لظهور الوباء"، مشدداً على أن "الوباء الذي يندرج ضمن قائمة الأمراض المتنقلة عن طريق المياه مثل التيفوئيد والزحار والالتهاب الكبدي الفيروسي (أ) يعد أسرع انتشاراً وأكثر خطورة في حالة انعدام التكفل به"، على حد تعبيره.
ورداً على التناقض في تحديد مصدر الوباء والتأخر في الإعلان والتحكم فيه، قال رئيس مصلحة علم الأوبئة بمستشفى العلمة بولاية سطيف "في بداية الوباء يكون من الصعب تحديد المصدر لكن ترتيب المعطيات عبر خصوصيات الأشخاص والمكان والزمان وتمركز الحالات وكذا التحاليل المخبرية للمصادر المحتملة التي قد تكون سلبية أحياناً، كل ذلك يصعب من مهمة الفرق الميدانية في إيجاد المصدر خصوصاً أن حاملي البكتيريا قد لا تظهر عليهم أية أعراض للمرض لكنهم ينقلونه للأشخاص دون أن يعلم أي منهم أن الآخر مُصاب. لذا فإن العزل الصحي للمرضى ضروري وكذا إجراء تحاليل البراز لكل أفراد عائلاتهم ومحيطها الذين التقوهم خلال فترة حضانة المرض التي تمتد إلى أسبوع".
وسأل "عربي بوست" رئيس الهيئة الوطنية لترقية الصحة "فورام" البورفيسور مصطفى خياطي عن موقفه من حالة التخبط والارتباك الحكومي في إعلان مصدر الوباء، فرد قائلاً: "هناك بؤرتان على الأقل لهذا الوباء. واحدة في ولاية تيبازة وأخرى في ولاية البويرة. لكن ليس هناك تحديد رسمي لمصدر الوباء. هناك فقط تكهنات، ونحن في انتظار الحصيلة الرسمية للمصابين ومصدر الوباء الذي يبدو أنه متحكم فيه".
مقاطعة الخضر والمياه المنزلية
وترددت شائعات بعدم سلامة المياه المنزلية فانتشرت رسائل على مواقع التواصل الاجتماعي تحذر منها، وتدعو إلى التوقف عن شربها.
ودخلت وزارة الموارد المائية على الخط معلنة خلو هذه المياه من أي خطر، وأكدت، عبر شركة "الجزائرية للمياه" وشركة "سيال"، المسيرة من قبل شركة فرنسية، أن "المياه المنزلية صالحة للشرب ولا داعي للتخوف من استهلاكها".
لكن المواطنين رفضوا الاستجابة لهذه التطمينات، وتخلوا لأيام عدة عن تناول مياه الصنابير ولجأوا بدلها للمياه المعدنية التي تضاعف سعرها وكادت تختفي من المحلات وعجزت الشركات المنتجة عن تلبية الطلب المتزايد.
في الأثناء تعرّض باعة الخضر والفواكه لما يشبه المقاطعة، واضطر كثيرون لرميها بسبب كسادها، وذلك بعد توالي شائعات تشك في مصدر سقي هذه المنتجات وسط أنباء عن قيام بعض المزارعين بسقيها بالمياه القذرة.
ورغم تطمينات وزارة الفلاحة التي نفت أن تكون المياه المخصصة لسقي الفواكه والخضر غير صحية، إلا أن معهد باستور، الأكبر بالبلاد، شكك، في بيان 31 أغسطس 2018، في كون بعض الفواكه أو الخضراوات التي يمكن أن تؤكل مُسقاة بالمياه القذرة، ومن ثم قد تكون وراء انتشار الوباء.
لكن وزير الفلاحة عبدالقادر بوعزقي أعلن الاثنين الماضي، عبر الإذاعة الحكومية، تسجيل حالات لسقي المحاصيل الزراعية بالمياه القذرة بلغت -كما قال- 186 حالة، غير أنه شدد على أنها حالات تم ضبطها منذ شهر يناير الماضي، وأن تلك المنتجات تم إتلافها وتحويل المتورطين إلى العدالة، و"بالتالي لا علاقة لها بالكوليرا"، كما أوضح.
الوزير النائم!
وانتقدت وسائل إعلام جزائرية عديدة تأخر السلطات في إعلان ظهور وباء الكوليرا والاعتراف بوجوده رسمياً، خصوصاً بعد شكوك ساورت عائلة شخص في الـ46 من العمر، ويشغل منصب مدرب المنتخب الجزائري للملاكمة، توفي بمستشفى بوفاريك التابع لمحافظة البليدة وكان يحمل أعراض الوباء، إضافة لسيدتين قيل إنهما توفيتا بمرض غريب بأحد مستشفيات ولاية البويرة (113 كلم شرق العاصمة).
لكن وزارة الصحة الجزائرية لم تعلن عن ظهور بكتيريا الكوليرا في الجزائر رسمياً إلا في الـ22 من أغسطس المنصرم، وذلك بعد وفاة مدرب المنتخب الوطني للملاكمة عثمان دحماني. لتعاود مصالح الصحة فتح قضية تسمم 10 أشخاص، أدخلوا قبلها بـ10 أيام، على وجه السرعة للأقسام الاستعجالية في مستشفيات محافظات مجاورة للعاصمة الجزائر، وهي البليدة وتيبازة والبويرة، وحينها تم إرجاع السبب إلى وجود مواد غير مطابقة في مياه الشرب.
وفي المجموع تم الاشتباه في وضعية أكثر من 200 مريض غادروا المستشفيات بعد تماثلهم للشفاء. ومن إجمالي الحالات، فإن 3 حالات سجلت في ولاية البويرة و39 في البليدة وحالة واحدة في ولاية عين الدفلي و15 في تيبازة و15 في الجزائر العاصمة.
وفي ردّه على الانتقادات الموجهة لقطاعه، قال وزير الصحة الجزائري مختار حسبلاوي، الذي استهدفه الهجوم ليس بسبب تأخره في إعلان المرض ولكن لعدم ظهوره في الأوقات الصعبة وحين ظهر زاد الطين بلة بتصريحات غريبة ومفاجئة من بينها إعلانه في مؤتمر صحافي في 4/09/2018، بأن مصالحه لم تتأخر في تقديم المعلومات فيما يتعلق بمصدر الوباء، مشيراً إلى أنه كان من الضروري انتظار نتائج التحاليل والتحقيقات التي أجرتها الفرق المختصة.
وأضاف قائلاً: "أبلغنا الرأي العام أن الأسباب الحقيقية للوباء لم تكن كلها معروفة، وقد حددنا بعضها وأهمها منبع سيدي لكبير"، وزاد بأن المصالح الطبية تبقى في حالة تأهب ويقظة إلى غاية تحديد كل المصادر التي تسبب في الوباء وهو ما تعكف عليه المصالح المختصة.
وشدد المسؤول الجزائري أن مصالحه ستقضي على وباء الكوليرا في غضون 10 أيام، مؤكداً أن الداء مسّ 6 ولايات فقط، وهي تحت الرقابة الصحية المركزة. لكن الأيام العشرة مرت، ولا تزال حالات الاشتباه بالوباء تظهر فجأة حتى ولو انحسر الوباء مقارنة بما كان عليه خلال الشهر الماضي.
الكوليرا بفعل فاعل؟
وعلى جانب آخر اعتبر "المهووسون بنظريات المؤامرة والفعل المتعمد" أن انتشار الوباء تم بفعل فاعل، وهي المزاعم التي وجدت لها أرضاً خصبة خصوصاً بعد ظهور صفحات وحسابات في مواقع التواصل الاجتماعي تفيد بتوقع أصحابها وقوع الوباء قبل فترة.
وفي هذا الصدد تم رصد حساب على فيسبوك لصاحبه المدعو صوالحي حسام تنبأ فيه بظهور وباء الكوليرا قبل 8 أشهر.
وكتب الفيسبوكي صوالحي حسام على حسابه بتاريخ 11 يناير 2018، محذراً: "بعد 8 أشهر من الآن (يناير 2018) سيظهر مرض الكوليرا في الجزائر. فعلى السلطات توخي الحذر واتخاذ الإجراءات اللازمة لأن الوباء سينتشر بفعل فاعل". ودعا الجزائريين إلى مشاركة الخبر "حتى يأخذوا حذرهم"، كما قال.
وأصيب كثير من الجزائريين بحالة من الدهشة والاستغراب الممزوج بالفزع بعد الكشف عن النبوءة خلال هذه الأيام، لكن بعضهم اتهم صاحب الحساب بالشعوذة والتلاعب بمشاعر الناس، داعين إلى عدم تصديق "هذه الخزعبلات".
وعاد صاحب "النبوءة" ليؤكد، بعد أول مؤتمر صحافي لوزير الصحة، عدم اقتناعه ببراءة الوباء، معتبراً في منشور آخر رداً على تصريحات وزير الصحة أنه "حان الوقت للكشف عن كيفية إصابة ناس البليدة بالوباء؟ وكيف وصلتهم بكتيريا أحمر العين بتيبازة؟ ولماذا هناك حالات متفرقة في ولايات متفرقة أيضاً؟ مضيفاً أن "الوباء يلزمه وقت لينمو ويتطور في الأمعاء فكيف انتشر وتفرق بهذه السرعة، حسب تعبيره.
ورفض الفيسبوكي الكشف عن سر نبوءته رداً على تساؤلات عدة، مكتفياً بالقول إنها كانت مزحة مع أحد الأصدقاء وأخذت منحى آخر.