مع اقتراب هزيمة جماعات المعارضة السورية بعد سبع سنوات من الحرب، يقول جيش النظام السوري إنَّه يحوِّل قوته النارية إلى آخر معاقل المعارضة. ويخضع الهدف، محافظة إدلب، إلى حدٍ كبير، لسيطرة جماعة مسلحة مرتبطة بتنظيم القاعدة.
يجد ملايين من المدنيين أنفسهم عالقين في منتصف هذه الحرب دون أن يتبقى لهم أي مكان آخر يفرُّون إليه، وذلك حسبما قالت صحيفة The Washington Post الأميركية في تقرير لها بخصوص الأوضاع هناك.
وتقول الصحيفة إن التصريحات العلنية للمسؤولين السوريين والروس تُنذر بهجومٍ مُدمِّر وشيك إذا لم يُستجَب لدعوات الدبلوماسية وجماعات الإغاثة من أجل ضبط النفس.
فوصف وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، الأربعاء 29 أغسطس/آب 2018، مقاتلي إدلب بأنَّهم "دمامل مُتقيِّحة" ينبغي "تصفيتها".
وقال وزير الخارجية السوري وليد المعلم بعد ذلك بيوم واحد، الخميس 30 أغسطس/آب 2018، إنَّ قوات حكومته ستخوض "الطريق حتى نهايته".
وباستخدام لغة مُلحّة غير معتادة، حذَّر مبعوث الأمم المتحدة الخاص إلى سوريا، ستافان دي ميستورا، الخميس، من أنَّ سكان محافظة إدلب يواجهون "عاصفة عنيفة" محتملة.
لهذه الأسباب تعتبر محافظة إدلب مهمة للغاية
وتقول الصحيفة الأميركية إن هزيمة المعارضة المسلحة في منطقة إدلب الشمالية مترامية الأطراف تُمثل عملياً نهاية الحرب في سوريا.
ولمحت حكومة الأسد إلى أنَّ شن هجوم شامل على إدلب بات وشيكاً بعد هزيمة الجماعات المسلحة في باقي أنحاء سوريا. وتزيد روسيا أيضاً من الضغط علناً، فتزيد أسطول سفنها الحربية في البحر الأبيض المتوسط وتُصعِّد لهجة خطابها.
وتهيمن هيئة تحرير الشام على محافظة إدلب، وهي جماعة متشددة كانت حتى وقتٍ قريب تابعة لتنظيم القاعدة. بالإضافة إلى كونها الفصيل العسكري الأقوى، استهدفت الهيئة المؤسسات المدنية، مُستخدِمةً في ذلك الاعتقالات والتهديدات والاغتيالات لإخضاعها.
ومن شأن حدوث معركة كبيرة في إدلب أن يكون له عواقب إنسانية كارثية؛ إذ تكتظ المحافظة التي كانت هادئة في السابق بنحو 3 ملايين شخص الآن بعد سبع سنوات من الحرب، أكثر من نصفهم نازحون من مناطق أخرى في سوريا.
ولن يكون لهؤلاء الأشخاص مكان يلجأون إليه في ظل إغلاق الحدود التركية بالشمال.
يقوم الجيش السوري، مُستفيداً من المخاوف المتنامية بشأن هجوم عنيف محتمل، بإلقاء منشورات تُشجِّع مسلحي المعارضة وأنصارهم على الاستسلام. وذكر تقرير للمرصد السوري لحقوق الإنسان، وهو مجموعة رصد، أنَّ أحد المنشورات جاء فيها: "إلى متى ستعيش أنت وعائلتك في خوفٍ وقلق؟". وكُتِب في منشور آخر: "إلى متى سيبقى أطفالك دون أمل أو مستقبل؟".
لكن كيف سيبدو هذا الهجوم الشامل؟
وفقاً لمنظمات الإغاثة، سيكون هذا كارثياً؛ إذ حذَّرت منظمة الصحة العالمية بالفعل من ارتفاع مستويات سوء التغذية الحاد في محافظة إدلب، حيث يعتمد الآن ما يصل إلى 1.6 مليون شخص على المساعدات الغذائية.
وتفاقمت هذه المشكلات في أثناء الهجمات الحكومية السابقة، بعدما استهدفت الطائرات الحربية السورية والروسية المناطق الزراعية والأسواق التي تخزن تلك المساعدات الغذائية.
حيث قصفت الطائرات الحربية أيضاً بشكل روتيني المناطق السكنية وعمال الإغاثة والمستشفيات؛ ما تسبَّب في الكثير من إراقة دماء وتَعثُّر الأنظمة المُثقلة بالفعل التي أُنشِئت لعلاج الناجين.
وقد يؤدي احتمال اندلاع قتال عنيف إلى نزوح مئات الآلاف من السوريين، معظمهم من المدنيين، باتجاه الحدود التركية، ما يجبر أنقرة على فتح الحدود أو ترك عدد كبير من المدنيين يمكثون في خيام وعرضة للهجمات.
ودعا دي ميستورا، الخميس، إلى إقامة ممر إنساني يمكن إجلاء المدنيين من خلاله. لكن لم يتضح بالضبط إلى أين يمكن أن تقود هذه الممرات.
ومنذ أسابيع ترسل قوات النظام السوري التعزيزات العسكرية تلو الأخرى إلى أطراف إدلب في شمال غربي البلاد؛ تحضيراً لهجوم وشيك في المحافظة، الواقعة بغالبيتها تحت سيطرة هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقاً)، وتنتشر فيها أيضاً فصائل معارضة متنوعة.
وحذر مدير العمليات في مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية التابع للأمم المتحدة، جون كينغ، قبل أيام، مجلس الأمن الدولي من أن "السيناريو الأسوأ في إدلب قادر على خلق حالة طوارئ إنسانية على مستوى لم تشهده هذه الأزمة (في سوريا) من قبل".
ويرجح محللون أن تقتصر العملية العسكرية في مرحلة أولى على أطراف محافظة إدلب، فضلاً عن مناطق سيطرة الفصائل المعارضة المحاذية لها في محافظات حماة وحلب واللاذقية.
وبشكل عام، يبلغ عدد سكان إدلب ومناطق المعارضة في المحافظات الثلاث نحو 3 ملايين نسمة، نصفهم من النازحين، وفق الأمم المتحدة.
هل يمكن تجنب حمام دم؟
يقع مصير محافظة إدلب الآن على عاتق تركيا وروسيا. وعلى الرغم من وجودهما على جانبين متعارضين في الصراع -إذ تؤيد أنقرة قوات المعارضة المسلحة بينما موسكو هي واحدة من حلفاء الأسد الرئيسيين- فإنَّ هاتين القوتين لديهما مصلحة مشتركة في تجنب كارثة إنسانية.
ومن المحتمل أن تبلغ دبلوماسيتهما ذروتها بهذه المسألة في 7 سبتمبر/أيلول 2018، عندما يجتمع مسؤولون من كلا البلدين في العاصمة الكازاخية، أستانا، إلى جانب ممثلين من إيران.
وقد ينذر أي هجوم كبير في إدلب بكارثة بالنسبة لتركيا، التي تستضيف بالفعل نحو 3.5 مليون لاجئ سوري وغير مُجهزة لاستضافة مئات الآلاف الآخرين، الذين ربما ينزحون على طول حدودها حال حدوث معركة كبيرة.
وتعرف روسيا، من جانبها، أنَّ معركة واسعة النطاق يمكن أن تستنزفها أكثر في المستنقع السوري، وهو سيناريو تريد موسكو تجنبه.
تحاول تركيا في الوقت الراهن إقناع المجموعات المحلية في محافظة إدلب بالانقلاب على هيئة تحرير الشام وقبول تسوية تفاوضية مع الحكومة السورية، كما فعلت مجموعات معارضة مسلحة في عدة مناطق أخرى من سوريا مع خفوت الحرب.
ويحتفظ الجيش التركي، كجزء من اتفاق سابق لـ"خفض التصعيد" بإدلب، بوجود صغير في 12 نقطة مراقبة أو أكثر بالمنطقة، بعضها يبدو أنَّه تعزَّز في الأسابيع الأخيرة.
ومع ذلك، لا توجد مؤشرات تُذكَر على أنَّ الجيش التركي سيدافع عنهم إذا بدأ هجوم.
لكن يمكن أن تقاتل هيئة تحرير الشام وحليفها الأكثر تشدداً، "تنظيم حراس الدين"، حتى الموت؛ إذ أسَّست الجماعتان سمعتهما وشعبيتهما على رغبتهما في محاربة جيش الأسد حتى النهاية. ولا يوجد لديهما حوافز كبيرة للتراجع في هذه المرحلة.
هل يمكن أن تكون هناك خطط لهجوم أصغر؟
هناك مؤشرات على أنَّ تركيا وروسيا ستُفضِّلان شن هجوم أكثر محدودية ومرحلي يهدف إلى عزل وهزيمة هيئة تحرير الشام قبل أن يستسلم ائتلافٌ مستقل من جماعات المعارضة المسلحة للسلطات السورية.
وكتب آرون ستاين، وهو زميل أقدم مقيم بمركز رفيق الحريري لدراسات الشرق الأوسط التابع للمجلس الأطلسي، في مذكرة بحثية حديثة، أنَّ "كل فاعل خارجي في الصراع بإمكانه استخدام صراع محدود على طول محيط إدلب بصورة فعالة، للتفاوض مع مختلف حلفائه وأعدائه على النتيجة النهائية في إدلب".
واستدرك: "لكن الخطر، بالنسبة لتركيا بشكل خاص، هو أنَّه إذا فشلت تلك الجهود في إيجاد معارضة محلية مستعدة لتقديم تنازلات للأسد وموسكو، فسيصبح اللجوء إلى تصعيدٍ كبير في إدلب أمراً حتمياً".
لماذا إذاً تحذر روسيا من استخدام الأسلحة الكيماوية في إدلب؟
تحدثت وسائل الإعلام الرسمية الروسية والسورية مراراً، في الأسابيع الأخيرة، عن مؤامرة غامضة من جانب المعارضة لتنفيذ هجوم بالأسلحة الكيماوية في إدلب.
وقد اتهمت وسائل الإعلام الرسمية، على وجه التحديد، مسعفي منظمة "الخوذ البيضاء"، وهي فرق دفاع مدني تطوعية تعمل بالمناطق الواقعة تحت سيطرة المعارضة في سوريا، بنقل الأسلحة الكيماوية استعداداً لشن هجوم.
ونُسِبت على نطاق واسع، هجمات سابقة بغاز الكلور في سوريا إلى سلاح بشار الأسد الجوي.
لكن في الفترة التي سبقت تلك الهجمات، نشرت منافذ إعلامية سورية وروسية قصصاً مشابهة ضمن ما يمكن اعتباره جهداً مُنسَّقاً لنثر بذور البلبلة حول مصدر الهجمات. ولا يوجد دليل واضح يثبت تورط متطوعي "الخوذ البيضاء" في أي هجمات كيماوية.
وحذَّر مسؤولون أميركيون بارزون كلاً من الحكومتين السورية والروسية يوم الثلاثاء 28 أغسطس/آب 2018، من استخدام أسلحة كيماوية فى أي هجوم قادم.
وقالت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الأميركية، هيذر نويرت، للصحافيين في واشنطن، إنَّ الولايات المتحدة "ستردُّ على أي استخدام مُثبَت للأسلحة الكيماوية بإدلب أو في أي مكان آخر بسوريا… بطريقة سريعة وملائمة".