تواجه مدينة البصرة جنوب العراق موجة حر شديد، تفوق التحمل البشري. بلغت الحرارة 50 درجة مئوية في الظل. ويعاني الشعب من العرق، وندرة المياه، والانقطاع المتواصل للكهرباء في أغلب أوقات النهار. وفي ظل هذه الظروف، بدأ الآلاف من المواطنين بالإحتجاج ضد النخبة الحاكمة خلال الأسابيع الماضية، وقد ردت عليهم السلطات بشكل عنيف، حسب وصف تقرير لصحيفة Welt الألمانية. فلم تتوان القوات الأمنية عن ضرب المتظاهرين بالهراوات وخراطيم المياه الساخنة، في محاولة لإبقاء المحتجين تحت السيطرة.
غضب المحتجين لم يتراجع في ظل هذه الإجراءات القمعية، ففي غضون أيام قليلة، انتشرت رقعة الاحتجاجات لتشمل تسع محافظات بأكملها في جنوب البلاد، ووصلت حتى للعاصمة بغداد. ومنذ ذلك الوقت، يعيش العراق حالة استنفار وتوتر، حيث سجلت اللجنة العراقية لحقوق الإنسان سقوط 14 قتيلاً لحد الآن، بالإضافة إلى 300 جريح في صفوف المتظاهرين.
الاحتقان الشعبي يتجاوز مسألة الماء والكهرباء
يعود هذا الغضب الشعبي أساساً إلى عدم الرضا عن المؤسسة السياسية الحاكمة بأكملها، حيث يركز المتظاهرون على المناطق الشيعية باعتبارها المعاقل التي يعتمد عليها أصحاب السلطة الموجودين في بغداد. ولكن للمرة الأولى، تتجاوز هذه الاحتجاجات كل الانقسامات الطائفية، وتدور حول مسائل أخرى غير الانتماءات السنية والشيعية.
لقد وحّدت المعاناة الاجتماعية والمعيشية في بغداد بين جميع الأطياف. ويبدو أن الديمقراطية الناشئة في العراق تعيش أسوأ أزمة لها، ومن غير الواضح تماماً ما إذا كانت الطبقة السياسية قادرة على حل هذه الأزمة، أم أن العراق يتجه بقوة نحو ثورة جديدة؟
في البداي، خرج المتظاهرون في الجنوب احتجاجا على الأسعار العالية ونقص الخدمات في المقام الأول، ثم بدأت أزمات أخرى تنضم لركب المطالب، وهي تلك التي رفعها المتظاهرون في بغداد خلال مظاهرات الجمعة الماضية، كالسكن والوظائف والمياه وملفات الصحة والتعليم وغيرها.
ووصل إلى المطالبة بإسقاط النظام بالكامل
ونقلت صحيفة Welt الألمانية عن يوسف إبراهيم، وهو خبير في الشؤون العراقية في مؤسسة "فريدريش إيبرت" في عمان، أن "الناس لم يعودوا مهتمين فقط بتوفير الكهرباء والماء، وإنما يعتقدون أن النظام السياسي برمته يجب إسقاطه". ويعيد هذا التصعيد في موقف الشارع من السلطة إلى الأذهان بدايات ما يسمى بثورات الربيع العربي سنة 2011.
وفي مايو/ أيار الماضي، فاز رجل الدين مقتدى الصدر، الذي يتزعم تحالفاً شيعياً، في الانتخابات البرلمانية. ويقدم هذا السياسي الشيعي الراديكالي نفسه على أنه قريب من الناس، ومنتقد للنخبة السياسية الفاسدة. ولكن رئيس الوزراء حيدر العبادي، الذي حلت قائمته في المركز الثالث في هذه الانتخابات، يظن أنه تم تزوير الانتخابات. وبناء على ذلك، أمر البرلمان بإعادة فرز الأصوات، وهو أمر قيد الإنجاز حالياً.
الشعب إذن يندد بهذه الديمقراطية ونخبتها الحاكمة
في ظل هذه التعقيدات، سوف يستغرق تشكيل الحكومة الجديدة وقتاً، وهذا يعني أن البلاد مهددة بالغرق أكثر في الفوضى السياسية. وحيال هذا الشأن، أورد إبراهيم أن "الاحتجاجات أظهرت حجم الإحباط والغضب الشعبي من هذه الديمقراطية ونخبتها الحاكمة، وهم يريدون تغييراً حقيقياً".
بعد ثلاث سنوات من القتال، تمكن الجيش العراقي أخيراً من هزيمة ميليشيات تنظيم الدولة. ولكن بعد أكثر من 15 عاماً من الحروب وسوء الإدارة، تبدو المشاكل الهيكلية التي تعاني منها مؤسسات الدولة العراقية كبيرة، ناهيك عن أن الخدمات الحكومية مثل الكهرباء والماء غير مستقرة.
يشهد العراق ارتفاعاً في معدلات البطالة، خاصة في صفوف الشباب. وحسب دراسة حكومية، يعيش ربع السكان تحت خط الفقر. وبما أن النخبة السياسية متهمة بالتورط في الفساد، فإنه من غير المستغرب أن يحل العراق في المرتبة 169 من أصل 180 دولة، في الترتيب الحالي لمؤشرات الفساد الصادر عن منظمة الشفافية الدولية. وفي نفس الوقت، يعد العراق واحداً من أغنى الدول بالثروات النفطية، حيث تضاعفت حصته من تصدير النفط الخام خلال السنوات العشر الماضية، لتصل إلى 3.5 مليون برميل يومياً.
ويعبر عن غضبه من الفساد والتلوث والتهميش
إن هذه الثروة لا تصل إلى الشعب، وهذا ينطبق على مناطق إنتاج النفط أيضاً، مثل محافظة البصرة. فقد انقطع التيار الكهربائي عن هذه المحافظة خلال شهر يوليو/ تموز الماضي، لأن الحكومة في بغداد لم تدفع لإيران فواتير التزويد بالطاقة الكهربائية.
ونتيجة لذلك، قامت طهران بإمداد البصرة بالكهرباء ولكنها سرعان ما قامت بقطعه بسبب التخلف عن الدفع. وعموماً، تعد البصرة واحدة من أفقر المحافظات في العراق، بعد أن كانت في الماضي تسمى "فينيسيا الشرق الأوسط" (تشبيها لها بمدينة البندقية الإيطالية) بسبب تعدد قنواتها المائية، بيد أنها اليوم تعاني من التلوث وتكدس القمامة.
تعهد رئيس الوزراء حيدر العبادي بتوفير مبلغ 2.6 مليار يورو كمساعدات عاجلة لهذه المحافظة، ولكن ذلك لم يعد كافياً لاستعادة ثقة سكان هذه المناطق المهمشة في النظام السياسي. في المقابل، يعتقد المواطنون أن هذه المليارات الموعودة ليست إلا خدعة أخرى من خدع الحكومة.
لكن لا أحد هنا يتوقع ثورة شعبية جديدة
أفادت تيرسا ديفريس، من منظمة السلام الهولندية "باكس" التي تدعم العديد من المشاريع في العراق، بأن "كل شيء يشير إلى ضرورة إحداث تغيير راديكالي، ولكن حدوث ثورة أمر صعب لأنه لا يوجد مجتمع مدني منظم يقف وراء هذا الحراك الشعبي، ولا يوجد أي حزب أو مجموعة دينية تدعمه، بل هم مجرد مواطنين عاديين يريدون أن يوحدوا صفوفهم لمكافحة الفقر"، وفقا لصحيفة Welt الألمانية.
تتواصل ديفريس بشكل مستمر مع شركائها في المنظمات غير الحكومية في محافظة البصرة، وهي على علم بتطورات الأوضاع. وهناك منظمة نسوية محلية تحاول لعب دور الوساطة بين المحتجين والمسؤولين الحكوميين. وفي أحد تقارير هذه المنظمة النسوية، يتضح حجم خيبة الأمل لدى الرأي العام والإحباط من تطورات الأوضاع منذ سقوط نظام صدام حسين. وينقل التقرير عن أحد ممثلي القبائل قوله: "لقد ظننا أننا سنعيش في كرامة، ولكن ما حصل هو العكس". وتعلق ديفريس بأن "الناس باتوا يعيشون حالة يأس تام، وبالنسبة لهم كانت تجربة الديمقراطية التي انطلقت في العراق سنة 2003 فاشلة".