بعدما استخدم رجلٌ يبلغ من العمر 31 عاماً شاحنة بضائع لسحق 86 شخصاً حتى الموت على كورنيش مدينة نيس الفرنسية، سارع والده المذهول لإخبار الصحفيين أنَّ ابنه عانى سابقاً من انهيارٍ عصبي.
وحين استَخدم عمر متين بندقية Sig Sauer MCX نصف آلية ليُردي 49 شخصاً بالرصاص في ملهى ليلي بمدينة أورلاندو الأميركية، وصفه أقاربه بأنَّه مصابٌ بالاضطراب ثنائي القطب.
وفي كندا هذا الأسبوع، بعدما فتح رجلٌ يبلغ من العمر 29 عاماً النارَ في شارعٍ مليء بالمقاهي، ما أسفر عن إصابة 15 شخصاً ومقتل شخصين، أصدرت عائلته بياناً قالت فيه: عانى فيصل حسين طويلاً مع المرض النفسي.
لكنَّ تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) قدَّم تفسيراً مختلفاً؛ إذ ادَّعى أنَّ الرجال الثلاثة كانوا من جنوده، حسبما ورد في تقرير لصحيفة The New York Times الأميركية.
يبحث عن المهمشين والضعفاء على الإنترنت
بعد وقتٍ ليس بالطويل من إصدار عائلة حسين بيانها، نشرت وكالة الأنباء التابعة لداعش بياناً يدَّعي أنَّ المهاجم كان متأثراً بالتنظيم الإرهابي، مُعيداً بذلك إشعال جدلٍ حول ما إن كان الشخص المريض نفسياً يمكن حقاً القول إنَّه يتصرف وفق أوامر تنظيمٍ إرهابي.
قالت عائلة حسين: "كان ابننا مصاباً بتحدياتٍ صحية نفسية شديدة، وعانى من الذهان والاكتئاب طيلة حياته". وجاء بيان العائلة بعد يومٍ واحد من قتل حسين طفلة تبلغ 10 أعوام، وامرأة تبلغ 18 عاماً.
وحتى الآن لم يظهر أي دليل يؤكد أنَّ الشاب كان متأثراً بداعش، وفي يوم أمس الأربعاء 25 يوليو/تموز، رفض كلٌّ من قائد شرطة تورونتو ومسؤول بوزارة الأمن الوطني الكندية أي صلة بالإرهاب.
وقال قائد شرطة تورونتو مارك ساوندرز: "ليس لدينا في هذه المرحلة أي أدلة تدعم تلك الادعاءات".
بالإضافة إلى ذلك، قال الطبيب الشرعي للعائلة، إنَّ حسين سبق أن أطلق النار على نفسه في الرأس، بعد حالة الهياج والثوران، وذلك بحسب شخص مُقرَّب من العائلة. ويُعَد الانتحار من المحظورات في صفوف الجهاديين، وبالطبع لدى المسلمين عامة، وهو دليلٌ آخر يشير إلى أنَّ حسين ربما لم يكن متأثراً بالمتشددين. وقال الشخص المُقرَّب إنَّ العائلة لم تقف على أي إشارة على تطرُّف ابنها.
وفي حين لا يزال المسار الذي قاد حسين إلى العنف غير واضح، وفي حين لا تزال الرابطة بينه وبين التطرُّف الإسلامي -في حال كانت موجودة أساساً- مجهولة، فثمة شيء واحد لا خلاف عليه، وهو أنَّ تنظيم داعش ماهرٌ للغاية في توسيع نطاقه، عن طريق إغراء الشباب والشابات المهمشين والضعفاء على الإنترنت.
وثلث ضحايا التنظيم كان لهم تاريخ مع الاضطراب النفسي
ومع أنَّ التنظيم كان في حالات كثيرة ينخرط ويُوجِّه أولئك الذين يُخطِّطون للهجمات عن كثب، عبر الرئاسل المشفرة، فإنَّه يُوظِّف استراتيجية أخرى أيضاً، فهو ينثر بذور الدعاية (البروباغاندا) على أوسع نطاقٍ ممكن، على أمل أن تمد جذوراً في الأرض، وأن يتبنَّى البعض -أي أحد- العنف باسم التنظيم.
ووجد باحثون أنَّ جزءاً كبيراً من الأشخاص الذين نفَّذوا أعمال إرهاب باسم تنظيم داعش كانوا يعانون من اضطراباتٍ نفسية.
إذ وُجِد أنَّ الثلث تقريباً من بين 76 شخصاً انخرطوا في 55 هجمة ورد ذكرها في دراسة لمركز مكافحة الإرهاب التابع لأكاديمية ويست بوينت العسكرية الأميركية عام 2017، كان لهم ماضٍ مع عدم الاستقرار النفسي.
ووقعت بعض أشْهَر الهجمات الإرهابية المرتبطة بالتنظيم الإرهابي على يد مهاجمين أظهروا، على الأقل، أعراض ضغطٍ نفسي.
ومن ذلك هجوم نيس بفرنسا في 2016، الذي نفَّذه محمد لحويج بوهلال. وظهر والده أمام الكاميرات لذكر تفاصيل العلاج النفسي الذي كان يتلقاه ابنه، بعدما قال إنَّه كان انهياراً عصبياً.
وفي كندا عام 2014، بعدما صدم مارتن كوتور رولوجنديين كنديين، مُتسبِّباً في مقتل أحدهما، قال والده إنَّه كان قد حاول -وفشل- في إخضاع ابنه للرعاية النفسية.
وقال والده جيل رولو لصحيفةٍ كندية: "تركوه يخرج في اليوم التالي، لأنَّه لم يرغب في الوجود هناك".
وهذا التطور في أسلوب ومجال التجنيد، يصفه الكاتب محمد جاسم في كتابه "أجهزة استخبارات أوروبا في مواجهة خلايا داعش"، حيث يؤكد أن "داعش" يعتمد نمطاً جديداً لنقل عملياته إلى أوروبا، يطلق عليه "الجهاد الاكتئابي"، أي بدأ التنظيم بتجنيد أشخاص يعانون من الاضطراب النفسي وأصحاب السوابق الجنائية لتنفيذ عمليات انتحارية، والابتعاد عن التجنيد التقليدي للأعضاء بالجماعات الإسلامية المتطرفة، كون هؤلاء الأشخاص ربما يكونون بعيدين عن عمليات الرصد التي تقوم بها أجهزة الاستخبارات والشرطة.
شعورهم بالخطر والتهميش يدفعهم إلى ارتكاب العنف
يُعَد المرض النفسي بين المُهاجِمين المتأثرين بتنظيم داعش شائعاً للغاية، لدرجة أنَّ المحللين صاغوا مصطلح "الذئب المختل"، المشتق من مصطلح "الذئب المنفرد". لكن هذا المصطلح قد يكون مضللاً.
إذ كتب باحثو ويست بوينت: "مفهوم (مختل) يتضمَّن أيضاً الجنون أو التشوُّش، ويتجاوز حقيقة أنَّ التخطيط العقلاني يحدث في كثيرٍ من الأحيان في ظل اضطرابٍ عقلي".
مع ذلك، يقول خبراء إنَّ الرابطة بين الإرهاب والمرض النفسي ليست أمراً مفاجئاً. فالأيديولوجيات المتشددة يمكنها تقديم رواية مقنعة للأشخاص الذين يعانون مشاعر التهميش أو التوهمات المَرَضية بالاضطهاد، التي قد توجد في بعضٍ من أشد الأمراض النفسية.
هناك قاعدة في علم النفس تقول: إن الصدمة النفسية تولد بطبعها اضطرابات وشعوراً بالخوف لدى المريض، ولكنها لا تولد بالضرورة العنف، حسبما تقول الدكتورة ماجي شويار، الأخصائية في الأمراض النفسية لموقع دويتش فيليه الألماني.
وهذا يعني أن الخوف المستمر من عنف الآخرين، ومن التهديد لا يحول بالضرورة المريض إلى شخص عنيف. لكن المشكلة تكمن في أن بعض الأشخاص لا يريدون، أو لا يستطيعون مواصلة العيش في ظل الخوف. هذا ما يجعل منهم في النهاية انتحاريين.
وفي هجمات أخرى، ليست بالضرورة مرتبطة بداعش، وجد أن الجناة الذين كانوا من اللاجئين إلى دول غربية عانوا من إرهاصات نفسية، حسبما ورد في تقرير لموقع دويتش فيليه.
فتعرّض بعض الأشخاص لأعمال عنف وشعورهم بالخطر أو بالتهميش من محيطهم، يؤدي بهم في النهاية إلى ارتكاب العنف، والخشونة في رد الفعل.
علاوة على ذلك، يسعى مرتكبو العنف دوماً إلى البحث عن دافع شرعي يُبرر فِعلتهم. يحصل هذا غالباً أثناء الحروب الأهلية؛ إذ يقضي كثيرون نحبهم. والسبب هو اعتقاد الجناة أن ضحاياهم لا يستحقون الحياة. كما أن الاعتقاد بوجود دافع معين للإقدام على قتل الناس، هو دوماً حجة تستغل من الجناة.
ويبدو أن داعش يعرف كيف يعثر عليهم
وذهب بعض المسؤولين في البلدان التي استهدفها داعش إلى حدٍّ بعيد، لدرجة أنَّهم أشاروا إلى أنَّ المتشددين يبحثون عن الأشخاص الذين يعانون مشكلاتٍ نفسية.
ومن بين هؤلاء مارك رولي، الذي تنحَّى العام الماضي 2017 عن منصبه كقائد لمكافحة الإرهاب في شرطة العاصمة البريطانية لندن "متروبوليتان". وقال رولي إنَّ التنظيم يستهدف بنشاطٍ الأشخاص الضعفاء، بمَن فيهم "أولئك الذين يعانون مشكلات بالصحة النفسية".
وفي أستراليا، وصف مُنسِّق مكافحة الإرهاب الوطني غريغ مورياتي ذات مرة، كيف يُجتَذَب الأفراد إلى داعش، ليس فقط بسبب الأيديولوجيا؛ بل أيضاً بسبب "مشكلات الصحة النفسية" التي جعلتهم عرضة للسردية الإرهابية.
وأصبح ضروريا التفرقة بين المرض النفسي والإرهاب
إنَّ التمييز بين التعصب الديني والاضطراب النفسي لا يكون واضحاً دوماً، ولا يستحق بالضرورة العمل على إيجاده.
إذ يقول ميتش سيلبر، الرئيس السابق للاستخبارات في شرطة نيويورك: "هنا أناس ربما يرغبون في وضع هذا الأمر في إطار كما لو كان حدثاً متعلقاً بالصحة النفسية تماماً، وليس كإرهاب، لكنَّ وضع هذا الخط الفاصل ليس دقيقاً بالضرورة، فالأمر قد يكون خليطاً من الاثنين".
وأضاف سيلبر: "حين ننظر إلى ما يدفع الناس للتحرُّك، وقبول أيديولوجيا جديدة، وفعل شيء مناقض للمجتمع الذين يعيشون فيه، فإنَّهم عادةً ما تكون لديهم مظلمة من نوعٍ ما، وهذا قد يتداخل بصورة كبيرة مع مشكلة صحة نفسية. وإذا لم يُعالَج هذا -أو لم يُعالَج بصورة كافية- فإنَّه قد يؤدي إلى العنف".
ولكن تبنّي العنف يشترط توفر العديد من العوامل المشجعة على ذلك. هناك أمثلة على ذلك، وهي التعرض إلى العنف مراراً في الطفولة، خاصة من قِبَل أولياء الأمور، أو التعرض لمعاملة سيئة من طرف الأم. بيد أن هذا كله غير كاف، حسب الدكتورة ماجي شويار.
إذ يعد الشعور بالإحباط أو الاكتئاب أيضاً عاملاً آخر، إذ يتسم سلوك المحبطين بالسلبية وبالعزلة. لكن رغم ذلك، فإن هذا لا يعني أنهم مستعدون للعنف. يتعلق الأمر بنسيج مترابط بين أحداث مأساوية تعود إلى ماضي الطفولة وضغط المجتمع في الوقت الحاضر. هذه عوامل تخلق لدى المريض شخصية عنيفة.
وفي كل الأحوال منفذ الهجوم الأخير وراءه حياة مأساوية
وبصرف النظر عمَّا إذا كان حسين قد تأثَّر بالأيديولوجيا الإرهابية أم لا، فالأمر الواضح هو أنَّه جاء من خلفيةٍ مضطربة. وكما ذكرت صحيفة Toronto Star الكندية، فإنَّ الصورة التي بدت عليها عائلته كانت صورة للمعاناة والضيم.
إذ ماتت شقيقة حسين في حادثة سيارة، وتناول شقيقه فهد جرعةً زائدةً من المخدرات، الصيف الماضي، وانتهى به المطاف في حالة غيبوبة في المستشفى. وذكرت الصحيفة أنَّ شقيقه اعتُقِل مرتين، إحداهما بسبب اتهامات ببيع الكوكايين، والأخرى حين اتُّهِم بحيازة ذخيرة وعدم الامتثال لشروط إطلاق سراحه.
وقال أحمد حسين، المدير التنفيذي لمركز The Neighborhood Organization، وهو مركز محلي للخدمات الاجتماعية في حي ثورنكليف بارك، حيث كان يعيش فيصل حسين مع أسرته: "إنَّه نوع من مأساة ما بعد المأساة".