تعالت الأصوات منذ بداية أزمة "سد النهضة" بين مصر وإثيوبيا، الدولتان تتفاوضان على حصة مصر من مياه النيل، إثيوبيا تصر على إكمال بناء السد رغم ما سينتج عنه من أزمات بمصر على مستوى الزراعة والري ومنسوب النيل، وحتى الآن لم يتم التوصل إلى حل نهائي يفصل في الأزمة و يضمن لمصر حقها في حصتها من المياه وعدم المساس بها.
لكنه وعلى الجانب الآخر ثمة أصوات لم يصل صداها بعد إلى المسؤولين المصريين، ما تسبب في أزمة محلية ظهرت مع بداية هذا العام بعدما قررت الحكومة تخفيض مساحات الأراضي المزروعة لترشيد استخدام الماء، الفلاحون الذين يعيشون على الزراعة ويقتاتون عليها، كيف يستغنون عن الزراعة؟ ما البدائل التي ستوفرها لهم الدولة؟ لا أحد منهم يملك جواباً حتى الآن.
الأرز وقصب السكر معروفان باستهلاكهما كميات كبيرة من الماء أثناء الزراعة، فكان لهما النصيب الأكبر من قرارات تقليل مساحات الأراضي المزروعة، إذ أن الأرز يزرع في ظل ظروف مروية تغمر فيها الحقول من الزراعة إلى الحصاد، أي أنه يستهلك حوالي ضعف ونصف المقدر من المياه اللازمة لزراعة محصول من القمح أو الذرة، وفقاً للمعهد الدولي لبحوث الأرز.
ويتوقع بعض الخبراء أن يؤدي تقليص المساحة المزروعة بالأرز إلى انخفاض الإنتاج وتقليل الكميات المعروضة في الأسواق وارتفاع الأسعار والاتجاه نحو الواردات لتغطية احتياجات السوق المحلية لتأمين الغذاء، بعدما قررت وزارة الموارد المائية والري ووزارة الزراعة تخفيض المساحة المزروعة بمحصول الأرز الموسم المقبل من مليون و100 ألف فدان، إلى 724 ألف و200 فدان فقط بنسبة انخفاض تصل إلى 34% لترشيد استهلاك الماء.
بعد أيام من القرار صدرت أسعار الأرز الجديدة التي ارتفعت من 3.9 ألف جنيه إلى 4 آلاف جنيه للطن الواحد ما خلق حالة استنكار لدى الفلاحين الذين كان لنا معهم لقاء خاص في محافظتي قنا (وسط مصر)، والشرقية (شرقي مصر).
قنا.. القصب وصناعة العسل
إبراهيم جاد (صنايعي عسل أسود في نجع حمادي بقنا) يقول إن المحصول الرئيسي الذي يعتمد عليه الفلاحون في نجع حمادي بقنا هو قصب السكر، جزء يذهب لصناعة السكر والآخر للعسل الأسود، ومن بداية نوفمبر/تشرين الثاني وحتى مايو/أيار ينتظرون لجمع المحصول الذي يعيشون عليه بقية العام.
يضيف إبراهيم لعربي بوست أن "خفض مساحة زراعة القصب بعد أزمة سد النهضة، ستؤثر بالسلب قطعاً على المزارعين وستفجر أزمة بطالة، إذ أن أكثر من 80% من سكان القرى المجاورة لهم يعملون في صناعات القصب ولا يمتلكون أية مهنة غيرها، ليس لهم سبيل إلا المهنة التي ورثوها أباً عن جد.
أين يذهب الفلاحون! وأين تجد كل هذه الأيدي العاملة مكاناً للرزق! يتساءل إبراهيم ويتعجب من رد فعل الدولة الذي تكلل بالصمت مختتماً حديثه معنا "لابد أن تجد الحكومة حلاً"
علي محمد علي أحد عمال عصارة العسل الأسود التي يعمل بها إبراهيم، يقول لعربي بوست إن سكان القرى يبذلون كل جهدهم لتوفير قوت يومهم، وليس لديهم أي مهنة أخرى ولا حتى مهارة يمارسونها إلا الزراعة التي كبروا ووجدوا آباءهم يمتهنونها، وأن حالة التخوف تسيطر على الفلاحين من أن تتجاهلهم الدولة أو لا توفر لهم بديلاً يضمن لهم العيش.
الشرقية – الأرز
ومن قنا إلى وجهتنا الثانية، الشرقية، ذهبنا لاستطلاع الأوضاع بين زارعي محصول الأرز هناك لنجد أن الأزمة في أوجها والغضب باد على وجوه الفلاحين وحتى في عباراتهم.
سؤال وجهه عبد المنعم البنا لوزير الزراعة، "لماذا تمنعنا من زراعة الأرز لصالح مصالحكم الخاصة مثلما فعلتم من قبل مع مزارع العنب الخاصة بك؟، كلنا واحد، سنترك لكم الأرض بور سوداء حتى تزيلوها، إذا كنتم ستمنعوننا من زراعة الأرز فسنزرع برسيماً للبهائم طوال العام ولا تسألونا عن غلة أو ذرة"، ويضيف "وظفني وأنا أترك الفلاحة، أنت تقتل أسر بأكملها لمصالحك الشخصية" على حد تعبيره.
الفلاحون يتحدون الوزارة: سنزرع الأرض غلة لبهائمنا
عبد الستار كامل عبد الحميد (مزارع) يقول "أنا رجل فلاح، لا أفهم أي مهنة غيرها، عندما يمنعني وزير الزراعة من الفلاحة، من أين أطعم أولادي! مياه الشرب لا تصل إلينا في الصيف ولا الشتاء، الترع كلها مسدودة، المبيدات التي تعطيها لنا الدولة مغشوشة حتى أصابنا السرطان، ألا يكفيكم ذلك؟ تريدون أن تمنعونا من الزراعة.
ويتابع عبد الحميد "أنا بالنيابة عن فلاحين بردين أناشد أي مرشح أو عضو مجلس شعب ألا يترشح للبرلمان لأننا لن ننتخب أحداً، سنقاطع الانتخابات، أما بالنسبة للأرض سنزرعها غلة لبهائمنا، نحن في الأرياف وكيلو الأرز وصل سعره 10 جنيهات إذاً بكم سيباع في المدينة؟ نحن لم نطلب أكثر مما يجعلنا نعيش.
حساب على حصة مياه لا تصل الأراضي
يتساءل محمد صبري عباس، مزارع آخر من قرية "بردين"، كيف تحاسبنا الدولة على حصة مياه لم نستهلكها من الأصل، المياة قليلة جداً ونحن نزرع بالجهود الذاتية من خلال دق المواسير وماكينات المياة، فبأي منطلق تتعنت الدولة معنا بهذا الشكل.
ومن جانبه يقول الدكتور هاني الشيمي، عميد كلية الرزاعة السابق بجامعة القاهرة لعربي بوست "إن قرار تخفيض مساحات زراعة الأرز والقصب يصب في مصلحة ترشيد المياه، ولكن الترشيد يجب أن يُنفذ بأسس علمية سليمة، حيث أن الأرز يعد محصولاً بالغ الأهمية وكان يجب دراسة الآثار المترتبة على هذا القرار مع الفلاحين قبل اتخاذه لتجنب الأضرار التي تحدث لهم خاصة وأن الزراعة مصدر رزقهم الوحيد كل عام".
يرى الشيمي أنه وإن كان هناك ضرورة في تقليص الزراعة فيجب أن تتم العملية بتأن وليس بنسبة كبيرة وبطريقة مفاجئة حتى لا يحدث صدمة للفلاحين، وكان يجب دراسة القوة الاقتصادية لهذه المحاصيل لأنهم على موعد مع مواجهة ارتفاع أسعار الأرز والسكر.
وأكد الشيمي على أهمية دراسة توزيع الموارد المائية للمحافظات، فعلى سبيل المثال يصل لمحافظة كفر الشيخ مياه شديدة التلوث ومصحوبة بمبيدات وغيرها وذلك بعد اختلاطها بالمصارف الزراعية والمياه المستعملة من قبل في الزراعة، مشيراً إلى أن حوالي 85% من المياه التي تدخل مصر (حوالي 55 مليار متر مكعب) يتم استخدامها في الزراعة، يدخل منهم حوالي 30 مليار متر مكعب إلى الدلتا، ولذلك كان من الضروري دراسة توزيع المنطقة الأولى من القليوبية لكفر الشيخ.
وبالحديث عن البدائل المطروحة لزراعة الأرز والقصب يرى أنه يجب على وزارة الزراعة امتلاك تخيل للبدائل التي سيستخدمها الفلاح بعد منعه من زراعة الأرز، فتتم المناقشة معه حول نوعية المحاصيل البديلة والتي تستهلك مياهاً أقل وبربح يساوي محصول القصب والأرز بالنسبة له حتى يستطيع توفير حياة كريمة له ولأسرته.
انتهى حديثنا مع عميد كلية الزراعة السابق بالقاهرة لكن على ما يبدو أن القرار سيدخل حيز التنفيذ لا محالة بعد وصول المفاوضات بين إثيوبيا ومصر إلى طريق مسدود حول إجراء دراسة لمعرفة الأثر البيئي للسد واقتراح مصر أن تتدخل الولايات المتحدة الأميركية لتسوية الخلاف، الأمر الذي رفضته إثيوبيا.
ولم يعد هناك خيار أمام الفلاحين إلا الانتظار أمام قرارات إثيوبيا التي قالت إنها لن تسمح بمرور قطرة مياه لمصر قبل ملء الخزان (76 مليار متر مكعب)، لتتمكن من إدارة الـ6 توربينات وتولد كهرباء.