داخل قطار المترو كانت حالة الوجوم واضحة على كل الوجوه لكن.. لم يجرؤ أحد على الحديث، بعد دقائق كسر رضا (وهو رجل أربعيني تبدو من ملابسه حالته المادية المتواضعة) حاجز الصمت ونطق مع من حوله وكأنه يعرفهم.
بدا أنه خائف لكنه غاضب في الوقت ذاته، لم يمنعه خوفه من السخرية قائلاً "الحكومة رأت أننا مرتاحون أكثر من اللازم، ورأت أيضاً أن المترو مكيف وحالته جيدة وليس فيه زحام فقررت أن ترفع ثمن التذكرة". مضيفاً "حتى أن تذكرة المترو في باريس أغلى من تذكرة المترو في مصر".
الفرق بين #المترو بره وفي مصر pic.twitter.com/YFeGfoJh2T
— بوابة الوطن (@ElwatanNews) May 10, 2018
الحكومة تعرف ما الذي تفعله جيداً، قالها رضا متهكماً، وأضاف "وتعرف أن أغلبية الناس تقصد محطة العتبة أو الشهداء (رمسيس)، سواء لمن يقصد وسط البلد أو من يريد التبديل من خط الجيزة-شبر إلى خط حلوان-المرج، وبالتالي فإن نصف الركاب على الأقل سيضطرون لشراء تذكرة فئة 5 جنيهات لأن الـ9 محطات (قيمة تذكرتها جنيهان) ستنتهي حتماً قبل هذه المحطات"
ترقب وغضب..
حالة من الترقب والغضب سادت بين الركاب، بعد ساعات من قرار وزارة النقل المصرية الذي أصدرته مساء الخميس 10 مايو/أيار برفع سعر التذكرة الواحدة لمسافة تسع محطات من جنيهين إلى ثلاثة جنيهات (17 سنتاً أميركياً) وخمسة جنيهات لمسافة 16 محطة، وسبعة جنيهات لأكثر من 16 محطة، في زيادة هي الثانية خلال عام واحد.
ولأن القرار اتخذ عشية يوم الإجازة الأسبوعية الرسمية في البلاد، فكان من الطبيعي أن تكون ردّة الفعل بسيطة بالنظر إلى قلّة مرتادي المترو في يوم الجمعة وخصوصاً في ساعات الصباح الأولى.
"عربي بوست" نزل إلى المترو لرصد ردود الأفعال تجاه القرار الصادم الذي أفاق المصريون عليه لاسيما أبناء الطبقة المتوسطة والموظفين الذين يعتمدون على المترو كوسيلة مواصلات أساسية قد تستهلك ومع الإجراءات الجديدة ربع دخلهم الشهري على أقل تقدير.
يقول "رضا" إنه سيترك عمله لأنه سيدفع ما يقرب من نصف راتبه في المواصلات بعد أن رفعت الحكومة أسعار التذاكر إذ أنه يسكن في منطقة المنيب بجنوب الجيزة ويعمل في منطقة عابدين بوسط القاهرة، كان يدفع 8 جنيهات في المواصلات يومياً، لكنه اليوم سيدفع 16 جنيهاً يومياً، (أي 414 جنيهاً في 26 يوم عمل) بينما هو يتقاضى 1200 جنيه (70 دولاراً) شهرياً.
مواطن مصري بعد رفع أسعار تذاكر #المترو : إحنا بنتعاقب كشعب عشان قمنا بثورة على فساد بدأ من عام 52 #مصر pic.twitter.com/pCtsUXmt3z
— الجزيرة مباشر (@ajmubasher) May 11, 2018
ارتفعت قيمة التذكرة بنسب تتراوح بين 100 و250%، وتحولت حالة الصدمة التي اعتلت وجوه الركاب إلى مشاحنات داخل غالبية المحطات بسبب تخصيص شباك لبيع تذاكر فئة على غير المعتاد.
بانكسار واضح، وجه رضا حديثه لرجل ملتح يجلس إلى جواره "زوجتي كانت تغضب مني عندما أركب الميكروباص لأن المترو أرخص. الآن المترو أصبح أغلى، والميكروباص سيرفع الأجرة. ماذا أفعل؟ لا حل سوى ترك العمل".
في هذه اللحظة كان القطار قد وصل إلى محطة البحوث، فتدخل رجل على مشارف الستين قال إنه يرى في المقارنة بين سعر التذكرة في القاهرة ومثيلتها في باريس استخفافاً كبيراً بالناس. لأن دخل المواطن المصري 1400 في المتوسط وربما أقل، وهذا يساوي 200 تذكرة شهرياً، بينما لو حسبنا متوسط الدخل في فرنسا سنجد أنه يشتري مئات إن لم يكن آلاف التذاكر.
القرار يستهين بالمصريين..
هذا الحديث الجريء وسط عشرات الصامتين جعلنا نسأل الرجل عن رأيه فقال: القرار فيه استهانة كبيرة بسكان القاهرة.
أضاف مصطفى جاد لـ"عربي بوست": كان الرئيس السادات يسمي القاهرة "مدينة الأفندية الغلسين"، وقد دأب كل الرؤساء على تجنيبها الأزمات الكبيرة، وكانت أزمات التموين تجتاح مصر من الشمال إلى الجنوب ولا تظهر في القاهرة، خوفاً من غضب سكانها.
حاولنا تسجيل ما يقول فهمس لنا: "لا تورط نفسك، العربات مليئة بالمخبرين". وتابع حديثه وهو ممسك بحقيبة سوداء بيد واحدة بينما الأخرى يمسك بها الحلقات المتدلية من سقف المترو خشية الوقوع، "النظام السياسي الحالي كشف عن وجهه الحقيقي وهذه الزيادة في تقديري يمكن قراءتها من عدة أوجه: أولاً أنها هدية الانتخابات للمصريين. وثانياً أنه جسّ نبض للمصريين تمهيداً لقرارات أكثر صعوبة. وأخيراً وهذا هو الأهم أن هذا النظام لا يكترث بالناس ولا بردود فعلهم ويرفع شعار "بالجزمة" في وجه الجميع".
وأكد جاد أنه استقل سيارة من ميدان الرماية إلى محطة مترو الجيزة، وقال إنه كان يركب هذه المواصلة بجنيهين ونصف أو بثلاثة جنيهات على أقصى تقدير. أما اليوم، فإن سائقي الميكروباص قرروا تقسيم المسافة إلى خمس محطات (من الرماية إلى المريوطية ثم إلى العريش ثم إلى الطالبية ثم إلى نصر الدين ثم إلى الجيزة) وكل محطة يدفع الراكب جنيهين. وهناك من أمسك العصا من المنتصف فأبقى عليها مسافة واحدة لكن بأربعة جنيهات.
وإذا اعترض الركاب يقول لهم السائق بلا تردد: "روحوا اركبوا المتر أبو سبعة جنيه"
جاد كان عضواً بحزب التجمع اليساري، وقطع علاقته بالحزب بعدما أيد الأخير أحداث 3 يوليو 2013.
قرارٌ ملغم.. النظام يكافئ المصريين بعد الانتخابات
يرى جاد أن القرار ملغم ومتجاهل لاعتبار غضب الناس، يضيف لنا "الناس غاضبة والأمن متحفز كما ترى. لكن هذا التحفز لن يمحو ما بالصدور، فهذا القرار ستكون له تأثيرات حادة على المواطن. كان متوقعاً أن تكون الزيادة 50%، لكن ما حدث أمر كارثي، أنا مثلاً أستخدم المترو 4 مرات في اليوم، كنت أدفع 8 جنيهات. الآن سأدفع 20 جنيهاً. هذا فارق موجع جدا لكثيرين. والأصعب أنه ستصحبه زيادات أخرى خصوصاً في السلع الوسطية لأن تكلفة النقل سترتفع، تخيل أن الصندوق الكئيب الذي يسمونه النقد الدولي، يطالب الحكومة المصرية بفرض ضرائب تصاعدية على الأغنياء والابتعاد عن الفقراء حالياً، وكأنه صندوق النقد الدولي الاشتراكي، بينما الحكومة لا تقبل بذلك وتواصل الكشف عن وجهها الحقيقي.
تركنا جاد الذي كان في طريقه لحضور ندوة في دار الأوبرا، وعدنا إلى المترو مجدداً وواصلنا المتابعة، رجال ونساء يتحدثون على استحياء وبكلمات قليلة تنتهي غالباً بـ"حسبنا الله ونعم والوكيل"، حتى وصلنا إلى محطة المرج.
اقتحام الحواجز
في بعض المحطات قرر الركاب تجاوز الحواجز المعدنية والمرور دون شراء تذاكر، ونشر متابعون على مواقع التواصل مقاطع مصورة تظهر الركاب في اعتراضهم على قرار الحكومة بطريقتهم الخاصة
الغضب سيد الموقف..
من جانب آخر كان الزحام السمة المسيطرة على المحطة بسبب بطء بيع التذاكر وفوضى التنقل بين الشبابيك.
الطوابير امتدت لعشرات الأمتار وهو ما زاد من غضب الركاب أكثر، حيث إن تقسيمة شبابيك الصرف جاءت وفقاً لتعداد المحطات، ومع ذلك كانت هناك طوابير بها أعداد قليلة.
ونظراً لأنها منطقة شعبية فقد ترجم الغضب بردود فعل تباينت بين السباب والانفعالات، والشرطة من جانبها متماسكة وتحاول التعامل بحسم متجاهلة كل السباب الموجه للحكومة.
سيدة أرهقها الانتظار في الطابور طلبت من موظف الشباك تذكرتين إحداهما إلى محطة العتبة والأخرى إلى محطة شبرا، لكنه أعطاها الأولى وقال لها إن الثانية من الشباك المجاور له. هنا انفعلت معلنة أنها لا تستطيع الوقوف في طابور جديد ليتدخل شرطي بحزم ويأمرها بأن تتجه إلى الطابور الآخر في صمت. فما كان منها إلا أن ابتلعت غضبها وانصاعت للأمر.
مواطنون يقتحمون محطة المرج رفضا لزيادة أسعار تذاكر #المترو pic.twitter.com/bI5qLD8VMt
— شبكة رصد (@RassdNewsN) May 12, 2018
قوات الأمن بتحاول تفض مظاهرات مترو حلوان #المترو
Via: @amrsalama pic.twitter.com/5LmwPejoJ9— Ahmed Taha (@ahmed_taha25jan) May 12, 2018
نظام الدفع عبر رسائل مسجلة
بثت محطات المترو تسجيلاً صوتياً يشرح للمواطنين نظام الدفع الجديد ويعرض عليهم عمل اشتراكات سنوية أو نصف أو ربع سنوية بشكل متواصل. لكن الناس منهمكون في سؤال بعضهم البعض عن شبابيك التذاكر التي يجب أن يقفوا أمامها، خصوصاً وأن لوحات الأسعار الجديدة غير مفهومة للكثيرين.
اشتراكات مخفضة..
ناشدت وزارة النقل مستخدمي المترو بصفة مستمرة عمل اشتراكات مخفضة ومدعمة لـ 180 رحلة أو خلال الثلاثة أشهر (أيهما أقرب)، وتتضمن أنواع الاشتراكات للأشخاص غير الطلبة وذوي الاحتياجات الخاصة وكبار السن المرحلة الأولى حتى 8 محطات مبلغ 360 جنيهاً، وفيها يبلغ سعر التذكرة 2 جنيه بنسبة تخفيض 33% ومرحلة ثانية لعدد 16 محطة بمبلغ 450 جنيهاً، وفيها يبلغ سعر التذكرة جنيهين ونصف الجنيه بنسبة تخفيض 50%، ومرحلة ثالثة لعدد 26 محطة بمبلغ 535 جنيهاً وفيها يبلغ سعر التذكرة جنيهين و97 قرشاً بنسبة تخفيض 57.5% ومرحلة رابعة لعدد 37 محطة بمبلغ 700 جنيه، وفيها يبلغ سعر التذكرة ثلاثة جنيهات و89 قرشاً بنسبة تخفيض 44.4%.
انتشار أمني مكثف
شهدت سيارات المترو تواجداً أمنياً كثيفاً تحسباً لأي ردة فعل، أحد الشباب حاول تصوير طوابير الواقفين فتم توقيفه فوراً واصطحابه إلى غرفة الأمن، ولم تفلح محاولته كلها في إثنائهم عن اصطحابه إلى هناك. وهناك لا أحد يعرف ماذا جرى.
Posted by افتكاسات مصرى ام الاجنبى on Saturday, May 12, 2018
Posted by افتكاسات مصرى ام الاجنبى on Saturday, May 12, 2018
تطبيق لحل الأزمة
الشباب لم يضيعوا وقتاً، ساعات من بعد القرار وانتشر على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك تطبيق مبتكر لإبطال القرار، فذهب أحدهم للحديث عن تصميم أبليكشن على غرار تطبيقات أوبر وكريم لسيارات الأجرة يقوم الركاب من خلاله باستبدال تذاكرهم لتوفير نصف السعر، وتقوم الفكرة على أن يتم استبدال التذكرتين فئة 3 جنيهات بين اثنين من الركاب في اتجاهين متعاكسين بحيث لا تتجاوز مرحلة كل منهما الـ9 محطات المحددة لهذه الفئة من التذاكر.
فعلى سبيل المثال إذا استقل أحد الركاب المترو من محطة المعادي وآخر من منشية الصدر، فعليهما أن يتقابلا في محطة السيدة زينب ويتبادلا التذاكر، سيكون حينها راكب المعادي وصل إلى منشية الصدر وقد قطع 14 محطة بينما ماكينة الخروج ستتعامل مع التذكرة على أنها دخلت من المحطة ثم خرجت منها دون أن يجري صاحبها أي رحلات، وهكذا.
وكذلك راكب منشية الصدر لو أنه خرج من محطة المعادي سيكون قطع مسافة الـ14 محطة نفسها ولكن الماكينة ستتعامل مع تذكرته بنفس المنطق، وهو أن الشخص دخل إلى المحطة ثم خرج منها ولم يستخدم المترو أصلاً.
ولا تزال ردود الأفعال على المستويين الشعبي والرسمي مستمرة بعد القرار إذ تقدم نواب في البرلمان المصري بطلب استجواب لرئيس الوزراء ووزير النقل إثر الزيادة التي رأوا أنها تشكل عبئاً كبيراً على المصريين.