يوم الخميس 10 مايو/أيار 2018، كانت فاطمة بودشار تشاهد من منصة الزوار في البرلمان البريطاني الاعتذار الموجَّه لها ولزوجها المعارض الليبي عبد الحكيم بلحاج وهو يُقرأ.
وقالت رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي للزوجين، في الخطاب: "كان من الواضح أنَّكما تعرَّضتما لمعاملةٍ مُروِّعة وأنَّكما عانيتما كثيراً، وليس أقلها الإهانة لكرامة السيدة بودشار التي كانت حاملاً في ذلك الوقت"، وأضافت: "إنَّنا نشعر بالأسف الشديد على المحنة التي عانيتماها ودورنا فيها".
وقتها تذكَّرت فاطمة يوم اختُطِفت في مارس/آذار من عام 2004 من منفاها -كما تصفه- في جنوب شرقي آسيا، وسُجِنت سراً في واحدٍ من أسوأ أقبية السجون بليبيا. لكنَّ أشد أنواع التعذيب الذي تعرَّضت له في حياتها لم يكن على يد رجال العقيد معمر القذافي؛ بل في تايلاند على يد وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية.
نصف مليون جنيه إسترليني تعويض
وقال زوجها، الأمير السابق للجماعة الليبية المقاتلة، في وقتٍ لاحق، للصحفيين في تركيا، إنه "شعر بسعادةٍ عارمة"؛ لأن المسألة قد جرت تسويتها، وستدفع بريطانيا 500 ألف جنيه إسترليني (نحو 675 ألف دولار) تعويضاً لفاطمة، ولكنها لن تدفع أي شيءٍ لبلحاج، الذي طلب اعتذاراً فقط.
أما فاطمة بودشار، فتصرح لصحيفة The New York Times بأنها عرفت أنَّ جينا هاسبيل، التي كانت مسؤولة الاستخبارات المركزية وأدارت موقعاً سرياً في تايلاند عام 2002 يشبه ذاك الذي تعرَّضت فيه للتعذيب، قد وقع عليها الاختيار لتتولى قيادة وكالة الاستخبارات المركزية بأَسرها. وفي يوم الأربعاء 16 مايو/أيار 2018، ستعقد لجنة الاستخبارات بمجلس الشيوخ الأميركي جلسة استماع؛ للبتّ فيما إذا كانت مؤهَّلة لتولي إدارة الوكالة.
وتريد أن تسألها، إذا ما سنحت لها الفرصة بمقابلتها، عما إذا كانت تعرف باختطافها وتعذيبها؟ وهل شاركت في ذلك؟ وماذا ستقول إذا طلب منها الرئيس ترمب أن تقوم بأمرٍ مشابه ثانية؟
ويأتي الاعتذار في وقتٍ غير مُرحَّب به بالنسبة لوكالة الاستخبارات الأميركية بشكلٍ خاص، حيث تخضع مُرشَّحة إدارة الرئيس الأميركي، دونالد ترمب، لقيادة الوكالة، جينا هاسبيل، لتدقيقٍ مُكثَّف هذا الأسبوع حول دورها بموقع اعتقال سري في تايلاند، وهو البلد نفسه الذي كان الزوجان الليبيان مُحتَجَزَين فيه في السابق.
وانتقد بلحاج، وهو الآن سياسي في ليبيا يرأس حزب "الوطن"، ترشيح هاسبيل، التي أشرفت في عام 2002 على "موقع أسود" للاستخبارات الأميركية في تايلاند، والذي قال أنَّه بدا مثل المكان الذي كان مُحتجزاً فيه.
وقال بلحاج: "ما الذي يعنيه أن يُرقَّى شخصٌ ما ويُكرَّم، وهو شخصٌ أشرَفَ على سجنٍ سري في تايلاند حيث كان يُمارس التعذيب؟".
خدمات سرية لنظام القذافي
وتمت عملية اختطاف الزوجين، في وقتٍ كانت فيه وكالتا الاستخبارات البريطانية والاستخبارات الأميركية تقتربان من حكومة القذافي، وأصبح دور جهاز الاستخبارات البريطاني معروفاً فقط في عام 2011، بعد أن اكتشف باحثون من منظمة "هيومان رايتس ووتش" المراسلات من مسؤولٍ بريطاني كبير في مكتب موسى كوسا، وهو رئيس مُخابرات حكومة القذافي.
وفي رسالة تهنئة لكوسا لوصول بلحاج بأمان إلى ليبيا، أخذ مارك ألين، رئيس قسم مكافحة الإرهاب في جهاز الاستخبارات البريطاني، الفضل فيما يتعلَّق بدور بريطانيا في تسليمه، وهو الذي وصفه بأنَّه "أقل ما يمكن أن نفعله لك ولليبيا".
وبيَّنت الوثائق المؤرخة في 2004، أن بلحاج احتُجِزَ هو وزوجته، التي كانت حاملاً في شهرها الرابع، بماليزيا، بناءً على معلوماتٍ سرية من عملاء الاستخبارات البريطانية، الذين أخبروا نظراءهم الأميركيين بأنَّ الزوجين يُشتَبَه في أن لديهما علاقات مع تنظيم القاعدة.
وبعد أن نُقِلا جواً إلى تايلاند، نُقِلا إلى موقعِ اعتقالٍ سري خاص بالاستخبارات الأميركية، حيث قال بلحاج إنَّه تعرَّض للتعذيب لمدة يومين. ثم نُقِل الزوجان لاحقاً جواً إلى ليبيا، حيث احتُجِزَ بلحاج في سجن أبو سليم سيئ السمعة في العاصمة الليبية طرابلس. ويقول إنه تعرَّض للتعذيب بدرجة كبيرة وحُكم عليه بالإعدام قبل إطلاق سراحه في عام 2010.
دروس للحكومة البريطانية
في رسالة اعتذارها الموجَّهة إلى بلحاج، قالت رئيسة الحكومة البريطانية: "لقد أسهمت تصرُّفات حكومة المملكة المتحدة في اعتقالك، وتسليمك، ومعاناتك".
وكان قد تم ذكر اسمَي ألين رئيس الاستخبارات البريطانية السابق، ووزير خارجية بريطانيا الأسبق جاك سترو، في الدعوى الأصلية، لكن سُحِبَ اسماهما بموجب اتفاقٍ في مايو/أيار 2018. وبموجب تسوية، لم تعترف بريطانيا بتحمُّلها أي مسؤولية، ولكنّ ماي قالت إنَّ الحكومة "تعلَّمت الكثير من الدروس من هذه الفترة".
وكتبت في رسالتها: "كان يجب أن نفهم في وقتٍ مُبكرٍ أكثر، الممارسات غير المقبولة لبعض شركائنا الدوليين".
بعد قراءة الاعتذار، خرجت فاطمة بودشار من البرلمان البريطاني وهي ترتدي وشاحَ رأسٍ ونظارة سوداء، مع ابنها الذي كانت حاملاً به يوم اختُطفت وعُذبت، يبلغ من العمر الآن 14 عاماً، كانت تحمل عالياً نسختها من خطاب الاعتذار بفخر واعتزاز وهي تقول: "اعتذرت الحكومة البريطانية بعد 6 سنوات".