دقَّ الهاتف الخلوي، عرفتْ مروة أنها المكالمة التي كانت تنتظرها بعد ثلاثة أعوام من الانتظار، صوت متهدّج على الطرف الآخر جعلها تشعر أنها لم تعد واثقة مما كانت تريد سماعه.. لكن المفاجأة.. عمر على قيد الحياة.
كان ضوء النهار يتسلَّل عبر نوافذها، وتلمس حرارته جسدها، فطلبت من المتصل أن يخبرها بكل شيء، فقط تريد علامة أنه لا يزال يتذكرها، وأنه حزين لأنه تركها هكذا دونما إنذار مسبق.
وضعت الحرب السورية مروة وعائلَتها في المواجهة مع المأساة، مثل كثير من السوريين، لم تختر مروة تضحيات زوجها، لكنها بالطبع دفعت ثمنها، بحسب ما ذكرت Washington Post
حب من النظرة الأولى
بدأت قصة الحب بينهما بإشارة منها، كانت في الثامنة عشرة من عمرها آنذاك، للتو أنهت دراستها في المدرسة، كان عمر أكبر سناً وأكثر اتّزاناً، لكن ابتسامته كانت مُعدية، تقول مروة إن الابتسامة كانت تملأ وجهه، لدرجة كانت لا تستطيع منها إلا أن تضحك أيضاً.
كأي فتاة تظاهرت في البداية أنها تتجاهل نظراته، وفي يوم من أيام ربيع 2006 حين كانت في زيارة إلى متجره لبيع الأجهزة الإلكترونية في وسط دمشق مع أسرتها، لشراء ثلاجة بالتقسيط، لم يكن عمر يتوقع زيارةً من الشابة التي بادلته ابتساماتها الهادئة، والتي ظلَّت تتفقد الأرفف دون النظر إليه، كانت تعرف أنه كان ينظر إليها بينما كانت تغضّ الطرف هي، وكان يدرس كل تفصيلة فيها كما قالت.
استجمع عمر شجاعته، واقترح أن يتسلم الأقساط من منزل العائلة، شعرت مروة بالحماس الشديد؛ إذ إنها كانت تعرف أنَّ والدها ليست لديه أي فكرةٍ عما يجري، وحين سارت على أطراف أصابعها لتدخل غرفة المعيشة وتُقدم القهوة العربية للرجال، التقت عيناها بعيني عمر البُنيتين لوهلة.
بعدها، كانت تتصل بالمتجر كل يوم، فقط لتسمع صوته. قالت: "كنتُ أغلق سماعة الهاتف بسرعة ما إن يرد، خوفاً من أن يكون قد أدرك أنَّني المتصلة. لكنَّه كان يعرف دوماً، وأُغرمنا ببعضنا في غضون خمسة عشر يوماً".
تزوجا بعدها بمدةٍ قصيرة، وحين حملت مروة بابنهما الأول، تدخلت عائلة عمر لتشتري لهما منزلاً بضاحية داريا المبنية بالطوب الرمادي. كانت الشقة بالكاد أكبر من غرفة نوم، لكنَّهما كانا سعيدين في ملجئهما الصغير المُرتفع فوق زحام المرور، والمبتعد عن الأعين المتلصِّصة لرجال الشرطة ذوي الملابس المدنية في شارعهم.
ناقوس الخطر يدق أمان العائلة الصغيرة
بالخارج، كان العالم يتغيَّر، انتشرت التظاهرات المناهضة للحكومة من تونس إلى مصر إلى ليبيا. وبحلول شهر مارس/آذار عام 2011، جاء الدور على سوريا، قال السكان إنَّهم كانوا يشعرون في بعض الأحيان بأنَّ أهل داريا عن بكرة أبيهم في الشوارع، يرفعون الورود عالياً ويزأرون بالهتاف في تناغم، ويتردَّد صدى الهتافات بين الخرسانة والغبار.
تتذكر مروة أنَّ عمر كان منتشياً، يقضي ساعاتٍ طوالاً على الشبكات الاجتماعية، يحاور الآخرين عن حُلم الثورة والخلاص، كبر الحلم مع مرور الأيام وكانت التظاهرات تعصف بالبلاد، والاحتجاجات في داريا -التي يعتبرونها مهد الثورة- تزداد حماسةً. كل ليلة ينضم عمر إلى الحشود التي تجوب أرجاء البلدة هاتفةً: "ارحل ارحل يا بشار!" و"مش خايفين مش خايفين!".
لم تقْدِر مروة على مشاطرة زوجها أحلامَه، شعرت بأنَّ الأمر كله أخرق وسريع أكثر من اللازم، ولم يبدُ بشار الأسد في مزاجٍ يسمح بالتنازل. وكلما تجهَّز عمر لينضم إلى حشود المتظاهرين كانت تتوسل إليه ألَّا يذهب، ثم تنتظر عودته. وكان فزعها يتزايد وهي تصغي إلى عمر ووالده يتجادلان حتى وقتٍ متأخر من الليل، ويقول الوالد إنَّه ورفاقه يلعبون بالنار. كانت الاحتجاجات بلا خطة، وبلا اتجاه. وكانت الحكومة قد قتلت عشرات الآلاف من المعارضين بعد اندلاع تمردٍ قبل ثلاثة عقود. ولكنَّ والد عمر قال له: "هذه المرة ستكون أسوأ".
أحياناً، في منتصف الحوار بين الأب وابنه، كان هاتف عمر يطن بإشعارات رسائلٍ من أصدقائه يريدون الحديث عن التخطيط والثورة. وفي كل مرة تقريباً كان عمر يذهب إليهم، تاركاً مروة وحدها مع ابنهما.
وصلت الدبابات إلى أطراف المدينة، والبنادق إلى أيادي المتظاهرين بحلول الخريف. وفي شهر سبتمبر/أيلول الذي يليه، قتلت القوات الموالية للأسد الناس في شوارع داريا جهاراً، بينما دكَّ الجيش بيوت المدنيين بالقنابل وقذائف الهاون. تحوَّل قلق مروة إلى خوفٍ تام، لكنَّ عمر بقي رافضاً للرحيل. لقد صار أصدقاؤه مطلوبين من الحكومة، ولو هرب لن يطيق نفسه. وجد طريقةً لتهريب مروة عبر خطوط القتال ونقاط التفتيش إلى دمشق.
وبعد أيام عرفت مروة أنها حامل بطفل آخر، كان عمر يختبئ، وقال لها أصدقاؤها إنَّ الشرطة تبحث عن المطلوبين من الباب للباب. وحين تحدثت إليه أخيراً، كان صوته الذي اعتادته هادئاً قوياً يرتجف من الخوف.
قالت مروة "لم يكن عمر يعرف كيف يمكن أن نحظى بطفلٍ في وقتٍ كهذا، كان خائفاً، لكنه قال إنَّه يحبني". اتفقا على أنَّ لبنان المجاور هو المكان الأكثر أمناً بالنسبة لها في ذلك الحين، لكن حين امتطت سيارة تُقلّها إلى بيروت في عصر يوم من أيام نوفمبر/تشرين الثاني، لم تكن تعرف أنَّ غيابهما سيطول.
في مقر أمن الدولة
لم يحُل القمعُ الحكومي واسع النطاق دون سقوط سوريا في هوة الحرب الأهلية. فكلما اعتقل النظام أناساً أكثر، تضاعفت أعداد جماعات المعارضة المسلحة كل يوم.
وفي الشهر التالي، بحلول الوقت الذي عادت فيه مروة إلى دمشق في رحلةٍ قصيرة لترى عمر، كان جو العاصمة مختلفاً. صارت المحادثات مقتضبة، وبدا على الجميع القلق. كانت تتفقد ثياب الأطفال في واجهات المتاجر حين اقتربت مجموعةٌ من الرجال من عمر في الشارع ،يرتدون ثياباً مدنية، تيبَّس جسده حين تحدَّث معه أكبرهم. انسلّت إلى جانبه في ثوانٍ، وقرأت الرجاء الصامت على وجهه. قالت "كان كما لو أنَّه يطلب مني أن أسير مبتعدةً، ولا أخبرهم أنَّني زوجته. أخذونا نحن الاثنين".
في فرع أمن الدولة رقم 40، مبنى كئيب سقفه أحمر، شاهدت مروة زوجها عارياً إلا من ملابسه الداخلية، دفعه المحققون إلى كرسيٍّ متهالك. انهمرت الأسئلة سريعةً وقوية. قالوا إنَّ المتظاهرين إرهابيون. ماذا كان عمر يفعل معهم؟ هل هو إرهابي؟ هل أصدقاؤه إرهابيون؟ حين أخرج ضابط الاستجواب أدواته، حاولت مروة أن تشيح بنظرها بعيداً. أمسك الحارس بخديها وأجبرها على أن تُمعن النظر في زوجها حين كان رجال الأمن يقومون معه بمهمتهم.
لا تتذكر مروة سوى ومضات. عمر يصرخ بينما يضرب المحققون رأسه وبطنه بقضيب حديدي.
الدم في كل مكان، لكنَّ عمر لا يخبرهم بشيء. فمُها جافٌّ لدرجة أنَّها بالكاد تقدر على ابتلاع ريقها، تقدَّم ضابط ووضع سكيناً صغيراً بارداً على بطنها الحامل، فتجمَّد وجه عمر المتورِّم.
قالت مروة "أخبرهم بكل شيء. أفصح عن أسماء أصدقائه، ثم أخرجوه من الغرفة وطلبوا منها الرحيل"، لقد انتهى الاستجواب.
امتلأ رأسها بالأسئلة بينما كانت تسير مبتعدةً في الممر الطويل، متظاهرةً أنَّها لا ترى المساجين المصطفِّين على كل جانب مواجهين الحائط. بالقرب من المدخل، ظنَّت أن واحداً منهم هو عمر، كان لحم جسده مغطًى بالدماء والسحجات من أثر الضرب. لكنَّ مرافقها أمرها بأن تنظر أمامها ولا تلتفت. قال: "يجب أن تنسي أين كنتِ وما رأيتِه، استمرِّي في السير".
انكسار على الطريق
أمطرت السماء بينما كانت تسير مبتعدةً عن حيث يقبع حبيبها، مشت بخطواتٍ متثاقلة، وتعثرت تحت المطر المُتجمِّد. وحين هبط الليل، كانت قد فقدت إحساسها بالوقت. كانت تجهش بالبكاء، وفي جيب بنطالها محفظة عمر الفارغة إلا من بطاقة هويته. تعقَّبها جندي بسيارته في طريقها إلى المنزل حتى ملَّ، وأطلَّ برأسه من خلف المقود ليعرض عليها اصطحابها إلى المنزل.
في بيت عمَّتها، كانت بالكاد تقوى على الكلام. ولا تتذكر مِن هذا أيضاً إلا ومضات. ضجيج العائلة، برودة جسدها ووهنه، وابنها سامر يصيح: "لماذا تركتني أنتِ وبابا؟ لقد انتظرتكما؟ لماذا تركتماني؟".
ولادة في المهجر
ولدت مروة ابنها الثاني يوسف في لبنان، كانت قد رفضت مغادرة المنزل حين أحست بانقباضات الولادة الأولى، ولم يسليها شيء عن فكرة أنَّها ستلِد بدون عمر. لكنَّ خوفها تبلَّد مع الوقت، وتعلَّمت يوماً بيوم بينما يكبر وليدها مُجعَّد الشعر ما تعنيه حياة اللاجئ والأم العزباء، من بين مئات الآلاف مثلها ممن شتّت النزاع شملَهم، لا يدرون ما إن كان أحباؤهم المساجين قد نجوا أم أن الموت شملهم.
منزلها الصغير القابع على أطراف بلدة في وادي البقاع الممهد كان يعج بالناس. يأتي أقاربها ويذهبون، يساعدونها في العناية بالأطفال، ويرون أسنان يوسف اللبنية وهي تنمو، وسامر يذهب إلى المدرسة، ويتكيّف مع حياته في بلدٍ غريب. لكن لم يملأ شيءٌ الفراغ بقلبها بعد.
رفض سامر، البالغ من العمر 6 أعوام، أيَّ إشارةٍ إلى أنَّ والده لن يعود، حتى وإن كان يذكر شكله بالكاد، إلا من الصور التي أرتها له أمه على جوالها. ومع الوقت، سيفعل يوسف مثل أخيه.
تتذكر مروة كلَّ شيء. تتذكر اليوم الذي وقف عمر أمام عدسة كاميرتها في 2011، يبتسم، ويحمل علم الانتفاضة بألوان الأخضر والأبيض والأسود عالياً. كيف كانت حياتهما هادئة حين كان يعود إليها بعد عناء يوم طويل، وكيف كانت ضحكة عمر، كانت عميقةً جداً كأنَّها تأتي مباشرةً من بطنه.
شعرت مروة بأنَّ الانتفاضة كابوس. سألت نفسها "بماذا نفعتني حريتهم؟". أخافتها التظاهرات، لكنَّها كانت تتفق مع أهدافها، نحو مستقبل بلا خوف. الآن هي على استعداد لمقايضة كل هذه الأهداف، مقابل يومٍ واحد معه.
تساءلت عمَّا سيجده عمر إن حدث هذا، فقد غيرتها الأعوام: "لم أعد أنا، لم أعد الفتاة نفسها". لكنَّها تخاف أيضاً من أنَّها لم تتغير بالسرعة الكافية، ولم تلبِّ احتياجات ابنيها. أول مرة تعرَّض فيها سامر للضرب في المدرسة لأنَّه غريب قالت له أن يبتعد عن المشكلات. هم ضيوف على لبنان وعليهم الحذر.
وفي لحظات تأملها، لا تستطع مروة تصديق احتمالية نجاة عمر. ستكون نجاته من القسوة التي شهدتها مروة معجزةً بكل المقاييس.
وحين سرَّب منشقٌ عن الجيش السوري صوراً من سوريا تُظهر أجساداً محطمة من سجنٍ قريب، فحصت مروة الصور بدقة. تراءى لها أنَّ أحد الأجساد يبدو كجسد عمر. لا بد أنَّه ميت.
ولن تعرف مروة غير ذلك أبداً.
الوافد الجديد
داخل فرع الخطيب التابع لأمن الدولة، أحد أفرع الجهاز الأسوأ سمعة في وسط دمشق، كان يقبع عمر في زنزانةٍ، أبعادها أربع ياردات في خمس، مع عشرات السجناء الآخرين. وفي أنحاء البلاد، اختفى عشرات الآلاف، ووُزِّعوا على مراكز التعذيب. وبعد أشهرٍ من سجن عمر، انضمَّ إليه في الزنزانة رجلٌ من عمر زوجته مروة، اسمه محمد، كان يرى التظاهرات هو الآخر فجر أملٍ جديد.
بُهِت الوافد الجديد حين التقى بجاره. يستعيد محمد كيف تعرَّض عمر لتعذيبٍ مُروِّع. في الصور التي شاركتها العائلة، يظهر عمر بصدرٍ عريض وذراعين كبيرين ليحيط بمروة وسامر معاً. لكن حين التقى به محمد، كانت عظمة الترقوة بارزة تحت جلده.
تحدث الرجلان كل ليلة دفعاً للملل واليأس، ملأتهما الاعترافات الزائفة المتكررة تحت التعذيب بالخزي. وحين ظهر الحراس كل أسبوع ليستدعوا مساجين بعينهم لا يعودون بعدها أبداً، بدأ كلاهما يصدقان الشائعات المتناثرة بأنَّ عمليات الإعدام في تسارُع.
قال محمد إنَّ المساجين الذين تشبَّثوا بذكرياتهم عن أحبائهم خارج أسوار السجن قد أُصيبوا بالجنون: "أجبرتُ نفسي على نسيان كل من استطعتُ نسيانهم، لكنَّ عمر رفض".
في بعض الليالي لم يكن عمر يتحدَّث إلا عن ذكرياته السعيدة في داريا، وأيام زواجه الأولى. وفي بعضها الآخر كان الذنب يمزّقه. يشعر بالذنب لأنَّه ترك مروة خلفه مع طفل لم يره أبداً.
لم يكن يعرف أين هي، لكنَّه يعرف أنه تركها وحيدة. قال محمد: "أراد أن يعود إليها ويصحح الأمور".
في النهاية افترق الرجلان. التقيا مرةً واحدة بعدها، في أواخر الليل في ممر السجن. حين تعانقا، كان عمر أكثر نحولاً مما يتذكر محمد. ظنَّ محمد أن الوضع لا أمل فيه، لكنَّ عمر أصر: "سنخرج من هنا".
عمر على قيد الحياة
ظلّ عمر في فكر محمد حين أُطلِقَ سراح الأخير من السجن بلا تفسير، في ديسمبر/كانون الثاني 2013. كانت الأشهر الأولى خارج السجن ضبابية، منها 10 أيام في دمشق، ثم عبر لبنان وتركيا، ثم عبور البحر المتوسط في قارب تهريب، لكنَّ صورة صديقه لم تفقد بريقها في عينيه.
بحث محمد بعد وصوله إلى هولندا عن اسم زميل الزنزانة على فيسبوك. وحين عثر على صفحة امرأة بدا أنَّها أم عمر، كتب لها رسالةً أخيراً. وردت على الفور.
في غضون أسبوع، كان بحوزته رقم هاتف زوجة عمر، وبينما أمسك بالهاتف بقوة شاعراً بالتوتر في ظهر أحد الأيام، كتب الرقم وانتظر. حين ردت السيدة على الجانب الآخر، عرَّفها بنفسه، وشرح لها الأمر بأفضل ما في وسعه.
على الجانب الآخر من الخط، على بعد ألفي ميل في لبنان، كان الصمت. كان رأس مروة يدور، وكانت تعرف أنَّها ما زالت في غرفة المعيشة ببيتها، لكنَّ جسدها كان في مكانٍ آخر بعيد تماماً.
قالت: "كنتُ معلقةً بين السماء والأرض".
كان محمد يحكي لها عن عمر. كيف كان السجانون ينادونه برقم السجن، وكيف قضى كل ليلة يضع الخطط لكي يعود إليها.
وحين تأكد محمد من أنَّها تصدقه، أخبرها بأنَّه يحمل رسالةً أخرى: "هو يريدك فقط أن تسامحيه". وحين لم يسمع شيئاً من الجانب الآخر، أكمل كلامه: "إن منحه الله القوة وخرج من هناك، يقول إنَّ محاولاته لن تتوقف أبداً لكي يعوضك".
ساد الصمت لفترةٍ أطول بعدها، وهنا أدرك محمد أنَّ مروة تبكي.