عندما تُدرِّس على وقع صوت القذائف والشظايا، فأنت أخصائي نفسي أكثر من كونك مُعلماً. عليك أن تكون حذراً للغاية وأنت تتحدث إلى الأطفال بشأن صدماتهم وقصصهم الشخصية، عندما نتعرض لقصفٍ عنيف، عليك إخبار الأطفال بأنَّهم أبطال؛ لأنَّهم ما زالوا يذهبون إلى المدرسة، لقد كانت مهمة صعبة للغاية".
هكذا شرح عبدالكافي آل حمدو طبيعة عمله باختصار، الذي يلزمه بتدريس الأطفال في إدلب، التي تتعرض مثل كثير من المدن السورية لاشتباكات مستمرة، ولقصف دائم. عبدالكافي هو مدرس لغة إنكليزية في سوريا، يحب كوليردج وشكسبير، ويدرّس حالياً لطلابه رواية "قلب الظلام" للأديب الإنكليزي جوزيف كونراد.
في عام 2016، أُجلِيَ كغيره من قلب الظلام الكامن في بلده سوريا، مدينة حلب، حيثُ كان يدرِّس لأطفال المدارس الذين يعانون الصدمة في الأقبية والمباني التي تعرَّضت للقصف بجميع أنحاء الحصار، حتى في أثناء شعورهم بالجوع القارس. وهو الآن يعيش ويعمل في مقاطعة إدلب الشمالية الغربية، التي تسيطر عليها المعارضة حيث يكافح هو وزملاؤه من المعلمين بالقليل من الموارد والدعم لتعليم الجيل القادم؛ أولئك الذين سوف يشكلون المستقبل.
إدلب، أكبر محافظةٍ في سوريا خارج سيطرة نظام الرئيس بشار الأسد، شهدت زيادةً مطردة في أعمال العنف خلال الأشهر الأخيرة، مع ازدياد غارات القصف الروسية والسورية، ووصول اللاجئين الفارين من مناطق أخرى مزقتها الحرب. وهذا، وفقاً لعبدالكافي، يزيد من أهمية استمرار المدرسين السوريين في تأدية عملهم؛ إذ يقول: "نريد أن يستمر التعليم؛ لأنَّنا لا نريد أن يفكر هؤلاء الأطفال الصغار أو الطلاب في حمل البنادق. دون وجود المدارس، سيحملون السلاح، لكنَّ وجودهم في المدرسة يحافظ على كونهم طلاباً لا أكثر".
نوادٍ ترفيهية للأطفال..
ووفقاً لأنَّا نولان، مديرة مجموعة حقوق الإنسان "حملة سوريا"، فإنَّ إدلب تكتظ بما لا يقل عن 2.5 مليون من السكان المحليين واللاجئين، وتوُصَف بأنَّها "منطقة صراع ساخنة". هناك احتياجٌ ضخم للمساعدات الإنسانية وغياب للتعليم الحكومي، لكنَّ أنَّا تقول إنَّ هناك جهوداً ملحوظة تجري على الأرض للحفاظ على المجتمع المدني؛ إذ يُعِد المدرسون مدارسهم الخاصة ودروسهم الجامعية، وغالباً ما يؤدون وظائفهم طواعيةً دون أجرٍ لبناء مزيجٍ غير عادي من مصادر التعليم التي يجهزونها بأنفسهم.
أنشأ البعض نوادي خاصة بفترة ما بعد المدرسة، تقدم دروساً رسمية وفنوناً إبداعية وتدريباً مهنياً، في حين يقدم غيرهم ممن أُجبروا على إخلاء المباني على يد جماعات المعارضة حصصاً في الهواء الطلق، أو عبر تطبيق واتساب. وتقول أنَّا: "هناك إرادة حقيقية. ما نسمعه مراراً هو أنَّهم يعرفون أنَّ التعليم مفتاح المستقبل، وهذا هو الجيل الذي سيعيد بناء سوريا. يعد عمق وإبداع الخدمات المقدمة أمراً لا يصدق".
في إدلب.. القنابل ما زالت تسقط
العديد من المدرّسين الذين يعملون الآن في إدلب هم أنفسهم من النازحين، ومنهم عبدالكافي، الذي فرَّ من حلب مع زوجته وابنته الصغيرة دون أن يأخذ معه أي شيءٍ آخر. في إدلب، ما زالت القنابل تسقط، ويقول عبدالكافي: "هناك دائماً قصف. هذه هي حياتنا". لكن لا شيء يشبه تجربته في حلب؛ إذ يروي عبدالكافي: "كانت الظروف في حلب غير عادية. كنتُ في كل يوم عندما أذهب إلى المدرسة لأرى طلابي -كانوا مثل أولادي- أتفقد مَن الغائب، ومَن على قيد الحياة، ومن مات، ثم أبدأ بتدريسهم.
كنا نتوقف عدة مرات بسبب التفجيرات، نذهب إلى قبوٍ ما مدة ساعة أو ساعتين، وبعد توقف القصف نعود مرة أخرى إلى صفوفنا ونستأنف دروسنا. إذا كان القصف ثقيلاً، ندع طلابنا يعودون إلى منازلهم".
في أبريل/نيسان 2015، تعرَّضت مدرسة سعد الأنصاري -حيث كان يعمل عبدالكافي- للقصف بصاروخ. كان عائداً من الملعب عندما وقع انفجارٌ في المبنى؛ ما أسفر عن مقتل 4 مدرسين و3 طلاب وإصابة عشرات آخرين، يتذكر قائلاً: "قفز قلبي من مكانه. رأيتُ الطلاب يركضون للخارج والدماء على وجوههم. كانوا يصرخون في هلع: (هل رأيت أخي الصغير؟ هل رأيت أختي؟) لم يدروا ماذا يفعلون. معظمهم كانوا يركضون دون أحذيتهم وكتبهم، دخلت ورأيت الدماء في كل مكان.
ومنذ ذلك الوقت، أُخليت المدارس الكبيرة، ونظم المدرسون صفوفهم في مدارس صغيرة مؤقتة داخل الأحياء المحلية؛ حتى لا يضطر الأطفال إلى التحرك لمسافةٍ بعيدة من أجل الذهاب إلى المدرسة.
عانى الأطفال صعوبةً في التركيز؛ بسبب إصابتهم بصدماتٍ نفسية نتيجةً لتجاربهم، لكنَّ معلميهم حاولوا الحفاظ على الأمور طبيعيةً بالنسبة لهم. كانوا لا يزالون يؤدون امتحاناتهم العامة مختبئين في أقبيةٍ بعيدة عن القصف، ظروف شديدة السوء عاشوها، لكنها لم تؤثر في تقدمهم الدراسي.
استمرار التعلم رغم التهديدات
الآن في إدلب، يُدرِّس عبدالكافي علم اللغة والرواية الحديثة في جامعة حلب الحرة بريف إدلب للطلاب الذين فروا من المناطق التي يسيطر عليها النظام. افتُتحت الجامعة في عام 2016 بصفتها أحد المراكز القليلة المتبقية للتعليم العالي في البلاد، وفي الأيام التي تعاني فيها المدينة قصفاً عنيفاً وخطراً كبيراً، يتلقَّى الطلاب دروسهم عبر تطبيق واتساب، في حين يتلقى بعض طلاب كلية الطب محاضراتهم عبر الإنترنت من أطباء بالولايات المتحدة.
قاوم الطلاب والمدرسون محاولة استيلاء على الجامعة من جانب الفصيل العسكري المسلح "هيئة تحرير الشام". وعندما رفضوا تسليم الجامعة، هدَّد الفصيل الجامعة ومنعهم من استخدام المبنى للمحاضرات؛ لذلك نظَّم عبدالكافي وزملاؤه الدروس بالخارج. ويقول: "قد لا يكون ذلك آمناً بالنسبة لي كمدرس، لكن لا يمكننا الاستسلام".
مأساة تتجدَّد..
في قرية أطمه، الواقعة شمالي إدلب بالقرب من الحدود التركية، افتتحت سوسن العبار مدرسة ابتدائية تسمَّى "اقرئي وارتقي" للفتيات. زوجها هو مدير المدرسة. التحقت بها 120 فتاة، جميعهن نزحن من قراهن ومدنهن بسبب الحرب. هناك القليل من الموارد التعليمية؛ لذا يجب على سوسن وزميلاتها أن يكنَّ مبدعات، مثل أن يبحثن عن المواد التعليمية على الإنترنت ويطبعنها لطالباتهن.
في غياب الكثير من الأمور الأساسية الأخرى، اتخذت المدرسة دوراً مركزياً في حياة الأطفال، وتقول سوسن: "بعض الأطفال ينادونني ومعلمات أخريات بماما أو عمتي. ما يبقيني مستيقظة في أثناء الليل هو القصف الجوي. نضطر إلى التغيب عن المدرسة في بعض الأحيان، وهو أمرٌ مثير للقلق بشدة".
في الوقت نفسه، بمدينة معرة النعمان في محافظة إدلب، أسست المعلمة مريم شيرويت مركزاً معنيّاً بتعليم الأطفال بالمنطقة، في أثناء فترة ما بعد المدرسة. في الصباح، تُدرِّس بمدارس المدينة التي لا تزال تعمل -كانت مدارس حكومية في السابق لكنَّ المنظمات غير الحكومية استولت عليها- وفي فترة ما بعد الظهيرة، تفتح أبواب مدرستها الخاصة للأطفال الذين تتراوح أعمارهم من 4 أعوام إلى 15 عاماً. تُسمى المدرسة "بالعلم نرتقي". بدأت مشروعها عام 2013، لكنَّه نما، ويعمل حالياً على تعليم ما بين 150 و200 طفل من جميع أنحاء المدينة.
تقول مريم: "التعليم هو العمود الفقري للمنطقة. بغضِّ النظر عما قد يحدث، سأعمل حتى اللحظة الأخيرة. عندما أرى الأطفال يأتون إلى المركز في أثناء القصف؛ لأنَّهم يريدون قضاء بعض الوقت مع أصدقائهم، أعجز عن التفكير في إيقاف أي شيءٍ على الإطلاق".
تُدرِّس مريم و5 من زملائها القراءة، والكتابة، والرياضيات، واللغة الإنكليزية، والعربية، ويقدمون أيضاً أنشطةً خارج المنهج الدراسي، من ضمنها الدراما، والغناء، والتدريب المهني على حِرفٍ مثل الخياطة، وتقول: "تُقدم مدرستي أيضاً الدعم النفسي والاجتماعي للأطفال؛ لمساعدتهم في التعامل مع التجارب المؤلمة التي يمرون بها".
القصف يمكن أن يؤثر بطبيعة الحال على عملهم، لكنهم يحاولون جاهدين الاستمرار، حين تتعرض المدارس لقصف مكثف يتوقف العمل أياماً، أو شهوراً في بعض الأوقات، لكنهم مستمرون في تقديم الدعم للأطفال.
في المدينة الواقعة على خط النار أصبح الأطفال بالغين قبل الأوان، فقط يقاومون للبقاء على قيد الحياة، مشتتين دائماً، ما يصعب عليهم عملية التعلم. يقول معلموهم لا يمكنهم سؤالهم عما يريدون أن يكونوه في المستقبل، لأن المستقبل لا يتَّضح لهم في الأفق القريب.