المنطقة التي كانت مهداً للحرب العالمية الأولى، عادت بؤرةَ توترٍ من جديد تتنافس فيها الإمبراطوريات والأعراق والديانات.
إذ يحذر محللون من أن تصبح منطقة البلقان، الخاصرة الضعيفة لأوروبا، ساحة حرب باردة جديدة.
فروسيا توسع نفوذها وتزيد من التوترات العرقية في بلدان البلقان التي تأمل الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، حسب تقرير لصحيفة The New York Times الأميركية.
وأثار ذلك انتباه واشنطن بشأن المخاطر الأمنية التي يمكن أن تتعرض لها الدول الأعضاء بحلف شمال الأطلسي (الناتو).
لماذا يهتم الروس بهذه المنطقة تحديداً؟
يشعر الروس بأنهم قوة عظمى، وأنه يجب أن يكون لها دور في البلقان، حسب صحيفة The Washington Post الأميركية.
تاريخياً، كان ذلك لسببين: أولاً، مصالح الإمبراطورية الروسية في السيطرة على مضيق البوسفور؛ إذ إنه المعبر الوحيد بين البحرين الأسود والمتوسط.
وثانياً؛ لأن الكثير من الروس يشعرون بقوة بأن "السلاف" يجب أن يتحدوا عبر الحدود، وهو توجُّه يسمى "القومية السلافية"، ويرون أن هناك "علاقة خاصة" بين روسيا والدول السلافية في البلقان (بلغاريا ودول يوغسلافيا السابقة باستثناء كوسوفو).
ولكن، هناك سبب حديث أيضاً؛ إذ تعتبر منطقة غرب البلقان مهمة رمزياً في السياسة الخارجية لبوتين.
فقد نظر الكثيرون في روسيا إلى سقوط يوغسلافيا كمثال للإذلال، حيث تجاهل الغرب وجهات نظر موسك، ورأى عالَم ما بعد السوفييتي لأول مرة "الثورات الملونة".
ولم يتحرر بوتين قَط من استيائه من الطريقة التي فقدت بها روسيا نفوذها في كوسوفو عندما أصبحت مستقلة، حسب الصحيفة، التي اعتبرت أنه استخدم هذا الاستقلال كمبرر لقتال روسيا في أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية في عام 2008 وبشبه جزيرة القرم في عام 2014.
هل سينتقم بوتين؟
وبعد الرد الغربي المشترك على تسميم الجاسوس الروسي السابق سيرغي سكريبال وابنته في بريطانيا، والذي تمثَّل في طرد نحو 150 دبلوماسياً روسيّاً ومسؤول استخباراتي- "تصبح منطقة البلقان أكثر أهمية مما سبق"، بحسب ما أرده مارك جاليوتي، كبير الباحثين بمعهد العلاقات الدولية في براغ.
وقال جاليوتي: "تبحث روسيا عن سبل للانتقام بأسلوب مختلف".
وفي تقرير جديد، صادر عن المجلس الأوروبي بشأن العلاقات الخارجية، يقول جاليوتي إن "روسيا تعتبر منطقة البلقان ساحة معركة في إطار حربها السياسية؛ سعياً وراء خلق اضطرابات وأوراق مساومة محتملة مع الاتحاد الأوروبي".
والحملات الإعلامية في البلقان ليست جديدة على روسيا، فهي تديرها على الأقل خلال السنوات الثماني الماضية، منذ انفصال كوسوفو عن صربيا وإعلان الاستقلال عبر استراتيجية تقوم على خلق تصور لروسيا كقوة عظمى وحليف قوي، مع قليل من الاستثمارات أو التبرعات للدول المعنية، حسب The Washington Post.
"فالروس يستغلون الجزء الأخير من أوروبا الذي لا يزال مضطرباً من الناحية السياسية"، حسب تشارلز كوبشان، الذي كان مديراً لأوروبا بمجلس الأمن القومي خلال فترة حكم الرئيس الأميركي باراك أوباما.
كيف يستغلون أقاربهم في القومية السلافية؟
يتشابه الوضع إلى حد كبير مع أوكرانيا، حيث وافقت روسيا في البداية على إمكانية انضمام كييف إلى الاتحاد الأوروبي -رغم عدم الموافقة على انضمامها إلى حلف الناتو- ثم غيَّرت رأيها؛ ما أدى إلى اندلاع ثورة شجعت موسكو على ضم منطقة القرم وإثارة النزعة الانفصالية شرق أوكرانيا.
وفي منطقة البلقان، يمكن أن تؤدي المنافسة مع روسيا إلى انعدام الاستقرار بالمنطقة، التي لا تزال تتعافى من الحرب الشرسة فيما بين عامي 1992-1995 والتي أدت إلى تفكك جمهورية يوغوسلافيا.
وفي سراييفو، تم محو العديد من آثار الحرب وعودة فندق "هوليداي-إن" السابق، الذي كان ملاذاً للصحفيين بالقرب من سنايبرز آلي خلال حرب البوسنة، إلى العمل. وقد تم ترميم وصقل قاعة المدينة ذات الطراز الموري الجديد، الموجودة بالجزء التركي بالمدينة والتي ترمز إلى تعدد الثقافات والتي كان قد تم قصفها وحرقها من قِبل الصرب.
ومع ذلك، تظل البوسنة والهرسك، وهي الدولة التي استعادت وحدتها عام 1995 في نهاية الحرب، ضعيفة وهشة، يمزقها الفساد والقيادة الضعيفة والتوترات العرقية والقومية بين المجتمعات، كنموذج مصغر لمنطقة البلقان برمتها.
وقال كوبشان إنها إحدى نقاط الدخول الرئيسية التي تسعى روسيا لاستغلالها، حيث يستمر زعيم الإقليم الصربي شبه المستقل بالبوسنة، ميلوراد دوديك، في ممارسة الضغوط من أجل إجراء استفتاء حول الاستقلال.
وتتضمن البلدان الأخرى مقدونيا، حيث يظل التوتر في العلاقات بين العرقين والسلافي قائماً وكذلك بين كوسوفو ذات الأغلبية الألبانية وصربيا السلافية.
لماذا يتشككون في الاتحاد الأوروبي؟
وخشية التدخل الروسي، يعرض الاتحاد الأوروبي إمكانية انضمام البوسنة و5 بلدان أخرى غرب البلقان إلى الاتحاد الأوروبي -وهي صربيا ومونتنيغرو ومقدونيا وألبانيا وكوسوفو- مقابل إجراءات الإصلاح الهيكلي الرئيسية.
ويعد التشكك بين هذه البلدان حول بروكسل بالغاً، حيث يتشكك العديدون في إخلاص الاتحاد الأوروبي، وتحقيق لوعوده بضم دول البلقان، في ظل تصاعد النظرية الشعبوية داخل دول الاتحاد الأوروبي، الذي يشعر بالقلق الشديد بشأن الهجرة والحذر البالغ بشأن قبول انضمام بلدان قبل أن تكون مستعدة لتلك العضوية، بعد تجربة انضمام رومانيا وبلغاريا.
ولا يعتقد أحد أن أياً من تلك البلدان مستعدة للانضمام. ومع ذلك، فإن الحاجة الملحة إلى الإصلاحات قد تراجعت مع تراجع الأهداف، وخاصة هدف الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي.
وذكر رئيس المفوضية الأوروبية، جان كلاود جانكر، منذ 4 سنوات، أنه لن يتم التوسع في عضوية التكتل؛ ما أدى إلى توقف عملية الانضمام.
أصبح الأمر على غرار ما يذكره وزير الخارجية المقدوني، نيكولا دميتروف، كثيراً في حديثه، "كما لو كنت محتجزاً في غرفة انتظار ليس بها أي مخارج".
وقال كارل بيلدت، وزير الخارجية السويدي السابق ومبعوث الأمم المتحدة الخاص إلى منطقة البلقان:"أخطأ جانكر حينما قال إنه غير مهتم بالتوسع. فقد تجاهل الاتحاد الأوروبي الأمر سنوات عديدة؛ ما أدى إلى وقوع آثار ضارة".
هل تكفي الإغراءات لحثهم على الإصلاح؟
ومع ذلك، فمع خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي واستغلال روسيا للتصدعات التي يعانيها الإقليم، يتولى الاتحاد الأوروبي حالياً وضع خطة تفصيلية نسبياً لمنطقة البلقان.
وإذا سارت الأمور كافة على ما يرام، تستطيع صربيا ومونتنيغرو، وهما الدولتان الوحيدتان اللتان تشاركان حالياً في عملية الانضمام، الالتحاق بعضوية الاتحاد الأوروبي بحلول عام 2025.
ويقول جاليوتي وآخرون إنه يتعين على بروكسل أن تمارس سياسة العصا والجزرة، وتقدم حوافز حقيقية للإصلاح المؤسسي وتفرض عقوبات حقيقية على التقصير في تنفيذ تلك الإصلاحات.
ووضعت استراتيجية الاتحاد لمنطقة البلقان الغربية، والتي تم نشرها في فبراير/شباط 2018، 6 مبادرات، وهي: سيادة القانون، والأمن والهجرة، والتنمية الاجتماعية والاقتصادية، وربط وسائل النقل بمصادر الطاقة، وجدول الأعمال الرقمي، وتسوية الخلافات والعلاقات الطيبة بالبلدان المجاورة.
سوف تعقد بلغاريا، أفقر دول الاتحاد والتي تولت رئاسته مؤخراً، اجتماع قمة خاصاً لدول البلقان خلال شهر مايو/أيار 2018.
وستصبح دول البلقان ضمن جدول أعمال المجلس الأوروبي خلال شهر يونيو/حزيران 2018؛ كما تستضيف بريطانيا اجتماع قمة دول البلقان الغربية في يوليو/تموز 2018، أي قبيل انعقاد اجتماع حلف الناتو في بروكسل مباشرة.
لماذا تبدو العضوية بعيدة المنال؟
"حان الوقت للانتهاء من أعمال عام 1989. فقد حددنا عام 2025 كمؤشر لصربيا ومونتينيغرو، وهو تاريخ واقعي، ولكنه طموح للغاية". هكذا قال جوهانز هان، مفوض الاتحاد الأوروبي المسؤول عن التوسع في عضوية الاتحاد.
ويعلق بيلدت، المبعوث الأممي للبلقان، بأسلوب لاذع، قائلاً: "لا نعرف بعد ما إذا كان ذلك واقعياً أم غير واقعي".
ويعتقد البعض أنه تاريخ طموح للغاية؛ نظراً إلى أن التكتل الأوروبي يصر على أن تتولى كل هذه الدول تسوية نزاعاتها الحدودية المتعددة. وهناك أيضاً مشكلات داخلية خطيرة، أقرها تقرير صادر عن الاتحاد الأوروبي.
ومن بين هذه المشكلات، علاقات هذه الدول بالجريمة المنظمة والفساد المنتشر على مستويات الحكومة والإدارة كافة، بالإضافة إلى التعارض الشديد بين المصالح العامة والخاصة.
كما هناك أدلة قوية تشير إلى وجود "تدخل سياسي واسع النطاق وسيطرة على وسائل الإعلام"، والافتقار إلى استقلال السلطة القضائية، وفقاً للتقرير.
وذلك بالإضافة إلى الاقتصاديات غير المنافسة وهجرة الشباب بحثاً عن فرص عمل أفضل وضعف الإمكانات.
لماذا يسارع الأميركيون بالتدخل؟
رغم كل هذه المشكلات، يزداد اهتمام الأميركيين أيضاً. وتنجم مخاوف واشنطن المتجددة بصورة جزئية عن تزايد النفوذ الروسي، بحسب ما ذكره روس جونسون، الذي ذكر أن الكونغرس يطالب حالياً بأن تقدّم وزارة الدفاع (البنتاغون) "تقييماً للتعاون الأمني بين كل من بلدان البلقان الغربية والاتحاد الروسي.
واعتبر مسؤول سابق بالولايات المتحدة -رفض ذكر اسمه- أن دول المنطقة لم تقم بتنفيذ الإصلاحات إلا حينما تعاونت بروكسل وواشنطن معاً في الضغط على الزعماء للتخلص من العادات البالية المتعلقة بالفساد والسيطرة على الدولة وتسييس القضاء ومحاولة الشركات الروسية السيطرة على مشروعات البنية التحتية الأساسية وعلى وسائل الإعلام.
في المقابل، فإن روسيا ترفض التوسع الجديد لحلف الناتو كي يشمل دول البلقان الغربية؛ وقد تورطت موسكو في محاولة انقلاب غريبة بمونتنيغرو عام 2016 قبل أن تنضم الدولة إلى الحلف.
هل يتحولون إلى قناة للنفوذ الروسي داخل الاتحاد الأوروبي؟
|تحاول روسيا أن توطد أقدامها بالمنطقة من خلال التعاون مع الحكومة ورجال الأعمال، حتى حينما تنضم هذه البلدان إلى الاتحاد الأوروبي، تجلب معها النفوذ الروسي"، هكذا يفسر مارك جاليوتي، كبير الباحثين بمعهد العلاقات الدولية في براغ، نهج موسكو بالمنطقة.
وتعد تلك الاستراتيجية مماثلة لما تفعله الصين وروسيا مع اليونان وقبرص، حيث يمكن غسل الأموال الروسية وتحويلها إلى عملة اليورو، حسب The New York Times.
وتشارك روسيا في وسائل الإعلام التي تُبث باللغة المحلية، وذلك من خلال كل من المواقع الإلكترونية التي يمتلكها الكرملين مثل "سبوتنيك"، والبرامج التي تتناول المظالم والشكاوى المحلية.
ويشير بيلدت، بصفة خاصة، إلى الاستثمار الروسي في البنية التحتية الصربية، مثل الطاقة.
ورغم أن الاستثمار الروسي ضعيف مقارنة باستثمارات بلدان الاتحاد الأوروبي، فإن الصربيين يحظون بتقارب طبيعي مع إخوانهم الروس الأرذوكس، وتتذكر صربيا الدعم الذي قدمته روسيا لها خلال حرب كوسوفو.
وتساءل جاليوتي: "هل يتأثر الاتحاد الأوروبي بما يحدث في صربيا؟"، ويعتقد أن الإجابة بالنفي، قائلاً : "تتمثل سياسة الاتحاد الأوروبي بصفة عامة، في دعم كل ما يحافظ على هدوء دول البلقان الغربية. فالأمر خطير للغاية، ويخلق البيئة المثالية كي تلعب موسكو دورها".
هل انضمامهم أصلاً أمر صحيح؟
ومع ذلك، لا ترغب أوروبا في استيراد المزيد من المشكلات. وقال نوربرت روتجين، رئيس لجنة الشؤون الخارجية بالبرلمان الألماني: "يتمثل الجدل في أن قبول انضمام دول البلقان هو الوسيلة الوحيدة لضمان تحقيق الاستقرار. ولكن هل هذا صحيح؟".
وأضاف: "إذا ما قبلنا عضوية دول ضعيفة بالاتحاد الأوروبي، فإننا نتقبل الضعف. وإذا ما توصلنا إلى تسوية مشروطة، فإننا نسمح بانضمام بلدان ضعيفة تخضع لنفوذ أجنبي؛ ومن ثم، يتعين أن نكون صارمين في اشتراطات قبول العضوية".