حين كانت نجاة الكماميس، ربة منزل في العاصمة العراقية بغداد، تعتني بزوجها المُعلِّم وأطفالها، كانت تقضي الكثيرَ من الوقت في حديقتها.
كانت تُربي الدجاج الذي كان يمُدُّها باللحوم والبيض، ويتكاثر بين نباتاتها وأشجار الكركديه والفستق والبامية والباذنجان، التي كانت تزرعها. لذا قالت: "لم أكن أشتري شيئاً من الخارج. بل كنت أصنع كلَّ شيء بنفسي من المُخلَّلات إلى المعجنات".
لكنَّ هذه المعيشة الهادئة انتهت، حين فتحت نجاة (72 عاماً) مظروفاً في مكتب البريد كان يحتوي على رصاصةٍ وقائمةٍ مكوَّنة من عدة أسماء، تضم ابنها الذي كان يبلغ من العمر 18 عاماً آنذاك، مع ملاحظةٍ مكتوبة من كلمتين: "غادِروا وإلا".
ثم بدأت المأساة بعد ذلك، ففي عام 2007، تعرَّضت نجاة وزوجها لضربٍ مُبرح في منزلهما على أيدي رجال مُلثَّمين، واختُطِف صهرها (الذي يُفترض أنَّه ميت لأنَّ مكان وجوده لا يزال مجهولاً)، وقُتِل زوج أختها. وفي العام الماضي، قُتِلت شقيقتها وابن شقيقتها رمياً بالرصاص في الشارع.
لذا فرَّت العائلة بحياتها، وتشتَّت شملها في أنحاء العالم، إذ وجدت نجاة واثنتان من بناتها ملاذاً في أستراليا، بينما ذهبت ابنتان أخريان إلى السويد، وانتهى المطاف بابنها في أميركا. ومع عدم وجود حق في السفر، لم تر نجاة التي صارت أرملةً أبناءها منذ افتراقهم عنها.
ما يقتلني هو عجزي!
وقالت نجاة وهي تمسح دموعها وتضرب ساقها بيدها من خيبة الأمل، مع صدور صوت خشخشةٍ من سوارٍ ذهبي في يدها مُزيَّن ببطاقاتٍ تحمل اسم كل طفل من أطفالها: "قبل أن يتوفى زوجي، طلب مني الاعتناء بابننا. ما يقتلني الآن هو عجزي عن تنفيذ وصيته".
ووجدت ملاذاً إلى حدٍّ ما لكل آلامها، التي ظهرت في كلامها حين قالت: "آكل وأنا أبكي، وأنام باكيةً"، وجدته في حديقةٍ مجتمعية بضاحية فيرفيلد غربي مدينة سيدني الأسترالية، حيث تعيش. وقالت نجاة التي لا تستطيع التحدُّث بالإنكليزية على الإطلاق، إنَّها تزرع الخضراوات والفاكهة وتحصد الثمار، ثم تأخذ جزءاً منها إلى منزلها وتبيع الجزء الآخر لكسب بضعة دولارات.
تُعَد نجاة واحدةً من العديد من اللاجئين الذين يحضرون مشروع Parents Café الاجتماعي، المُقام في أراضي مدرسة فيرفيلد الثانوية. وستغني هذا الأسبوع أغنيةً عراقية مع العديد من المؤدِّين الفنيين، في أمسية Little Baghdad: Cafes and Gardens أو "بغداد الصغيرة: مقاهٍ وحدائق" التي تنظمها فرقة Powerhouse Youth Theatre في فيرفيلد، وهي الفرقة نفسها التي نظَّمت عرض Jump First, Ask Later لرياضة الباركور في دار الأوبرا بسيدني، وعرض Tribunal في مهرجان سيدني.
وتُعَد الأمسية التي تُقام يومي 16 و17 ويومي 23 و24 من مارس/آذار عبارة عن حفل عشاء عراقي. والضيوف مدعوون للجلوس على سجاد عربي في الحديقة، حيث سيُسَلَّون ببعض القصص. وفي هذه الأثناء، سيُلقي بعض الشعراء قصائد في كوخٍ طيني (يشبه المساكن التي عادةً ما توجد في المناطق الريفية بالعراق)، وستشهد الأمسية كذلك تقديم خبز ساخن محلي الصنع مخبوز في فرن الحديقة، وسيعزف بعض عازفي الكمان مقطوعاتٍ موسيقية، ثم تُختتم الأمسية برقصة الدبكة العربية الشعبية.
الطعام استراتيجية لتجميع الناس
وقالت كارين تيريز، المديرة الفنية لفرقة Powerhouse Youth Theatre في أثناء التدريبات على العرض: "الفكرة من الأمسية هي أن نقول إنَّنا عشنا هذه القصص، ولكن لا تشعروا بالحزن لأجلنا". فالمؤدون الذين يرتدون عباءات ذات تصميمات معقدة، وعصابات رأس مُخيَّطة على أيدي بعض النساء يقرعون الطبول، ويضربون الأرض بأقدامهم وهم يضحكون.
وتريد كارين تنظيم محادثات من أجل السماح لسكان سيدني الأصليين بمقابلة لاجئين، وإظهار أنَّ هؤلاء اللاجئين موضع تقدير واحترام، على الرغم من التغطية السلبية عنهم.
وقالت كارين بشيءٍ من الحسرة: "يظهر الساسة على شاشات التلفزيون ويقولون: "لا نريد اللاجئين!"، ولذا لن يتفاعل الكثير من اللاجئين مع الأستراليين الآخرين، اعتقاداً منهم أنَّ الأستراليين لا يحبونهم ولا يريدونهم في أستراليا".
وأضافت أنَّ الطعام "استراتيجيةٌ" لتجميع الناس. وقالت: "تكمن الفكرة في احتساء كوب من الشاي مع شخص غريب وفهم ثقافته، بينما تسقط كل الحواجز والمخاوف من المجهول".
ومن الأهمية بمكان أنَّ المهاجرين العراقيين الذين يُشكِّلون جزءاً كبيراً من سُكَّان فيرفيلد (التي تُعرَف أحياناً ببغداد الصغيرة) سيكونون من بين الحضور كذلك. وفي هذه الأثناء، سيمزج الترفيه المُقدَّم إلى جانب التبولة والفلافل والبقلاوة بين التراث والعصر الحديث، في صورة شعر وفنٍ حضريين. أو كما قال المُنسِّق المشارك جيفا بارثيبان إنَّها "مساحةٌ مشتركة".
ومع ذلك، ثمة مخاوف مُلحة تحيط بإقامة الأمسية، فمشروع Parents Café – الذي انطلق في عام 2010 وأشاد به مفوض الأمم المتحدة السامي لشؤون اللاجئين واصفاً إيَّاه بأنَّه نموذجٌ يُحتذى به في دمج المهاجرين في المجتمعات- مُهددٌ بالإغلاق. وإذا لم يتمكن هيثم جاجو مؤسِّسه ومديره من الحصول على تمويلٍ إضافي بقيمة 150 ألف دولار، سيضطر إلى إغلاقه في غضون الأشهر الثلاثة المقبلة. وسُلِّمت بالفعل رسائل إنهاء المشروع للموظفين.
جديرٌ بالذكر أنَّ إغلاق المشروع يُمثِّل كارثةً لمن يعتمدون عليه. فمشروع Parents Café ليس مقهى فعلياً (وإن كان العراقيون يذهبون إليه لتبادل أطراف الحديث واحتساء الشاي، بل يكمن هدفه الأساسي في بناء المجتمع وتعليم البالغين الوافدين حديثاً من الدول التي مزَّقتها الحرب، فبالإضافة إلى احتوائه على الحديقة ومطبخ تجاري ومشروعات مزدهرة لتقديم الطعام، يوفِّر ورش عمل في كل شيء، من تعلُّم اللغة الإنكليزية إلى الخياطة ومهارات الحاسوب.
من دبلوماسي إلى عامل
ويدرك جاجو (51 عاماً)، الدبلوماسي العراقي السابق -الذي طلب حق اللجوء مع زوجته وأطفاله الثلاثة في عام 2006- معنى الوصول إلى بلدٍ جديد بلا أي شيء. فبعدما كان دبلوماسياً حكومياً في وطنه، دفعته الظروف في أستراليا إلى العمل في سلسلة متاجر وول ورث، حيث كان يقضي وردياتٍ ليلية في رصِّ البضائع على الأرفف. وأسَّس مشروع Parents Café سعياً لتقليل شعوره بالعزلة العميقة.
وقالت كارين: "اللاجئات اللاتي لا يتحدثن باللغة الإنكليزية لا يستطعن حتى الخروج من منازلهن وركوب الحافلات (حتى أصغر المهام تكون معقدة جداً بالنسبة لهن). ومن ثَمَّ، يُعَد ضمُّهن إلى مجموعةٍ يشعرن فيها بالأمان بدلاً من الجلوس في المنزل تحت خط الفقر أمراً مهماً. لم يستطع القائمون على المشروع تسميته "خدمة دعم النساء"، لأنَّ ذلك كان سيُنفِّرهن من المجيء، فهُنَّ نساءٌ ذوات قدرٍ كبير من الكبرياء. لذا أطلقوا عليه مقهى، فجاءت جميع النساء".
وقال جاجو، إنَّ اختيار إحدى المدارس لتكون مكاناً للمشروع كان خطوةً متعمدة كذلك؛ فبينما لا يثق اللاجئون بالضرورة في منظَّمات أخرى، "يعرفون ماهية المدارس، فهي مألوفةٌ بالنسبة لهم". وبينما يجد الأطفال أنَّها أسهل في استيعابها، غالباً ما يجد الآباء صعوبةً في ذلك.
وتُصِر ليلى ناجي -المهاجرة العراقية الجادة التي ستؤدي دور الراوي في الأمسية وتعمل في مجال توظيف ذوي الاحتياجات الخاصة- على أنَّ مشروع Parents Café يُمثِّل "أسلوب حياة وطريقة عمل ووسيلة للدخل" وأضافت: "فالناس مُصابون بصدمةٍ من الحرب، وهذه طريقةٌ لإخراجهم من اكتئابهم وقلقهم. نحن نسعى لتغيير حياة الناس".
ولا تزال نجاة تشعر بأنَّها بعيدةٌ عن أسرتها. لكنَّها قالت: "إنني أشكر الله ثم أستراليا، شكراً كثيراً لأنني هنا الآن". وصحيحٌ أنَّ فيرفيلد ليست كالعراق، وأنَّ حديقة مشروع Parents Café ليست مملوءة بأشجار الرمان كما كانت حديقة بيتها في بغداد. لكنَّها قالت إنَّها على الأقل "لديَّها أنشطةٌ تملأ يومها". وأضافت: "إنني أحب الحديقة كما لو كانت معبدي"